[الجزء الثاني] البارت الثالث (٣)

306 19 0
                                    

     تغيّرت معاملة جدّي لوالدتي منذ ذلك اليوم. رغم غضبه، أبدى لها إحتراما لم تألفه قط. وعلى الرغم من خذلانها إياه بعودتها تحمل طفلا فإنها كانت متزوجة. كانت أمي هي الأقرب بالنسبة إليه، وإن أبدى عكس ذلك أحيانا فهي التي كانت تعتني به، وتعامله، مهما قسا عليها، كأب. كانت تحضّر له الطعام وتعتني بنظافة بيته الصغير. كما أنها كانت تعطيه نصف ما يرسله لنا أبي من الكويت رغم حاجتنا، أنا وهي، لهذا المال.

     تقول أمي: "حاولتُ بقدر الإمكان أن أتعايش مع جدّك، كما كانت جدّتك تفعل. فهو عصبّي المزاج لأنه كان عسكريا، وقد مر بظروف قاسية في شبابه كما تقول جدّتك. وما إدمانه على المراهنات مصارعة الديوك هذه إلا شكل من أشكال التنفيس عن الغضب، وربما هي محاولة الإنتقام من خصوم الأمس من خلال الفتك بالديوك  المنافسة!". تبتسم أمي. تستطرد: "علينا، نحن النساء، فهم مزاج الرجل وإيجاد مبررات لأفعاله، وعلى ذلك نتعامل مع أخطائه ونحتمل، لا لشيء سوى المحافظة على ما هو أهم منه".

     تضحك قليلا ثم تواصل: "لو حاولت مقاومته لنتهى بي المصير بما انتهت به آيدا.. أمشي، بملامح جامدة، وعينين خاليتين من التعبير، نحو وجهتي مباشرة كالقطار، ودخان الماريجوانا ينبعث كثيفا من منخريّ".

     لم يُجد أحد التعامل مع جدّي سوى أمي، فالتعامل مع ميندوزا يعني أن تتعامل مع رجال عدة، لكل منهم أسلوبه وذوقه بل وحتى تفكيره. لست أدري ما يميّز والدتي عن الجميع، أهو صبرها أم ذكاؤها؟

ميندوزا، شخصية عجزتُ عن فهمها طيلة سنوات بقائي هناك. أحتار في إدراك شخصيته الحقيقية بين تلك الشخصيات التي تتناوبه، هو رواية بحد ذاته. تقول والدتي: "إذا ما صادفت الرجل بأكثر من شخصيته، فاعلم أنه يبحث عن نفسه في إحداها، لأنه بلا شخصية!". أظنها مخطئة، لأن ميندوزا، على كثرة شخصياته، كان يملك شخصية حقيقية لا يكشفها سوى التوبا⁷ إذا ما تجرّعه ليلا، وهو لا يحاول، بتلك الشخصيات، سوى إخفاء شخصيته تلك. كان يبكي بكاء مكتوما، إذا ما بدأ الشراب بفعله، "أنا ضعيف.. أنا وحيد..". كنت أستمع إلى هذيانه ليلا.

     في عام ١٩٦٦ انضم جدّي إلى صفوف الجيش الفلبيني المتحالف، آنذاك، مع كوريا الجنوبية وتايلاند وأستراليا ونيوزيلاندا بقيادة الولاية المتحدة ضد فيتنام الشمالية، في حرب فيتنام. كان من ضمن الجنود المشاركين في دعم الخدمات الطبية والمدنية هناك. تقول والدتي: "في جبال فيتنام، سلب الثوّار الموالين لشمال إنسانية أبي. لم يخبرنا بما رأى قط، ولكن، لا بد أنه مر بها لا يمكن وصفه، ليعود قبل إنتهاء الحرب بهذه الصورة التي تراه عليها". كنت، عندما كبرت، أكره جدّي بشكل فضيع وأتمنى له الموت رغم تبريرات أمي. وكنت إذا ما شكوت لها قسوته، تقول: "كنا، أنا وآيدا وبيدور، مثلك. نشكو قسوته عند جدتك إذا ما ثار في وجوهنا غاضبا، ولكنها كانت، دائما، تقول: "انها الحرب، لا تزال تشتعل في داخله".

     عاد جدّي إلى منزله في عام ١٩٧٣ وهو لا يملك سوى ذكرى معاناة نجهلها، وراتب شهريا يقدّر ب أربعة آلاف وخمسمئة بيزو⁸ خصصته له الحكومة الأمريكية، يتقاضاه مدى الحياة.

[(⁷) توبا: شراب كحولي محلّي يتم تحضيره من عصارة ثمرة جوز الهند]
[(⁸) بيزو: ما يعادل، في هذا الوقت، حوالي ١٠٠ دولار أمريكي]

لا يُحسب هذا المبلغ ضمن مدخول العائلة، فالأربعة آلاف وخمسمئة بيزو تعني شراء ديك جديد كل شهر، وإما أن يُقتل من قِبَل ديك أشد شراسة، وهو ما يعني خسارة راتب شهر، وإنا أن يتغلب على الديك منافس، ليربح جدّي الرهان، ويشتري بثمن الربح ديكا آخر. أما ما يتبقى له من مال فيُصرف في شراء أعلاف هذه الديّكة وما تحتاجه من حبوب منشّطة وفيتامينات باهظة الثمن، وفي تلك الحالتين تتطاير الأموال مع ريشة الديّكة المتصارعة في حين لا يملك أحد من أفراد العائلة حق الإعتراض. كان العزاء الوحيد في حال فوز ديك جدّي هو عودته إلى البيت حاملا بين يديه قفصا يضم ثلاث ديوك.. الديك الرابح.. الديك الجديد.. والديك الخاسر، والذي عادة ما يكون ميتا أو يوشك أن يموت، ليكون وليمة للعائلة الجائعة.

                              ***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن