تتمة التتمة

1.4K 60 0
                                    

اغمضت عينيها وسمحت لسحب الضباب أن تسحبها نحو الداخل.. رائحة حلوة تشمها.. رائحة قوية ومسيلة للعاب، رائحة مألوفة.. رائحة..

رائحة.. ووجدت نفسها تبكي.. لسبب ما كان قلبها محروقا للغاية.

كان المكان هادئا، عندما سمعت صوت صفير منخفض آتيا من بعيد. غير متحكمة بقدميها، توجهت ببطء نحو مصدر الصوت.. طفلة صغيرة.. طفلة في التاسعة من عمرها على الأكثر، جالسة على كرسي فردي خشبي.. رأت هذه الطفلة جالسة وحدها.. وسط سحب بيضاء حليبية.

"هل انت بخير؟ وسرت قشعريرة على طول عمودها الفقري.. التفتت لترى مصدر الصوت.. ماذا فعل لكِ؟.. كان الصوت قلقا، باكيا.. قلت لك أن لا تخرجي أبدا من الغرفة.. من غيرها؟ والدتها"

رأت هيئة والدتها تركض نحوها، وقبل أن تدرك الأمر حتى، كان شبح والدتها قد عبر من خلالها مخترقا جسدها..

وتبعثرت والدتها في الهواء مندمجة مع الضباب الأبيض حولها.. التفتت لترى الفتاة الصغيرة تنظر لها بعينين دامعتين وعلى وجنتها اليمنى جرح عميق ينزف، قبل أن تهب رياح قوية بعثرتها هي الأخرى مع السحب حولها.

رغما عنها تلمست وجنتها بتردد وأصابع مرتجفة..

تكاد لا تذكر يوما لم يمر عليها وعلى والدتها بدون تعذيب..

تكاد لا تذكر يوما مر عليهما بسلام أبدا.. والدتها قد تركتها..

لا، بل والدتها كانت محظوظة.. لقد قرر الرب أن لا تعاني كثيرا، أما بالنسبة لها فالأمر مختلف.. منذ أول يوم لها في هذه الحياة والعذاب، الألم، والذل ملازمون لها لا يفترقون عنها..

وشعرت بالبرد.. شعرت بالبرد يخترق عظامها حتى النخاع..

واستيقظت..

كانت لا تزال على الأرض.. مربوطة لقائم السرير، عارية، مدمية ومعلمة الجسد.. كانت أحاسيسها متبلدة ملبدة ومشوشة.. غير شاعرة بشيء حركت ذراعيها لتشعر بصعقة وصلت لمنتصف عمودها الفقري.

كتمت صرخة ألمها بالكاد، ورغما عنها سحبت جسدها نحو الأعلى ملتفة بجذعها حول خشب القائم المنحوت..

كانت خائفة.. لم تكن متألمة بقدر ما كانت خائفة، لأنها لا تشعر بشيء.

كأنها فقدت احساسها تماما..

المفترض أن يفتك بها الألم، لكنها وببساطة تكاد لا تشعر بأكثر من دغدغة بسيطة.. كأن أيادي طفل صغير تحاول ملاطفتها..

الشمس على وشك الشروق.. هو نائم فوق السرير.. ترى جزء من يده متدليا..

هل هو حزين؟ تساءلت في نفسها.. ترى، هل يعتريه الشعور بالذنب حتى ولو قليلا؟ هل تهاجمه الهواجس والوساوس؟

هل يؤثر فيه تعذيبه لها؟ هل يؤثر صراخها، بكائها وتوسلها له فيه ولو بمقدار ضئيل؟ هل يعقل أن يكون وحشا بلا رحمة ولا مشاعر هو الآخر؟

هل يعقل أن لا يحطمه ما يفعله بها.. أن لا يحزنه رؤيتها محطمة ممزقة بهذا الشكل؟

هل.. يعقل.. أنه يكون هناك شخص يكرهك لهذه الدرجة؟

رغما عنها امتلأت عينيها بالدموع، وتنشقت بقوة.. حاولت بقوة كتم بكائها.. تقوس فمها كفم طفل أخذوا منه حلواه، وأغمضت عينيها متنشقة لمرة أخيرة قبل أن تنفجر باكية داخل ملائة السرير السوداء الحريرية.

بقيت كذلك حتى طلع الصباح..

مسحت وجهها بيديها بعنف.. ركزت عينيها على بقعة الدموع الكبيرة التي تكونت على القماش، ثم سمحت لنفسها بإغماض عينيها.. سحبت طرف الملائة وغطت ما استطاعت تغطيته من جسدها.. هي خائفة، لأنها ولحد اللحظة لا تزال لا تشعر بشيء.. لا يزال جسدها مخدرا.

ونامت.

مارياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن