4..أمهات..و أبناء

1.8K 76 12
                                    

مشى ياغيز بخطى سريعة إلى مكتبه..دخل و أغلق الباب و كأنه يهرب من كل شيء..نعم..إنه يهرب..لكن من ماذا؟ ..من كل شيء ربما..من كل ما حوله..من كل الذكريات البائسة التي تندفع أمام عيونه كشريط متواصل لا فواصل فيه..من ماضيه المثقل بالوحدة و الألم و الحرمان..ها قد رأى قبل قليل أبوين مستعدين لفعل كل شيء و لبذل الغالي و النفيس من أجل استعادة ابنهما و إنقاذ حياته..فلماذا لم يحظى هو بأبوين يشبهانهما؟ لماذا كان والداه أنانيين لا يفكران إلا في نفسيهما و في متعتهما و حياتهما؟ لماذا لم يفكرا فيه عندما انفصلا و هو ما يزال ولدا صغيرا؟ لماذا قرر كل منهما الزواج من جديد بشريك آخر و أجبراه على التنقل بين هذا المنزل و ذاك و كأنه لاجئ غير مرغوب فيه؟ لماذا وضعا راحتهما و سعادتهما كأولوية و فضلاها على حساب راحته و سعادته؟ لماذا تجاهلا وجوده و صار واحدهما يرميه كالكرة للآخر تملصا من المسؤولية و كأنه حمل زائد يرغبان في التخلص منه بأية طريقة ممكنة؟ لماذا لم يفكرا فيه عندما كان يسمع شجارهما حوله و كلامهما الجارح الذي كانا يقولانه عنه؟ لماذا لم يسألاه يوما عما يريده او عما يحلم به؟ لماذا لم يهتما يوما بتحقيق رغباته او بسماع شكواه؟ لماذا؟ لماذا خلفا لديه هذا النقص الفادح في العاطفة و الحنان و الدفء؟ لماذا جنيا عليه و ظلماه و صنعا منه هذا الرجل البارد المتعجرف و القاسي؟ لماذا؟ لماذا طرده أبوه من منزله و هو شاب في السابعة عشر من عمره دون أن يسمع منه الحقيقة؟ لماذا خيّر تصديق زوجته الشابة على تصديق ابنه البريء من اتهاماتها و افتراءاتها التي كان يدرك جيدا سببها؟ لماذا وجد نفسه مجبرا على توجيه كل طاقته الى الدراسة لكي يكون متفوقا و متميزا لعل ذلك النجاح يعوض احساس الفشل الذي كان يلاحقه أينما حل؟ و ها قد صار اليوم أصغر بروفيسور امراض قلبية في تركيا كلها و الجراح رقم واحد..فهل استطاع هذا النجاح الباهر أن ينسيه سواد ماضيه القاتم الغارق في السواد و الألم؟ لا..أبدا..اتكئ ياغيز بجسده على الحائط و راح يتنفس بعمق و كأنما ليمنع تلك الدموع اللؤلؤية التي تجمعت في عيونه من الانهمار على خديه..سمع فجأة صوت طرقات على الباب فقال بعصبية" من هذا؟" أتاه صوت هزان بالإجابة" هذه أنا أستاذ..لقد نجحت أخيرا في اقناع العائلة بالتبرع..لكنهم يريدون توديع ابنهم أولا..هل تسمح لي بإدخالهم الى العناية المركزة؟" رد" نعم..افعلي..هل من شيء آخر؟" أجابت" نعم أستاذ..هناك امرأة سألت عنك و تريد أن تلقاك لسبب شخصي؟" قطب جبينه و سأل" ألم تخبرك بإسمها؟" قالت" لا..انها قادمة..هل ستقابلها؟" فتح ياغيز الباب و أطل برأسه و ما ان رأى المرأة الخمسينية القادمة نحوه حتى جمد في مكانه و احتنق وجهه غضبا و تحركت عضلة خده بتوتر واضح..اقتربت منه المرأة الشقراء ذات العيون البلورية فاتحة ذراعيها و تقول" ياغيز..بني..ألم تشتق إلى أمك؟" حملقت هزان فيه منتظرة رد فعله و طريقة استقباله لأمه فنجح في مفاجأتها كعادته..ابتعد عن المرأة و وقف و هو يلف ذراعيه حول صدره و رد ببرود الثلج" ماذا تريدين يا هذه؟" زمت هزان شفتيها و رفعت حاجبها استغرابا و هي تتابع ما يحدث..قطبت سيفنش جبينها و سألت بنبرة عتاب" أهكذا تستقبل أمك التي لم تلتقيها منذ سنين؟" ابتسم ياغيز بسخرية و هم بالرد عليها عندما انتبه الى وقوف هزان و متابعتها لما يحدث فصاح بها" ماذا تفعلين هنا؟ هيا اذهبي و اهتمي بعائلة جلال ثم إيتيني بقهوة سوداء دون سكر..لا تتأخري..هيا..تحركي" مشت هزان مبتعدة و هي لا تكاد تستوعب ما رأته..الأم بالنسبة إليها مخلوق مقدس لا مجال للانتقاص من احترامه أو للتجاوز في حقه..فمالذي جرّأ ياغيز على أمه؟ و مالذي جعل العلاقة بينهما تكون متوترة و جافة الى هذه الدرجة؟  تساؤلات عديدة كانت تضج في رأسها و هي تمشي في الممر بإتجاه غرفة العناية المركزة..
في مكتبه..وقف ياغيز قبالة النافذة و ظهره لأمه التي جلست على الكرسي..قالت المرأة بصوت منكسر" ألن تنظر إلي؟ ألن تحدثني؟ ألن تنسى و تسمح لي بأن أنسى؟ إلى متى ستعاملني بهذه الطريقة القاسية؟ إلى متى ستوصد بابك في وجهي؟ ألا أستحق منك فرصة أخرى؟ أليس لديك قلب يلين و يغفر و يسامح؟ ألا ترى بأنني أحاول أن.." قاطعها و هو يلتفت اليها و يجز على أسنانه و هو يقول" تحاولين؟ حقا؟ الآن؟ بعد سنوات طويلة تذكرت بأن لك ابنا ظلمته و نسيته و حرمته من حنانك؟ الآن بعد أن  ضحيت بي لأجل حبيبك و لكي تتزوجيه و تنجبي منه؟ الآن بعد أن كبرت لوحدي دون أن أجد أمي الى جانبي تمسح دمعتي و تربت على كتفي و تسهر علي عندما أمرض؟ الآن بعد أن رميتني لأبي و لزوجته التي لم تدخر جهدا لتحويل حياتي الى جحيم؟ أغفر و أسامح؟ حقا؟ و كيف أفعل ذلك؟ هل ستمحين من عقلي تلك اللحظة التي جمعت لي فيها أغراضي و وضعتني أمام باب منزلك و قلت لأبي تعالى و خذ ابنك من هنا زوجي لا يريده و ليس لدي وقت أعطيه إياه؟ هل ستزيلين من ذاكرتي ذلك المشهد الذي كلما أغمضت عيني رأيته و أنت تحملين ابنك الجديد من زوجك الحبيب و تحنين عليه و تقبلينه و تشمين رائحته و أنت تقولين حبيبي و نور عيني في حين لم يكن يطلق علي سوى اسم ابنك و ابنك؟ هل ستنظفين سمعي من كلامكما عني أنت و أبي و كل واحد منكما يرميني للآخر و يحاول أن يتخلص مني و كأنني حمل زائد ترميانه في البحر لكي تواصل سفينة حياتكما الإبحار في سلام؟ هل ستنجحين في إزالة أثر الصفعات الظالمة التي تلقيتها من زوجك و من زوجة ابي كلما فعلت أمرا طفوليا لا يعجبهما؟ و ليتهما اكتفيا بذلك..اتعلمين ماذا فعلت زوجة أبي؟ لا..لن أخبرك..لا تستحقين أن تعرفي كم آذتني تلك المرأة لأن لا فرق بينكما بالنسبة الي..كلاكما أنانية و مؤذية..اسمعي يا هذه..لا مكان لك في حياتي..و لن أسامحك على الحياة التي عشتها بسببك و بسبب أبي..بسبب أنانيتكما و عدم تفكيركما بي..لماذا أنجبتماني اذا ما دمتما لن تهتمان بي و لن تضعاني على رأس قائمة أولوياتكما؟ أهذه هي الأمومة و الأبوة بالنسبة اليكما؟ أ إلى هذه الدرجة أحببتما نفسيكما و كرهتماني؟ و ماذا فعلت لكما أنا؟ مالذنب الذي اقترفته لكي أعيش كل طفولتي و شبابي و أنا أتسول الحب و الاهتمام منكما؟ أتعلمين؟ لا شيء يستطيع أن يعوض طفلا عن حب والديه و لا شيء أقسى من أن يعيش الولد حياته و هو يسأل لماذا لا يحبني والديّ؟ أتريدين أن تعرفي مالأثر الذي خلفه حرماني من حبكما و اهتمامكما؟ ها؟ انظري الى هذا الرجل القاسي الذي يقف أمامك و أنت تعرفين..لهذا..اذهبي من هنا..و إياك أن تأتي مرة أخرى..هل فهمت؟"..
في غرفة الطوارئ..وقف فرمان بجانب نازلي و جينك و قال" استعدا..هناك حالة طعن قادمة..جهزا السرير رقم خمسة لاستقبال المصاب" ردت نازلي" حاضر أستاذ" و اندفعت لتنفيذ ما طلبه..من الباب..دخل المسعفون و معهما شرطيان و امرأة مطعونة ممدة على النقالة..قال أحد المسعفين" المصابة سجينة في أواخر الاربعينيات..اسمها هاندان دميرار..فقدت الكثير من الدم و الاصابة جانبية قد تكون ادت إلى أذى دائم في الكلية" رد فرمان" حسنا..سنتولى نحن أمرها" تراجع المسعفون بعد أن وضعوا المصابة على السرير..نظر فرمان الى نازلي و قال" نازلي..اقتربي و ساعديني..جينك..أريدك أن تقوم بمجموعة التحاليل الروتينية..هيا..الى العمل" بقيت نازلي واقفة في مكانها..جامدة كالصنم..عيونها تحملق في المرأة الممددة على السرير و جسدها يختلج كورقة في مهب الريح..صاح بها فرمان من جديد" نازلي..مالذي أصابك؟ تعالي و ساعديني..لماذا تقفين هكذا كالتمثال؟" لم تتحرك نازلي من مكانها و لم تنطق بأية كلمة..اقتربت منها هزان و همست" انها أمك..أليس كذلك؟" اكتفت بهز رأسها و ركضت مبتعدة دون أن تلتفت وراءها..رفع فرمان حاجبه استغرابا..انها المرة الأولى التي تعصي فيها نازلي أوامره و ترفض أن تساعده..لم يتعود على ذلك منها..وقفت هزان بجانبه و قالت" اسمح لي بأن أساعدك أنا أستاذ" أومئ لها برأسه فراحت توصل الأجهزة بالمصابة..قال فرمان" هزان..أريد صورة مقطعية للبطن و الخاصرتين لكي نتأكد من حجم الضرر في الأعضاء الداخلية..بسرعة لو سمحت" ردت" حاضر أستاذ" ..استغل فرمان وقت الفحوصات لكي يندفع باحثا عن نازلي..لم يجدها في غرفة المساعدين و لا في الممرات..فتح الباب المؤدي الى الدرج فرآها تجلس هناك و تضع رأسها على ركبتيها..خطى ببطء نحوها و جلس على الدرج بجانبها..رفعت رأسها و نظرت اليه و همت بالوقوف فوضع يده على يدها و هو يقول" اجلسي أيتها المتمردة..هل لي أن أعرف لماذا عصيت أوامري؟ انها المرة الأولى التي ترفضين فيها مساعدتي..لماذا؟" هربت بعيونها منه و ردت" آسفة أستاذ..لم أقصد ذلك..إنه أمر شخصي..أعدك بأن هذا لن يتكرر مرة أخرى..كن واثقا" نظر اليها و همس" نازلي..لا تخفي عني..أخبريني..مالذي منعك من مساعدتي؟ هل تعرفين تلك المرأة؟" طأطأت نازلي رأسها و تمتمت بصوت مخنوق" إنها..أمي..هاندان دميرار تكون أمي" حملق فيها فرمان باستغراب و سأل" ماذا؟ أمك؟ و ماذا تفعل في السجن؟ يالله..أنا آسف..لم أكن أعلم ذلك..هل تريدين أن تخبريني بالأمر؟ لعلك اذا تحدثت خف حزنك..أنا هنا معك..أسمعك و أساندك" تجمعت الدموع في عيون نازلي و قالت" آسفة أستاذ..لن أكون قادرة على ذلك الآن..يكفيك أن تعرف بأن علاقتي بأمي ليست على ما يرام..و بأنها لم تكن يوما أما مثالية" ربت فرمان على كتفها و قال" حسنا..كما تريدين..المهم أن تتماسكي نفسك و تعودي الى العمل..اذهبي لكي تساعدي الدكتورة هزال..هيا"..

المُتدرّبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن