[الجزء الخامس] البارت الثامن عشر(١٨)

125 12 0
                                    

تركت ورقة خس وسط غرفة إبراهيم أنتظر إينانغ تشولينغ التي
أهملت إطعامها منذ مدة. لم تظهر. ليس من عادتها الصوم طويلا. تسلل
القلق إلى أعماقي. أسفل طاولة الكمبيوتر وجدتها متييسة داخل صَدّفتها
المشروخة.

ماتت إينانغ تشولينغ. تلك الصامتة؛ المستمعة الصابرة التي لا
تشكو قط. كم كان حزينا ذلك الصباح. يا الله.. أنت وحدك تعلم كم
إبراهيم من العمل شاهد الحزن على وجهي. لم أخبره بأمر سلحفاتي
حين سألني. ما فائدة الحديث في أمر لن يفهمه. تركته في الغرفة هاربا
إلى الحمام. فتحت صنبور المياه ودش الاستحمام» انفجرت باكيا غير
قادر على كتم صوتي. طرق إبراهيم باب الحمام بعد أن تنبه لشهقاتي:
"أخي! هل أنت على ما يرام”. حاولت قدر استطاعتي أن يبدو صوتي
طبيعيا: "نعم أنا بخير.. ولكن الماء بارد.. أخي".

كيف لسلحفاة أن تترك بغيابها كل هذا الفراغ؟ ليس لها صوت
أفتقده.. ولا حضور دائم وهي المعتزلة لكل شيء ملتحفة صدفتها منكفأة
على نفسها تحت الأرائك. لم أفقد بغيابها سوى وجودي؛ وصوتي الذي
ما كنت أسمعه سوى أثناء حديثي إليها.. و.. أوراق الخس في ثلاجتي.

ماتت إينانغ تشولينغ أكثر من احتمل مزاجي المتقلب.. حزني
وغضبي وشكوتي. ماتت رفيقتي في غرفة إبراهيم بعد أن شاركتني
ضياعي في غرفة الملحق في بيت ماما غنيمة وشقتي الواسعة في
الجابرية.

يا لهذه الوحدة! الكويت توصد أبوابها الأخيرة.. وأنا الذي حسبتني
منها. شعرت فجأة أن هذا المكان ليس مكاني» وأنني كنت مخطنا لابد
حين حسبت ساق البامبو يضرب جذوره في كل مكان.

يبدو أنني قرأت مقولة ريزال بشكل مغاير لما كان يعنيه إذ يقول
"ان الذي لا يستطيع النظر وراءه؛ إلى المكان الذي جاء منه؛ سوف لن
يصل إلى وجهته أبدا". آمنت بمقولته كما لو أنها نبوءة. حسبتٌ الكويت
مكانا جثت منه حين وٌلدت فيه؛ ليكون وجهتي التي قررت الوصول
إليها بعد غياب» ولكن.. حين نظرت ورائي لم أجد سوى الفلبين..
مانيلا.. فالنسويللا.. أرض ميندوزا.

ضاقت الكويت فجأة.. أصبحت بحجم غرفة إبراهيم سلام..

تذكرت كلمتهم المتداولة.. الكويت صغيرة.

.***

كان يوما مملاء كسائر أيامي. أسندت جهاز اللابتوب إلى ساقي
أتحقق من وجود رسالة ميرلاء ولكن. لا شيء سوى رسائل أمي
والإعلانات التجارية المزعجة.

تراها قرأت رسائلي؟ كنت أتساءل» آء لو كنت أعرف.

ولكنني..!

أستطيع أن أعرف!

تذكرتٌ أمرا ما هزّني من الأعماق. أيني منه كل ذلك الوقت؟!
ألستٌ أنا من قام بفتح حساب البريد الإلكتروني لميرلا؟ وأنا.. أنا الذي
اخترت لها رمز الدخول. ماذا لو لم تقم باستبداله برمز آخر؟ سأتمكن
من التحقق من ذلك بنفسي؟

انتقلت بمتصفح الانترنت إلى صفحة البريد الإلكتروني. قمت
بإدخال بيانات ميرلا اسم الدخول والرمز السرّي الذي قمت باختياره.نقلتني المفاجأة إلى صندوقها الوارد! تسارع خفقان قلبي. عشرات
الرساثل ظاهرة أمامي. رسائلي بعناوينها التي اخترت.. رسائل ماريا
ورسائل أخرى كثيرة. والمهم في الأمر أن الإشارة أمام رسائلي ورسائل
ماريا تظهر باللون الأبيض» ما يدل على أن أحدا قد قام بفتح الرسائل
لقراءتها بعكس الرسائل الأخرى التي تظهر إشاراتها باللون الأصفر. هذا
يعني أن ميرلا.. ميرلا لا تزال!

شعرت بالنبض في صدغيٌّ. وجدتني, بأصابع مرتعشة. بالكاد
تضغط على أزرار لوحة المفاتيح» أكتب لها رسالة.. أنتظر ثم أتحقق من
حالتها. لا تلبث الرسالة فى بريدها أكثر من ساعات قليلة حتى تتحول
الإشارة من اللون الأصفر إلى الأبيض.

دموعي التي لم تنحدر حزنا على غياب ميرلا سالت بسخاء فرحا
بعودتها.. تطفر من عينيّ كلما تحولت الإشارة الصفراء إلى بيضاء تؤكد
لي أن ميرلا.. هناك.

راقت لي اللعبة. أرسل رسالة تحمل كل ما أود قوله لابنة خالتي
الحبيبة. يوم تلو الآخر.. تتحول الإشارة.. يزداد يقيني بأنها في مكان
ما تقرأ بوحي.

** *

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن