تتمة الجزء الخامس

2.5K 70 3
                                    

للساعة التالية بقيت تحدق عبر زجاج السيارة لا أكثر، كانت عينيها غائمتين كليا. هو متأكد أنها لا ترى أضواء المباني، أو حتى تستمع للأصوات.. هي ترى شيء مختلفا، شيء بعيدا.. تسمع أصوات لا يعلم ما هي. يعتقد أنها تفكر بما حدث لها في الفندق.. لقد صرخت به، عضته، شتمته، بل أنها هاجمته بشراسة لدرجة أنها اضطرته لتقييدها وتكميم فمها.

كل ذلك لم يؤلمه أو حتى يؤثر به، حتى أن عضتها وضرباتها لم يكونوا أكثر من مداعبة في الحقيقة، على الأقل بالنسبة له. ما آلمه حقا، كان اعتقادها بأنه هو من أرسل الوغد ليغتصبها.. صرخت به أنه من قام بذلك. وعلى الرغم من كل محاولاته بإقناعها بالعكس هي لم تصدقه، جسدها استجاب لضغطه، لكن عينيها تقولان العكس تماما.. لكنها هدأت في النهاية.. تكورت بين ذراعيه كمولود صغير.. وارتجفت.

ضلت تبكي وتأن دافنة جسدها بقوة في حضنه.. أما هو فلم يتركها للحظة حتى. حملها وخرج بها من المكان، بعد أن شكر الفتاة- التي عرف فيما بعد أن اسمها مروة- بشكل لائق.

اصرت الفتاة على أخذ رقم هاتف ماريا، لكنه أعطاها رقم هاتف العمل بدلا من ذلك. 

عاد ينظر نحو حبه.. مركزا على عينيها الباهتتين.. نظرتها الجامدة.. وجهها الثابت، وكذلك جسدها المتصلب البارد بين ذراعيه. ضمها إليه أكثر، وعاد يكرر هامسا في اذنها، علها تسمعه

" لا تقلقي يا حبي، لقد نال عقابه. هو لن يستطيع لمس فتاة أخرى بعد الآن، لقد انتهى.. وعاد يحدق بوجهها، لكن لا استجابة.. ارجوك يا ماريا، قولي ما بك، لم لا تتحركين. انظري إلي، أريد أن أرى نظراتك الشامتة، الغاضبة، أو حتى المتقززة.. أي شيء، لن أعاقبك هذه المرة، أعدك.. أنا لن أعاقبك.. بقيت كما هي، فبدأ الغضب يسيطر عليه. رفعها نحو صدره أكثر ضاما إيها بقوة.. ما كنت لأرسل ابن الداعرة ورائك أبدا. أنت هي كل ما أملك يا حبي، لا يمكن أن أفرط بك، أبدا"

لكنها لم تكن لتستجيب، كيف تستجيب وهي لا تسمع ما يقوله.. كانت ماريا غارقة تماما. في الحقيقة لم يعد أمر الرجل يشغل تفكيرها البتة، ففي النهاية لم يحدث شيء، ليس فعلا، ولو كانت أي فتاة أخرى لكان الأمر قاضيا بالنسبة لها. لكن ماريا ببساطة تجاوزته منذ أكثر من نصف ساعة.. الحقيقة أنها لم تعتبره أكثر من صفعة من يد زوجها. لم يؤثر فيها أكثر مما تؤثر بها ليلة من الليالي التي يصب بها كمال جام غضبه عليها.. مؤكد أن واحدة من تلكم الليالي تأثيرها أشد وطئه على نفسها من مجرد اعتداء بسيط كهذا.

كان عقل ماريا مشغولا باسترجاع ذكريات قديمة، ذكريات تعود لثلاث سنوات مضت، بل وأكثر. ليست هذه هي المرة الأولى التي تم التحرش بها.. لطالما كان لوالدها النصيب الأكبر من تلكم المرات. كان لا يكف عن شتمها، تعنيفها، ضربها، إهانتها، أو حتى التنكيل بها.. كان كل من في المنزل من خدم وعاملين يعرفون تماما نوع المعاملة التي تتلقاها من والدها. كثيرا منهم ساعدوها.. يخبؤونها، يدافعون عنها، بل وإن الأمر يصل بهم أحيانا للوقوف ضد والدها لحميتها. تذكر جيدا كيف وقف السيد البستاني العجوز بينها وبين والدها عندما أراد ذاك الأخير أن يقص لها أصبعا.. كان مجرد التفكير بالأمر مؤلما للغاية، خصوصا أنها لم تكن أكثر من طفلة في الثانية عشرة. لم يكن قد مر على وفاة والدتها أكثر من سنة.

كان والدها يكره والدتها كثيرا.. كان يكرهها لدرجة مخيفة. لم تكن تمر عليها ليلة بدون أن يملئ صوت صراخها الفلة كلها. كم كانت تتألم كلما ابتسمت والدتها في وجهها قائلة أن كل شيء على ما يرام. هي لا تعلم لما كان والدها يكره والدتها. لم ولن تعلم أبدا.

لكن في ذلك اليوم أرادت أن تساعد في الاعتناء بحديقة زهور والدتها.. كان ذلك كل ما أرادته، لكن والدها أراد أن يقطع له أصبعا، فقط وبدون أية مبررات. يومها طرد الرجل المسكين من عمله وحبست بغرفتها لعدة أيام. لم تعد تذكر كم أستمر الأمر، لكن ما تذكره حقا هو اللحظة التي دخلت بها احدى الخدم عليها بطبق من الطعام والماء، لكم امتنت للفتاة يومها، خاصة بعد أن اكتشفت أن الخدم تضامنوا معا ليستطيعوا تهريب الطعام لها.

شعرت بالحزن على السيد الذي فقد قوت يومه بسببها، لكنها قررت أن لا تقف مكتوفة اليدين، فقامت بإعطاء رئيسة الخدم حفنة من جواهرها لتعطيهم له، لم تكن تعلم حقا ما القيمة الفعلية لكل قطعة، قطعة واحدة منهم كانت كفيلة بتسديد دينها للرجل وأكثر، لكن المرأة كانت بالنبل الكافي لتوصل المجوهرات كاملة للرجل كما طلبت هي منها. عرفت فيما بعد أن الرجل انتقل هو وأسرته لمدينة أخرى.

وهكذا وهكذا، استمرت حتى وصلت سن البلوغ. يومها أراد والدها تسليمها لأحد الرجال الذين يتعامل معهم كزوجة على الورق، أي أنه أراد حرفيا تسليم عذريتها لرجل فاسق من رجاله. لكنها نجت بطريقة ما، لم تعد تذكر ما حدث، لكن أحد أصدقاء والدها كان هناك، وهو من استطاع اخراجها من المكان بأمان.

تذكر أنها أمضت بمنزله فترة ما. ربما أيام.. تذكر السيدة زوجته.. أم أنها كانت أخته.. لم تعد الصورة واضحة. كل ما هو واضح الآن، هو أنها متعبة وتريد النوم.. النوم للأبد.. علها تتخلص من كل هذا.

تكورت على نفسها وغطت بالنوم.

أحس بارتخائها، ركز عليها أكثر إذ بدأت بإغلاق عينيها ببطء شديد.. أنها تنام.. قبل أن تغلق عينيها تماما، لمعتا ببريق دموعها، وارتجفت بقوة شاهقة دلالة على كونها تبكي. كان قلبه يؤلمه.. يشعر بحرقة غريبة في صدرة.. هو قد رءاها تبكي مرات لا يمكن له حتى أن يحصيها، مرات كثيرة للغاية، لكن الفرق الوحيد بينها وبين تلكم المرات، أنه لم يكن المتسبب ببكائها.

عندما يكون هو السبب، لا بأس. غالبا ما يتركها تنتقم لنفسها بعد كل مرة، أما الآن.. لا يمكن له أن يفعل لها شيء. لم يعد هناك غير قتله. لكن الأمر سيفقد لذته، بقتله له لن يتألم، ستكون ميته شريفة. أما مع قطعه لذكره، هو ببساطة انتهى. لم يكن أكثر من تابع لتلك العاهرة. 

هو لم يسأل بعد هل انتهى رجاله منها أم بعد.

سوف يرى صباحا.

بدأت بالتحرك.. كانت تبدو متضايقة للغاية. أنّت بألم، ثم قامت بلف ذراعيها حوله بقوة لدرجة آلمته.

احتضنها بقوة هو الآخر. ضحك فجأة، كان مخططه أن تعود للمنزل باكية، لكن ليس بهذا الشكل. انقلب مخططه على رأسه.

كانت قد بدأت بالهذيان بكلمات متقطعة مع وصولهم للفلة. أما الفلة نفسها فقد كانت خالية تماما. كان الخدم قد رحلوا منذ زمن، وكذلك فعل السائق. فقط الحراس الأربعة هم من تبقوا.

صعد بها لغرفتهم، ودثرها جيدا.

لفترة طويلة بقي يحدق بها.. تقلبات وجهها، تقطيبها، أنينها، بكائها، كذلك حاول تفكيك الكلمات التي كانت تهذي بها عله يجد جملة ذات فائدة، لكن لا جدوى.

بعد فترة كان قد غفا بجانبها بالفعل دون أن يشعر.

مارياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن