[الجزء الثاني] البارت التاسع (٩)

247 16 0
                                    

     انتهت الحرب في بلاد أبي في فبراير 1991، وبالرغم من انتهائها لم تردنا منه أي رسالة. اتصلت والدتي بمنزل جدتي مرات عدة، ولكنها لم تكن تحصل على شيء سوى الشتائم والصراخ اللذين يسبقان النغمة المعتادة: طوط.. طوط.. طوط! أوصت ممن يعملن في الكويت بتتبع أخبار أبي، إلا أن خبرا واحدا عنه لم يردها. سألت عنه في سفارة بلده في مانيلا، ولكن لا تجاوب من قبل العاملين فيها. انتظرت طويلا، ولكنه كان قد اختفى
      كان أول الشامتين، كما تقول والدتي، هي خالتي آیدا:
      - هم هكذا الرجال.. كلهم أوغاد!

      منذ ذلك اليوم أصبحت والدتي ترد بعبارتها الأثيرة: "إلا راشد". مرت الأيام تلو الأيام، ولم يتزعزع إيمان أمي بعودتي يوما إلى بلاد أبي، وإن لم تردها رسالة أو خبر عنه.

أما جدّي میندوزا، فقد أصبح، رغم سنّي الصغيرة، يجاهر بعدائه لي:

      - لو كان ثمة خير من وراء هذا الصبي لما تخلّى عنه أهله هناك..
     تلتزم أمي صمتها. يواصل:

     - لو كان أكبر من ذلك لتمكنا من الإستفادة منه
كانت أمي في أول شهور حملها من ألبيرتو في ذلك الوقت. وما إن أنجبت أدريان، حين بلغتُ منتصف الثالثة من عمري. قررت أمي الاستقرار في منزل زوجها، بعد أن كانت إقامتها فيه لا تتجاوز الشهور الأربعة، في فترة إجازته التي يقضيها في الفلبين. قليلا ما تزورنا في بيتنا، إما للسؤال عني، أو لإعطاء جدّي شيئا من المال، أو لتنظيف منزل اينانغ تشولينغ كل أسبوع.

     لم تستقر أمي طويلا، مع تزايد احتياجاتنا، حتى شرعت في التفكير بالسفر من جديد. وبعد أن بلغ أدريان شهره السادس سافرت أمي للعمل في البحرین، لتركني وأخي الصغير في رعاية خالتي آیدا لثلاث سنوات.

     ما الذي، سوى الفقر، يدفع أما لترك أطفالها لدى إمرأة استبدلت حمرة عينيها ببياضهما بسبب إفراطها بتدخين الماريجوانا؟!

     تقول أمي في رسالة بعثتها لخالتي آیدا بعد مرور سنة على سفرها:
كيف أنت يا مجنونة؟

و كيف حال الولدين؟
     أرسلت لكم قبل ساعات راتبي كاملا، أرجو ألا يصل شيء منه لأبي. وأن نتقاسموه، هوزيه وأدريان وأنت وميرلا. وسوف أحاول أن أدخر شينا من المال لأساعد بیدرو في بنائه الجدید.

     هاتفني ألبيرتو منذ أيام، أخبرني بأنه سيعود بعد أسابيع قليلة. أرجو أن تقومي بتنظيف منزله قبل عودته، ولا تنسي أن نجملي له أدريان كل يوم فألبيرتو، كما تعرفين، لا يحبذ زيارة بيتنا حيث مضايقات أبي وإلحاحه الدائم بطلب المال. لا أريد أن أخسر هذا الرجل.. وإن كان كل الرجال أوغادا.

     أخبري هوزيه بأني أفتقده كثيرا، وأنا أعمل في أرض قريبة من أرض ابيه. ليتني أستطيع أن أعبر البحر سباحة لألتقي براشد، أو لأعرف مصيره
الأطمئن على مستقبله، مستقبل هوزيه.

      أنا في حال جيدة. ليست البحرين مثل الكويت بمستوى المعي أن العائلة التي أعمل لديها ميسورة الحال، فإن البعض فقراء.. بسطاء. يعمل البعض هنا في كل شيء، يغسلون السيارات ويحملون الحقائب في الفنادق ويبيعون في المحال التجارية، حتى أن مخدومتي نتقاسم معي اعمال البيت في أحيان كثيرة. احببت الناس كثيرا.
     الناس طيبون. أخبري هوزيه بذلك. يبدو أن الطيبة هي السمة الأبرز الفقر. ليس الفقر هنا كالذي كنا نعيشه، ولكنه في أفضل حالاته بالنسبة للبعض، فقر.

      قولي ل هوزيه إني أحبه وأشتاقه كثيرا، وقبّلي، بالنيابة عني، أدريان.
                                                    جوزافين

                                                  مارس 1993

     قالت لي آيدا إن أمي تحبني.. تشتاقني كثيرا..

     لا أتذكر ذلك، فقد كنت في الخامسة، ولكنها حتما فعلت..

      هل قبّلت أدريان؟ وهل شعر أدريان بقبلة أمي عبر شفاه آیدا؟ لو أن رسالتك يا أمي جاءت قبل موعدها..

                                ***

     في تلك السنة، كان خالي بيدرو قد فرغ من بناء منزله الجديد، في أرض میندوزا، كما قام بشراء سيارة مستعملة، بعد أن تمكن من العمل بوظيفة سائق سيارة نقل كبيرة، بأجر يومي، لدى أكثر من شركة. وهذا له فضل كبير في أن تصبح لي، بعد سنوات، غرفة مستقلة في البيت، بعد أن تركه خالي بيدرو. غرفة احتضنت حياتي في بلاد أمي. غرفة صغيرة، بجدران زرقاء، تحتوي على سرير ومروحة سقف ونافذة تطل على نافذة غرفة جدي في بيته الصغير. تفصل بين النافذتين مساحة صغيرة لا تتجاوز المترين، يمر خلالها ذلك المجرى المائي الذي نمت على ضفتيه أشجار البامبو بسيقانها الدقيقة. لم يكن هناك ما يعكر صفوي، إذا ما كنت في غرفتي، سوى هذيان جدي، تحت تأثير التوبا، متسللا . نافذته ليلا إلى نافذتي، أو نداءاته النهارية الدائمة:

هوزیییه!

***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن