17..في إزمير

2.2K 76 21
                                    

في المشفى..و في قسم الأمراض النسائية..جلست بيليز قبالة الطبيبة النسائية و قالت" هوليا..لا داعي أن أذكّرك بأن هذه التقارير يجب أن تبقى سريّة للغاية..و لا يجب أن يعلم بها أحد..و فرمان على وجه الخصوص..إياك هوليا" قطبت هوليا جبينها و ردت" لا داعي أن تذكريني بهذا..سرّ المريض أمر مقدّس..لكن..كنت أفكر..لو أنك تصارحين فرمان..ألن يكون ذلك أفضل؟ و مادام الحب موجودا بينكما..فلا داعي للقلق..سيتفهمك و سيبقى معك..و أظن.." ضربت بيليز بيدها على الطاولة و تمتمت بغضب" هوليا..لا تتحدثي كثيرا..فرمان لن يعلم بهذا أبدا..لن أخسره لأي سبب كان..و لا تنسي..أنت هنا بفضلي..و لو لم أعينك أنا في هذه المشفى لكنت الآن في السجن بسبب عمليات الإجهاض غير القانونية التي كنت تقومين بها..لقد تسترت عليك و أخفيت ماضيك الأسود..و ما عليك أنت سوى أن تردي لي الجميل..أليس كذلك؟" طأطأت هوليا رأسها و ردت" نعم..معك حق سيدة بيليز..سرّك في أمان معي..و لن يعلم السيد فرمان بأنك عقيمة و مستحيل أن تنجبي له أطفالا..لا تقلقي..فمي سيبقى مغلقا إلى الأبد" ربتت بيليز على يد هوليا و قالت" أحسنت عزيزتي..كوني عاقلة و لن تري مني سوى ما يعجبك..و استعدي لكي تكوني تحت الطلب متى احتجت إليك..لأنني لا أضمن القادم من الأيام..و لدي إحساس سيء حيالها و حيال ما قد يحدث..المهم أن تكوني جاهزة..اتفقنا؟" هزت هوليا برأسها بالإيجاب فإبتسمت بيليز و أضافت" مرّي على المحاسبة عند الخروج و استلمي المبلغ البسيط الذي خصصته لك..و تذكري بأنني كريمة جدا مع من يخدمني بصدق..أما من يلعب معي و يحاول أن يقوم بحركات غير محسوبة فحسابه يكون عسيرا..أنا لا أرحم من يخدعني و يكذب علي..من يحرقني أحرقه..و دون رحمة أيضا..تصبحين على خير عزيزتي" و خرجت و أغلقت الباب خلفها و اتجهت الى مكتبها..هناك..وجدت فرمان جالسا ينتظرها..اقتربت منه و طبعت قبلة على خده و هي تقول" و أخيرا انتهى هذا اليوم الطويل..سآخذ أشيائي لنذهب معا إلى المنزل" نظر إليها فرمان و رد" نعم..لنذهب بسرعة..يوجد ما أريد أن أقوله لك قبل السفر غدا إلى إزمير لحضور المؤتمر الطبي" أمسكته من يده و جرته خلفها إلى المصعد و هي تقول" نعم..سنتحدث..المهم أن نذهب إلى المنزل..أكاد أموت من جوعي" ..
في مكتبه..ارتمى ياغيز على الأريكة و هو يخفي وجهه بين يديه..لقد لامس موت السيدة زليخة شيئا عميقا داخله..و مازالت كلماتها التي وجهتها إليه ترن في أذنيه..من أين علمت تلك المرأة الغريبة بكل تلك الأسرار عنه؟ و لماذا تحدثت عن الهرب و المواجهة و الغفران بكل ذلك الإصرار؟ و كيف حدث و توفيت هكذا دون سبب طبي يبرر ذلك؟ و لماذا بدت و كأنها شخص يعلم أكثر من اللازم عن خفايا الناس و بواطنهم؟ و لماذا كانت واثقة الى تلك الدرجة من حتمية موتها رغم أن مؤشراتها الحياتية كانت ممتازة؟ أيعقل بأن للموت رائحة يقدر بعض البشر على شمّها فيعلمون بذلك بحلول الأجل؟ و لماذا رأى فيها لوهلة هاتفا غير بشريّ ظهر فجأة و دون سابق إنذار أمامه لكي يوصل له رسالة مضمونة الوصول تدعوه إلى مراجعة نفسه و إلى تصحيح أخطاءه و بمجرد أن وصلت الرسالة غادر صاحبها إلى الأبد؟ كلها أسئلة غريبة ضجّ بها عقل ياغيز و عجز عن إيجاد أجوبة منطقية لها..انتشله صوت طرقات من تفكيره العميق فقال" تفضل" فتحت هزان الباب و دخلت و تقدمت منه و هي تمد له ملفا و تقول" أستاذ..هذا ملف المريضة المتوفاة منذ قليل يحتاج إلى توقيعك..هلا وقعته لو سمحت؟" رفع ياغيز عيونه نحوها و سأل بنبرة غلب عليها الارتباك" هزان..هل تؤمنين بالقدر؟" ردت" نعم..أؤمن به" قطب جبينه و سأل من جديد" و هل يبرر هذا الإيمان ما حدث منذ قليل رغم تعارضه مع العقل و المنطق و الطب؟" ابتسمت هزان و أجابت" نعم..بكل بساطة..المرأة ماتت لأن أجلها حان..و لم نكن لننجح في منع ذلك مادامت تلك إرادة الله" طأطأ ياغيز رأسه و تمتم"حسنا..لنقل ذلك..لكن هذا الكلام لا يقنع عقلي..ربما يريحني بعض الشيء..لكنه غير كاف بالنسبة إلي" نظرت هزان إليه و قالت" طبيعي بأن لا تقنع بعض الأمور العقل البشري..لأن عقل الانسان محدود..و هناك بعض الأمور التي يعجز عن تفسيرها..و الموت أحدها..خاصة ذاك الذي يفتقر إلى أسباب طبية واضحة..الموت حتمي و الطب يقف عاجزا أمامه في أغلب الأحيان..ما عليك سوى أن تجدد إيمانك أستاذ..حتى و ان كان يتعارض مع عقلك و مع الطب الذي تعلمته و تمارسه" زم ياغيز شفتيه و همس بصوت مكسور" هذا حديث سهل على شخص لم يخسر شيئا ذا قيمة في حياته..أما من فقد إيمانه بكل شيء فالأمر بالنسبة إليه أصعب مما تتخيلين..أنا لم أستعد إيماني بنفسي و بقدراتي إلا من فترة قصيرة..فكم يلزمني لكي أجدد إيماني بباقي الأمور؟" وقف و اتجه إلى الطاولة و وقع على الملف ثم سأل و هو يمده نحوها" ستذهبين إلى المؤتمر..أليس كذلك؟" ردت و هي تأخذ الملف من يده" بلى..سأذهب..و أنت؟" ابتسم و أجاب بسؤال" و هل ستتراجعين عن الذهاب ان علمت بأنني ذاهب؟" نظرت اليه و ردت" و لم قد أفعل؟ لا يعنيني ان كنت موجودا أم لا..لا أعتقد بأنني سأنتبه لوجودك من الأساس..عن اذنك أستاذ" و غادرت دون  أن تسمح له بالكلام ..
في منزلهما..أنهى فرمان تجهيز حقائبه للسفر و انتظر خروج بيليز من الحمام لكي يتحدث إليها..جلس على حافة السرير و أغمض عيونه لوهلة فَلاَح له وجه نازلي الطفولي المبتسم..صار رغما عنه يراها في كل مكان..و كلما أطبق جفونه..يسمع صوتها الرقيق يتردد في أذنيه..و يتذكّر طعم قبلتها الساحر و المميز..لقد حسمت الأمور بالنسبة إليه و صار قراره قطعيا و نهائيا..الحب القديم الذي جمعه ببيليز و العشرة الطويلة تمنعه من البقاء معها في علاقة بينما قلبه مع إمرأة أخرى..يريد أن يكون صادقا و صريحا معها لكي لا تكرهه و تحتقره في يوم من الأيام..يريد للإحترام أن يدوم بينهما حتى بعد انتهاء العلاقة..و حتى لو حدث ذلك بطريقة عكسية و أحبت هي رجلا آخرا و صارحته بذلك لإحترم رغبتها في الانفصال و لشكر صراحتها و وضوحها معه لأنه يؤمن بأن المشاعر قد تتغير يوما ما..قد يبرد وهجها و قد ينطفئ لهيبها..و عندئذ..إما أن ينجح الثنائي في إنقاذ ما تبقى من العلاقة..أو يفشلان و يذهب كل منهما في حال سبيله..و هو يدرك جيدا بأن الأمور بينه و بين بيليز لم تكن على ما يرام منذ وقت ليس بالقصير..و كان مع مرور الأيام يرى حقائق لم يكن يراها في السابق..كالإختلاف بينهما في الأذواق و الميولات..إضافة إلى انزعاجه من أغلب تصرفات بيليز و مواقفها المتعجرفة و السيئة..حاول جاهدا أن يتجاوز ذلك لكنه فشل..و لعل إعتراف نازلي هو ما لفت انتباهه إليها رغم إدراكه العميق بأنه يكن لها بعض المشاعر العميقة منذ بداية عمله معها..سمع وقع  أقدام بيليز يقترب فقال" هنيئا بيليز..تعالي و اجلسي..يجب أن نتحدث" جلست بجانبه و سألت بقلق" خيرا ان شاء الله؟ ما هو الأمر المستعجل الذي تريد أن تحدثني عنه؟" طأطأ فرمان رأسه و قال" بيليز..أنت تعلمين بأنني أكن لك كل الاحترام و التقدير..و بيننا عشرة طويلة و أيام كانت من أحلى أيام حياتي..لكن..الفترة الأخيرة..تغيرت الكثير من الأشياء بيننا..صحيح أننا اتخذنا قرارا بالارتباط الرسمي..لكن..ما أريد قوله..أنني لم أعد واثقا من رغبتي في الارتباط بك..و أريد أن ننفصل" ابتلعت بيليز ريقها بصعوبة و تمتمت بصوت مخنوق" هكذا إذا؟ ننفصل؟ بهذه البساطة؟ بعد كل هذه السنوات التي قضيناها معا؟ لماذا؟ هلا كنت صريحا معي و أخبرتني بالسبب الحقيقي" نظر إليها فرمان و أجاب" السبب هو قلبي الذي لم يعد يشعر بنفس الحب القديم تجاهك..إحترامي لك ثابت و لن يتغير أبدا..و هذا ما دفعني لمصارحتك..قلبي أصبح في مكان ثان مع شخص ثان..حاولت أن أهرب من هذه المشاعر و أن أنكرها و أقاومها و لكنني فشلت..أتمنى أن تتفهمي هذا و ألا يؤثر انفصالنا على العلاقة المهنية و الانسانية التي تجمعنا..و آسف لأنني خيبت أملك و تسببت لك في هذه الدموع التي أراها تسيل على خدك..أنا آسف من كل قلبي..لكنني لم أرد أن أخدعك و أكذب عليك..سامحيني" و وقف و أضاف" سأبيت هذه الليلة في منزلي..تصبحين على خير" و خرج..أما هي فصاحت بأعلى صوتها و راحت تحطم أغراض غرفة نومها قبل أن ترتمي على السرير و هي تقول" حسنا سيد فرمان..تريد أن تكون مع نازلي..أليس كذلك؟ لن أسمح لك بذلك أبدا..سافر الآن الى إزمير..و عند عودتك..كن مستعدا أنت و حبيبتك الجديدة للمفاجئة المدوية التي ستكون في انتظاركما" ..
في الصباح..التقى المسافرون في المطار..ياغيز، فرمان،فؤاد،باريش،تولاي،يافوز،هزان،نازلي،جينك و داملا..ركبوا الطائرة لمدة ساعة تقريبا قبل أن يصلوا إلى إزمير و منها استقلوا حافلة صغيرة الى قرية آلاتشاتي حيث يوجد الفندق الذي سنعقد فيه المؤتمر و الذي سيقيم فيه المدعوون..فندق يدعى بوتيك آلاتشاتي

المُتدرّبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن