لم تضيع وقتا.
كل ما فكرت فيه أنها لن تضرب الليلة.. هي لن تسمح بذلك.. لقد أعطاها الرب فرصة ولن تضيعها أبدا..
إن كان عليها أن تذهب له بنفسها فستفعل.. المهم أن لا تعود لتلك الحياة.. ستدفن كل شيء ورائها ولن تعود لما كانت عليه من الذل والاهانة.. لن تعود.
ونهضت.
شعرت وكأن دهرا قد مر وهي تجر قدميها نحو الباب الخشبي المنحوت.. أمسكت المقبض بتؤدة، ولفته بتأن وببطء شديدين.
خرجت من الغرفة نحو صالة الاستقبال.. المكان مضاء بلون الشمس الغاربة، والهواء البارد يحرك ستائر نوافذ الجهة الشمالية المفتوحة على آخرها جاعلا اياها تتمايل بدلال فاحش مع كل نفخة منه!
دارت ببصرها على المكان، و-كما توقعت- لم تجده أمامها.. لكن باب مكتبه مفتوحا على آخره.
تقدمت نحوه أكثر.. وتوقفت فجأة.
مجرد فكرة التقدم خطوة بعد ترعبها.. لطالما حذرها من الاقتراب من مكتبه أو حتى التفكير في دخوله.
بخطوات هادئة عادت ادراجها، وما كادت تكمل التفاتها حتى..
"ماريا.. صوته، مرعب.. ماريا.. كررها"
ازدردت بقوة ملتفة له مجددا. هو الآن يقف مستندا على اطار الباب بكتفه ويده اليمنى مشغولة بإمساك زجاجته أما اليسرى فكانت مخفية في جيب بنطاله..
"هل جئتني للمصالحة؟ نبرته مسمومة.. أعتقد أن الأوان قد فات.. هو ثمل بالفعل.. بهذه السرعة! لقد حاولت.. قالها محولا عينيه عنها.. ألم أفعل؟ وتقدم متابعا.. ثمانية أشهر كاملة، بقيت أنتظرك ثمانية أشهر كاملة.. توقف في منتصف الطريق واضعا الزجاجة على رف الكتب.. ألم أحاول؟"
ارتجفت داخلها بعنف.. لن تسمح بتكرار الأمر.. هذه فرصة جديدة.
"أجل.. لقد جئت للمصالحة.. قالتها مزدردة لعابها للمرة الألف.. احتاج.. أحتاج..
وانتفض.. احمر وجهه واسودت عيناه حتى ضاع بياضهما
"لا تقطّعي جملك هكذا.. صرخ بها بجنون ضاربا بيده الجدار بقوة زلزلت أوصالها.. إياك وتكرار الكلمات بهذا الشكل المتلف للأعصاب.."
نفرت عروقه وكشر عن أنيابه هادرا فيها بقوة لدرجة أنها لم تستطع حتى أخذ نفس واحد لهول منظره.
بلحظة كان وسط المسافة ما بينها والمكتب وفي الأخرى كان يضغط عنقها للجدار خلفها بقوة مفرطة.. اختنقت، وامتلأت عيناها بالدموع، فأغلقتها بقوة محاولة ازالة شعور الحرقان الذي تشعر به في صدرها. أحست كما لو أن يدا من الفولاذ تطبق على عنقها، لا يد بشري..
"أنا آسفة.. لقد فشل كل شيء.. أنا آسفة.. كيف يطلبون منها أن تفصح في الكلام في حين أنه لم يسمح لها يوما بإتمام جملة مفيدة دون مقاطعة أو مناقشة.. سامحني"
وشل نصف وجهها الأيسر لقوة الصفعة التي تلقتها.. في النهاية لن تنجو أبدا من العلامات والجروح.. أحست بالدماء تغرق فمها من الداخل..
"لا أريد سماعك تعتذرين.. قالها ويده تضغط على عنقها أكثر.. لقد سئمت سماع تأسفك وترجيك طوال الوقت.. وكحت مختنقة بقوة.. هل سمعت؟ وصفعها بحدة مطالبا إياها بتأكيد فهمها لما يقول.. فقط أخرسي.. بصوت مسموم.. أخرسي تماما"
عيناها تحترقان.. قدماها ويداها تتخبطان بعنف.. تخدش اينما طالت يداها، ترفس وتصد.. عيناه حفرتان بلا قاع.. نظرته ميتة وغير مبالية.. وتوقف جسدها عن الحركة ضد رغبتها، لكن برغبتها أيضا!
لقد حاولت.. فكرت موجهة كلامها نحو الرب.. لقد فعلت، ألم أفعل؟
سوف ترحل.. ربما تدوم غيبوبتها سنوات هذه المرة.. علها تكون هادئة مثل المرة السابقة، أو ربما أطول حتى، قد لا تفيق منها أبدا.. من يدري؟ ما عادت تريد البقاء، لقد تعبت.
هي فقط تعبت.
لكن قبضته ارتخت على عنقها.، وأفلتها لتسقط على الأرض. شهقت بقوة مدخلة أكبر قدر من الهواء لرئتيها.. امسكت عنقها بيديها بحركة لا ارادية محضة، تحاول منعه من خنقها مجددا.
نظرت له بعينين مهزوزتين.. وجهها محمر، جلد رقبتها معلم بخطوط مسودة حيثما كانت أصابعه، وجنتها متورمة، وعينيها تكادان تنفجران من الدموع المحبوسة فيهما.
لم يعرف هل ما يراه دموع الخذلان، أم اللوم؟ دموع انكسار، حزن، بؤس، يأس، قلة حيلة، أم أنها دموع الألم فقط؟
أنزلت رأسها بعدما لم ترى في عينيه غير الغضب والشر.. وكعادتها، غطت وجهها بيديها وانتحبت!
"ما الذي فعلته؟ همست بها بصوت مخنوق.. قل لي بما اخطأت؟"
لم ترد أن يحدث هذا.. لقد خرجت ورائه لتجنب حدوث هذا.. تكورت على نفسها محاولة قدر المستطاع تدفئة الأجزاء المكشوفة من ذراعيها ورجليها.. اتخذت وضعية الجنين مستلقية على الأرض وصوت نحيبها يعلو شيء فشيء..
" أردت ارضائك.. ولم تمهله الفرصة للرد.. اردتك أن لا تضربني، لقد سئمت من الضرب.. لما لا تكفون عن ضربي وايذائي؟ ما الذي فعلته لكم؟ لم أعد قادرة على تحمل ضربك وإيذائك لي.. لم أعد قادرة على التحمل أكثر.."
ابعدت يديها عن وجهها بعدما احست به يجلس بجانبها.. نضرته لم تتغير وعندما رفع يده، رفعت هي يديها أمام وجهها لا اراديا لتصد أي صفعة أو ضربة قد يوجهها لها.
ترتجف كمن اصابته الحمى. قرفص بجانبها، فإذ بها تنظر نحو بعينيها المحمرتين المتورمتين من البكاء القاسي. أراد ان يملس على شعرها، كانت خصلاته قد تبعثرت، فأراد أن يرتبها، لكنها فاجأته بيديها اللتان ارتفعتا فجأة أمام وجهها..
لقد وصل بها الخوف منه لدرجة أنها اعتقدت أنه اراد ضربها!
ازدرد بقوة، وبألطف ما يمكن، أمسك بكتفها شادا اياها لتنهض من على الأرض.. في اللحظة التي لامست يده كتفها سرت رجفة في جسدها كمن لمسه تيار كهربائي وانتفضت متقلصة على نفسها وعلى وجهها أكثر ملامح الرعب قوة التي رآها يوما في حياته كلها.
اعتصر منظرها قلبه، ولم يجد شيء غريبا في تصرفها هذا.. هو وحش بالنسبة لها لا أكثر.
ليس أكثر من مجرد وحش.
أنت تقرأ
ماريا
ChickLit" لست الفاعلة، لم تكن أنا، لابد وأنك خلطت بيني وبين أخرى. أرجوك، أترك شعري، أنت تؤلمني. اتركني يا عزيزي" " لست الفاعلة إذا" صنع ابتسامة صغيرة بزاوية فمه وأكمل " لا بأس، سأبحث عن هذه الفتاة. لابد وأنها احدى الخادمات" اتسعت ابتسامة أكثر إذ لاحظ اتساع...