[الجزء الرابع] البارت الثاني (٢)

174 12 0
                                    

كان من المفترض أن يذهب بي غسان. فور خروجنا من المطار»
إلى منزل جدّتي غنيمة» هذا ما قاله لي» ولكن» والحالة حداد؛ والنفسيات
مرهقة؛ والأهم من ذلك» مزاج جدّتي في ذلك الوقت. كيف ستقبل
مجيشي إلى الكويت في الوقت الذي توفي فيه الأمير؟ ألا يكفي ما
سبيناه أنا وأمي من قبل؟ وصول أمي وقت تفجيرات الموكب الأميري
في منتصف الثمانينيات» ولادتي واختطاف الطاثئرة» سفرنا والافراج عن
ركابها! "وجودك؛ في هذا الوقت تحديداء يؤكد فكرة لعنة جوزافين التي
تؤمن بها الخالة غنيمة"» قال غسان. ولهذا السبب» تأجل لقائي بجدّتي
إلى الشهر الذي تلا وصولي.

ارتياحي لغسان وثقتي به لم يعيناني على الارتياح للمكان الذي
يسكن. شقة صغيرة؛ في منطقة الجابرية» ذات الاسم تحمله الطائرة
التي اختطفت قبل سنوات؛ والتي كان غسان على متنها ووليد. وكلا
الاسمين يعود إلى جابرء الاسم الأول لأمير الكويت الذي بكاه الناس
يوم وصولي.

لم نخرج من الشقة في الأيام الثلاثة الأولى» ولم يذهب غسان»
خلال هذه الفترة» إلى العمل نظرا لتعطيل الدوائر الحكومية وأكثر
الشركات والمؤسسات بسبب الحداد. كان غسان منصرفا إلى التلفاز.
يحدثني قليلا؛ ثم يعود للمتابعة. يمسح دموعه بظاهر كفَّه. وفي الشاشة
يظهر الأمير محمولا على الأكتاف. مغطى بعلم الكويت؛ والناس من
حوله بالآلاف في مقبرة صحراوية. صوت المذيع حزين» لا أفهم ما
يقول» ولكنه كان يكف عن التعليق إذا ما أوشك على البكاء. بقيت
صامتا، يبدو غسان وكأنه يمارس طقسا دينياء لم أرغب بمقاطعته. في شاشة التلفاز. تنتقل الكاميرا إلى مكان آخر يغص بالنساء المتشحات
بالسواد. ييكين بحسرة. فتيات صغيرات يحملن صورا لأميرهن الراحل.
عجائز ييكين فوق الرصيف». وبعضهن ياللغرابة» حضرن بكراسيهن
المتحركة!

من أين للحزن أن يحتل كل شيء؟ أن ترى وجوها حزينة؛ أمر
له تبرير في بعض المناسبات» أما أن تحزن الشوارع والبيوت والأرض
والسماء لرحيل شخص ما!

الحزن مادة عديمة اللون» غير مرئية؛ يفرزها شخص ماء تنتقل منه
إلى كل ما حوله. يُرى تأثيرها على كل شيء تلامسه. ولا ثُرى. هكذا
كانت الكويت في الأيام الأولى لوصوليء يفرز الناس أحزانهم» تتشربها
الأرض والسماء والهواء و.. كل شيء.

استمر التلفاز يبث صورا ولقطات للأمير الراحل في مناسبات
عدة» مع صوت رجل يغني من دون موسيقى» أو.. لعله كان يصلي أو
يقرأ القرآن.. لست متأكدا.

لو لم يخبرني غسان أن من يظهر على الشاشة هو الأمير الراحل
لحسبته رمزا دينيا كبيرا. بساطته وتواضعه. والتفاف الناس من حوله؛
مشاهد تشي بعلاقة حميمة تربط الناس بأميرهم بشكل مغاير. يظهر
على الشاشة» مترجلا من سيارة مرسيدس سوداءء بعباءة باللون ذاته؛
يصافح رجالا كبارا في السن» الفرحة على وجوههم. في لقطة أخرى»
قال غسان انها تصوّر عودته إلى الكويت بعد تحرير بلاده؛ يظهر فيها
بعباءة بنية اللون» على سلم الطاثرة؛ رافعا كفيه كما يفعل المصلون
في صلاة الجمعة» يلصق جبينه على الأرض يقبلها ما إن وطأت قدماه
أرض وطن ضقطت الحلقة السوداء المثبتة فوق غطاء رأسه الأبيض
أثناء انحناثه. نَهَضضء أعادها إلى رأسه»؛ ثم قام بتقبيل كتاب أحمر اللون
قدمه إليه بعض الرجال. يظهر في لقطة أخرى فوق سجادة حمراء يحيي رجالا في الزيّ العسكري. وفي لقطة أخرى يظهر من دون عباءة؛ يجلس
مع رجال كثيرين حول سفرة طعام مفروشة على الأرض. وفي لقطة
أخيرة» يجلس في ساحة صحراوية؛ يدير وجهه يمينا ثم يساراء ومن
خلفه صف من الرجال يفعلون كما يفعل في صلاة جماعية. وفي لقطة
بعيدة عما يُعرض في الشاشة؛ في غرفة الجلوس حيث كنت أجلس؛ كان
غسان في عالم آخر.
* + *

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن