8..رابط قويّ

2K 74 20
                                    

احتضن ياغيز جسد هزان الرشيق بين ذراعيه بحنان و هو يضغط بيديه على ظهرها لكي تقترب منه أكثر..وجهه مدفون بين رقبتها و كتفها و يسحب من رائحتها الذكية إلى أعماقه..رائحة عطرها رقيقة مثلها..عطرة دون مبالغة..و فواحة دون قوّة..رائحة مميزة و ناعمة لم يسبق له أن اشتمها على إمرأة من قبل..و كأنها مزيج بين رائحة الياسمين و القرنفل و التوليب مضافة إلى رائحة جسمها الطبيعية الممزوجة بالعرق و الكريم المرطب..أما هي فكانت مذهولة من رد فعله و من تصرفه المباغت..لم تدري كيف تتصرف..و لم تقصد بما قالته أن تجامله أو أن تتقرب منه..بل كانت صادقة في كل حرف نطقت به..إنها تثق به و تصدقّه و تؤمن ببرائته من كل قلبها..لكن وجودها للمرة الأولى بين ذراعيه حرّك فيها مشاعرا غريبة لم يسبق لها أن تذوقتها من قبل..جسمها يلتصق بجسمه..تسمع نبض قلبه..تشتم رائحة عطره الرجولي القوي..تشعر بيديه تلتفان حولها كطوق من لهيب يحرقها ببطء و يجعلها تستمتع بكل لحظة احتراق و كأنها فراشة تحوم حول النور إلى أن تحترق و تموت..لم يكن هذا التقارب المفاجئ بينهما منفّرا..بل على العكس..إنه لذيذ و ممتع و به دفء غريب..حركت هزان يديها و وضعتهما بخفة على كتفي ياغيز دون أن تضغط عليه..و كأن عقلها مازال عاجزا عن استيعاب ما يجري بينهما..و كأنه يطلق آلاف صفارات الإنذار التي تحذّرها منه و تذكّرها بمن يكون و من تكون..العلاقة الرسمية إذا وقع تجاوز حدودها مرة واحدة فذلك معناه بأنها لن تعود أبدا إلى ما كانت عليه في السابق..و هي تخشى أن تنهار علاقتها الرسمية و المهنية بياغيز بصفته أستاذها و رئيسها في العمل..فتتعرض على إثر ذلك إما لتجاهل مقصود فيه ظلم لاجتهادها أو لمحاباة و تفضيل تكره الحصول عليهما دون وجه حق..أراحت رأسها على كتفه مستمتعة بذلك الشعور اللحظي الغريب

أراحت رأسها على كتفه مستمتعة بذلك الشعور اللحظي الغريب

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

قبل أن تهمس بصوت مرتعش" أستاذ..أنا..يجب أن أذهب" و كأن صوتها نبّهه من غفلته و أيقظه فتركها و تراجع إلى الخلف و هو يقول بنبرة مضطربة" نعم..يجب أن تفعلي..إذهبي" ألقت عليه نظرة أخيرة قبل أن تفتح الباب و تغادر فيما بقي هو جامدا في مكانه مستغربا من نفسه و من تصرفه المندفع و الذي لم يتعود على إتيانه..مرر أصابعه خلال خصلات شعره الكثيف و هو يردد بصوت خافت" ماذا فعلت ياغيز؟ هل جننت؟ كيف تقدم على فعل كهذا؟ من تكون هذه الفتاة حتى تتصرف أمامها بضعف هكذا؟ و لماذا تثق فيها و تصدق كلامها؟ مالذي سيجعلها تكون مختلفة عن البقية؟ مالذي يجعلك تصدق ادعاءاتها بأنها تعرفك جيدا و تثق ببرائتك و هذا الهراء كله؟ ألم نغلق باب الثقة و التصديق و الضعف منذ زمن؟ ألم نتعود أن نكون أقوياء لوحدنا و دون الاستناد على أحد؟ نعم..هكذا فعلنا..نحن لوحدنا أفضل و أئمن..إياك أن تكرر ما حدث منذ قليل..و إن كنت معجبا بها فالطريق للحصول عليها واضحة..دون تعقيدات و مبالغات و مشاعر لا حاجة لنا بها..افعل ما تعودت أن تفعله..تجد نفسك مرتاحا و مطمئنا..و الآن..إهتم بتلك الاتهامات الزائفة التي طالت سمعتك..تولى بنفسك مهمة تبرئة إسمك دون اللجوء إلى أحد" و فتح باب مكتبه و خرج..نزل الى الاستقبال و وقف قبالة البوابة و قال بصوت عالي" اسمعوني جميعا..أنا ياغيز إيجمان..بروفيسور و جراح القلبية..لم آت إلى هنا من أمريكا لكي أتحرش بممرضة أو طبيبة أو مساعدة أو غيرها..هذه ليست طريقي و لا هذه تصرفاتي..أنا هنا لكي أعمل..و سمعتي النظيفة و نجاحاتي المتواصلة هي التي جعلت هذه المشفى تستقدمني من أمريكا..أيتها الممرضة سيفجي..انظري الي جيدا..قد تكوني فعلت ما فعلته لأنك معجبة بي او ربما لكي تكسبي شيئا ما لا أعلمه..لكنني لن أتخذ بحقك أية إجراءات قانونية..و سأتركك لضميرك..هو أمر واحد فقط أريدك أن تفعليه..مثلما حاولت تلطيخ سمعتي بإتهامات زائفة لا صحة لها..أريدك أن تقولي الحقيقة..الآن..و أمام الجميع..هيا..اقتربي" خطت الممرضة خطوتين إلى الأمام و قالت بنبرة مرتعشة" أنا آسفة أستاذ..لم أقصد أذيتك أو الافتراء عليك..انه مجرد رهان خضته أنا و صديقتي و جعلني أتصرف هكذا..نعم..أعترف أمام الجميع أنني افتريت عليك و كذبت في كل كلمة قلتها..أتمنى أن تغفر لي..و أعدك بأن هذا لن يتكرر مرة أخرى" رمقها بنظرة باردة و قال" نعم..من الأفضل لك ألا يتكرر هذا..و إلا لن أكون مسؤولا عن رد فعلي" ثم مشى نحو غرفة الطوارئ بعد أن نجح في احتواء الموقف و محو الاتهام الزائف الذي طاله..
في غرفة العمليات..وقفت نازلي على يمين فرمان تساعده في العملية المعقدة التي يقوم بها..كان المريض مستلقيا على بطنه و فرمان يحاول استئصال الورم الذي تم العثور عليه في النخاع الشوكي للعمود الفقري..مرت ساعتان استطاع فيهما الفريق أن يعيد ربط الجمجمة بالعمود الفقري بعد أن كانا منفصلين..و الآن هو يحاول الوصول الى الورم..قال فرمان بعصبية" اللعنة..هذا الورم من النوع الذكي و المتوحش..لن يكون وصولنا إليه سهلا" سألت نازلي" لماذا أستاذ؟" أجاب" لأنه ينتقل بسرعة من مكان إلى آخر..و يمكنه أن يتخفى في شكل عضو من الأعضاء الداخلية للجسم كالكبد أو الكلى و غيرها..ستكون هذه العملية معقدة و طويلة..يجب أن نكون صبورين كثيرا و حذرين في التعامل معه" قالت نازلي" سنصل إليه و سنستأصله..لن يهزمنا هذا الورم..أنا واثقة من ذلك" التفت اليها فرمان و رمقها بنظرة ذات معنى قبل أن يصب كل تركيزه على العملية..العملية كانت فعلا معقدة و طويلة و متعبة..اربع ساعات كاملة مرت و فرمان يحاول أن يحاصر الورم و أن يستأصله لكنه بدا و كأنه يلاعبه فيتحول من مكان إلى آخر و يتخذ في كل مرة شكلا جديدا..سألت داملا بقلق" أستاذ..لقد قضينا ست ساعات كاملة و جسد المريض مفتوح هكذا دون أن نتمكن من فعل شيء..هل سنغلقه و نتركه هكذا أم ماذا سنفعل؟" اتكأ فرمان بيديه على طاولة العمليات و صمت مطولا قبل أن يرد بعصبية" لن نغلقه..و لن أتوقف قبل انتزاع هذا الورم..داملا..اذهبي و اشربي شيئا و ارتاحي قليلا ثم عودي..سنفعل هذا كل عشرين دقيقة..يخرج أحدنا..يرتاح ثم يعود..العملية مازالت متواصلة" خرجت داملا فنظرت نازلي إلى فرمان الذي بدا عليه التعب و الارهاق و القلق فقربت فمها من أذنه و همست" أستاذ..يجب أن تهدأ..و تفكر بطريقة سليمة..أنا أثق بك..و متأكدة بأننا سننجح في النهاية" رفع عيونه نحوها و رد بصوت مبحوح" شكرا لك نازلي..كلامك يعطيني القوة اللازمة..شكرا لوجودك معي" ابتسمت بخجل و همت بالرد عليه عندما ارتفع صوت آلة التخطيط معلنا ارتفاعا مفاجئا في ضغط المريض و اضطرابا في خفقات القلب..قالت" أستاذ..إنه ينهار..علينا أن نتصرف بسرعة" قال" احقنيه بميليغرام من الادرينالين و امتصي هذا الدم المتجمع هنا..لا أكاد أرى شيئا..هيا..بسرعة" فعلت نازلي ما طلبه منها و بعد بعض الوقت عاد وضع المريض الى الاستقرار..اقتربت الممرضة تمسح العرق عن وجه فرمان الذي كان ينظر عبر المنظار الى المكان المحتمل للورم..أطال النظر لبعض الدقائق قبل أن يقول" لا حل أمامي سوى الضرب عشوائيا..سأحاول أن أخمن مكان اختفاء الورم و سأنتزعه على هذا الأساس..أتمنى أن ينجح ذلك..و إلا" سألت نازلي بقلق" و إلا ماذا؟" رد و هو يتنهد" و إلا قد نخسر المريض او قد يصاب بالشلل الرباعي الدائم" سحبت نازلي نفسا عميقا قبل أن تقول" حسنا..لنكن متفائلين أستاذ..سننجح..و سينجو مريضنا دون أضرار..افعل ما أنت بارع فيه..أنقذ هذا المريض أستاذ" ابتسم فرمان عندما سمع كلامها لانها نجحت في طمأنته في أقصى حالة القلق التي كان يمر بها..أخذ المشرط في يده و تبادل و إياها نظرة مطولة قبل أن يتنفس بعمق و يبدأ في انتزاع الورم..كانت مخاطرة كبرى منه أن يضرب بطريقة عشوائية لكن الحلول انعدمت أمامه و لم يكن يريد أن يترك المريض على حاله و أن يغلقه دون أن يفعل شيئا..عم الصمت قاعة العمليات و الجميع يراقبون يد فرمان التي فتحت شقا وسط النخاع الشوكي و راحت تحاصر الورم بدقة و انتباه قبل أن ينجح في استئصاله كليا..وضعه في وعاء و طلب ارساله الى قسم علم الاورام لكي تجرى عليه الاختبارات اللازمة ثم نظر الى جهاز التخطيط..المريض مستقر و الامور على خير ما يرام..رفع عيونه نحو نازلي و صاح بسعادة" لقد نجحنا..نجحنا" صفقت نازلي و الموجودون فرحا بالنجاح قبل أن يغلقوا المريض و يرافقوه الى غرفة العناية..في مكتبه..ارتمى فرمان على الأريكة و قد أخذ منه التعب كل مأخذ..و شعر ببعض الدوار لأنه لم يأكل و لم يشرب منذ الصباح..سمع صوت طرقات على الباب فقال" تفضل" ..أطلت نازلي برأسها و دخلت حاملة قارورة عصير صغيرة و قارورة ماء و بعض الشطائر و وضعتهم على الطاولة و هي تقول" أستاذ..أعلم بأن العملية أنهكتك..وجهك شاحب جدا..يجب أن تأكل و تشرب الكثير من الماء..مبارك نجاحك مرة أخرى..أنا فخورة جدا لأنني أعمل معك..عن اذنك أستاذ" بقي فرمان ينظر اليها و هي تتكلم و تهم بالمغادرة قبل أن يستوقفها بقوله" نازلي..لولاك لما كنت نجحت اليوم..وجودك الى جانبي أعطاني قوة غريبة كنت في أمس الحاجة إليها..ثباتك الانفعالي في غرفة العمليات سيساعدك كثيرا في عملياتك الخاصة..و ستكونين جراحة لامعة..أنا واثق من ذلك..شكرا لك من كل قلبي" التفتت إليه و رمقته بنظرة عشق واضحة

المُتدرّبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن