[الجزء الثالث] البارت السابع (٧)

151 13 0
                                    

"هوزيه.. هوزيه.. هوزيه.."

لم يكن ميندوزا صاحب النداءات هذه المرة. كانت والدتي؛ عبر
الهاتف» في اتصال تلقيته بعد متتصف الليل» تبكي, وتتعثر بلفظ اسمي:

- هوزيه.. هوزيه..!

تلتقط أنفاسها. تستجمع الحروف لتكوّن كلمات تصيغ الخبر:

- قبل قليل.. مات أبي!

واصلت بكاءها.. انتَحَبَتُ.. تعالى نحيبها:

- احضر حالا.. يجب أن تكون هنا!

***

على ظهر المركب كنت» في رحلة الدقائق العشر بين جزيرتي
بوراكاي وكاتيكلان» بصحبة الشباب الكويتيين إياهم. لم أكن وقتثذ
ذلك الفتى الذي يقف في مقدمة المركب. كنت أحد مغادري الجزيرة»؛
وان كنت أحسبها مغادرة مؤقتة لا تتجاوز الأسبوع كإجازة من دون
راتب.

الكويتيون كما هم. مرحهم. أغنياتهم. ضحكاتهم والمقالب التي
يدبرونها لبعضهم. هم بالجنون نفسه»؛ في المنتجع؛ في المركب» وفي
الطائرة.

تنظم شركات الطيران؛ عادة؛ في رحلاتها الداخلية؛ بعض الأنشطة
الترفيهية للركاب. يقيم طاقم الطائرة مسابقات خلال الرحلة. يسألون
أسثلة ثقافية عامة» ويقدمون الهدايا الرمزية للفائزين من الركاب. ولكن»
في تلك الرحلة» ومع الشباب الكويتيين» وجد طاقم الطائرة أنفسهم في مأزق» حيث أن أحدا لم يلتفت إليهم وإلى أنشطتهم الترفيهية تلك.
انصرف الجميع إلى أولئك المجانين» بأغنياتهم وتصفيقهم بطريقتهم
التقليدية المدهشة. صاحب الآلة الموسيقية يعزف ألحانا سريعة» والبقية
يغنون بعد أن وقف أحدهم في منتصف ممر الطائرة يشرح للركاب:

- سيّداتي.. سادتي..

يشير إلى أصحاب المقاعد في جهة اليمين:

- أنتم تصفقون هكذا..

يهم بالتصفيق شارحا الطريقة.

- تك.. تك.. تك.. بهذا الإيقاع..

يلتفت إلى الركاب عن يساره:

- وأنتم.. تصفقون بهذا الإيقاع: تك تك تك.. تك تك تك.. هل
هذا واضح؟

عاد إلى مقعده؛ قال بصوت عال:

- واحد.. إثنان.. ثلاثة.. الآن!

أي جنون هذا الذي أضفاه الكويتيون على هذه الرحلة؟! الوجوه
الباسمة.. الضحك.. كاميرات الفيديو تسجل كل شيء.. الكاميرات
الفوتوغرافية..

وأناء في غمرة فرحي؛ نسيت أن عزاء يقام في كنيسة الحيّ القريبة
من أرض ميندوزا. لم أشعر بحزن لفقدان جدّي» ولكن الحزن الذي
انتابني بعد أن حطّت الطائرة في مطار الرحلات الداخلية؛ كان بسبب
أولتك المجانين الذين عزموا على الرحيل إلى بلاد أبي.. من دوني.

عند بوابة المطار» كنت أهمّ بركوب سيّارة أجرة. أحدهم ينادي:
"ىا عسى!: لم يلفت الاسم انتباهي. مزيج من الأصوات. أبواق
السيارات وضجيج محركاتها.. أصوات البشر في الزحام.. وأصوات

أخرى داخل رأسي.

أمسك أحدهم بكتفي:

- أليس اسمك عيسى؟!

كان الشاب صاحب الكأس. أجبته:

- بلى.. سيّدي.

أشار نحو أصدقائه داخل سيارة فان قريبة. ينظرون إليّ من خلف
زجاج النافذة بوجوه باسمة:

- أصدقائي.. وأنا..

تردد قبل أن يقول:

- ذاهبون إلى مطار نينوي أكينو الدولي.. لنعود» من هناك» إلى
الكويت.

مذّ يده إليّ بأوراق نقدية كثيرة:

- لن يسعفنا الوقت لصرف هذه الأموال.. انها لك..

- ولكن.. هذا كثير.. سيّدي!

لم يلتفت لما قلت. حدّق فى وجهى. قال:

- لست متأكدا من صحة ما تقول.. كونك كويتيا.. ولكن..

صمت قليلا. وددت لو أقسم له بأن والدي كويتي.. وأني وُلدت
هناك ولدي أوراق تثبت ذلك. تركته يكمل ما أراد قوله:

- ولكن» أيا كنت يا هذاء لا تفكر بالسفر إلى هناك بصفتك هذه.

أدار لي ظهره عائدا إلى أصحابه في السيارة. نظرت إليهم والمال
في يدي» والحيرة في وجهي. وقبل أن يركب سيارة ال فان» التفت إليّ
قائلا:

- ابقّ هنا يا صديقي.. واشرب ال ريد-هورس..

- أشربه هناك..

162
‏:10167ن‎ 1-٠

قلت له والدهشة تتملكني. قال قبل أن يغوص بين أصدقائه
المتكدسين في السيارة:

- ال ريد-هورس هناك.. لن يقبل وجودك.. سيهرسك تحت
حوافره يا صديقي.

ضغط بقدمه الأرض كأنه يسحق عقب سيجارة قبل أن ينصرف
يسحب الباب الجزّار للسيارة. وفي حين كانوا يتعدون بين الزحام أطل
صاحب الآلة الموسيقية من النافذة الجانبية» وصاح بصوت عال جعل
الناس تلتفت نحوي:

- لا ندري ماذا قال لك هذا المخمور، ولكن. عد للكويت ان كنت صادقا بما تقول.. لك. هناك حقوق كثيرة..
الناس تنظر إلىّ. صاحب سيّارة الأجرة يطلب منى الركوب.
صاحب الكأس» من خلال زجاج النافذة الخلفية لسيارة ال فان، يهزّ
رأسه؛ ويحرك سبّابته ولسان حاله يقول: "إياك أن تفعل!".
اختفت السيّارة بين الزحام. اختفى المجانين» تاركين لي مبلغا كبيرا
من المال» وحيرة أكبر ضاق بها رأسي.
***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن