21..جولة تطوعيّة

2.2K 79 15
                                    

قضى ياغيز ليلته مؤرّقا لا يقوى على النوم..عقله مشغول بأفكار عديدة..و الغضب يتملكه كلما تذكر ذاك الاتصال الغريب من أبيه..لم يظهر إسمه على شاشة هاتفه منذ أكثر من عشرين سنة..لم يكن يوما ضمن أولوياته أو اهتماماته..لطالما كان يرى في عيونه نظرة ازدراء و ضيق و كأنه يعتبره ثقلا يحاول العثور على طريقة مناسبة للتخلص منه فقط..لا يتذكر بأنه عانقه يوما أو قبّله أو حنى عليه كما يفعل الأب الحقيقي مع ابنه..لم يسأله يوما عن احتياجاته أو رغباته و لم يكن يخيّر قضاء اوقات فراغه معه..بل مع زوجته و كأنها الشخص الوحيد الذي يعنيه..لم يسمع منه يوما كلمة إطراء او ثناء رغم تفوقه الدائم في دراسته و رغم  إشادة جميع المدرسين به و بأخلاقه..انشغاله الدائم عنه و الهوة السحيقة التي كانت تفصل أحدهما عن الآخر خلّفت لدى ياغيز شعورا دائما بالنقص و الاحتياج..ليس نقصا في الأموال او احتياجا لها..بل نقص في المشاعر و العواطف و احتياج للتقدير و لإثبات الذات..احتياج لرؤية نظرة حب و فخر في عيون أبيه..احتياج لكلمة شكر او إطراء و للمسة رقيقة او حضن حنون..كبِر و هو يرى أطفالا و رجالا يرافقون آبائهم و يحظون بإهتمامهم و عطفهم..يراهم يمسحون على رؤوسهم و يربتون على أكتافهم بحنان فيتمنى أن يكون مكانهم..يسمعهم يرددون كلمة ابني حبيبي فينفطر قلبه أسى على نفسه و هو الذي لم يسمع هذه الكلمة من أبيه أبدا..بل كان في أول حياته طفلا منبوذا من أمه و في شبابه ولدا عاقا و فتى ملعونا و مطرودا من أبيه..كل ما سمعه منه كان كلمات التوبيخ و اللعنات و الدعاء السيء..إضافة إلى الصفعات التي كانت تنزل على وجهه في كل مرة لتُخلّف في قلبه جرحا لا يُشفى و لا يندمل..تقلّب ياغيز في فراشه دون أن يغمض له جفن فاستوى جالسا دون أن يضيء المصباح لكي لا يزعج فرمان النائم في السرير المجاور..لكن..يبدو بأنه شعر به و بقلقه ففتح عيونه و أضاء النور و هو يسأل" ياغيز..خيرا يا صديقي؟ مالذي يؤرقك؟" أجاب" آسف لأنني ازعجتك..لكنني..لم أقدر أن أنام..كنت سأخرج من الغرفة كي لا اوقظك..آسف" استوى فرمان جالسا و رد" لم أسألك لكي تتأسف لي..نحن الأطباء متعودون على النوم لساعات قليلة..و قلة النوم لا تزعجنا..لا عليك..أخبرني..ماذا حدث؟ هل تشاجرت مع هزان؟" هز رأسه بالنفي و قال" لا..لم نتشاجر..كنا قد جلسنا و تحدثنا بطريقة جميلة للمرة الأولى منذ أكثر من شهر..و الأمور بيننا تتحسن تدريجيا..الى أن وردني اتصال..من..والدي..حازم ايجمان..فجنّ جنوني..طلبت مني أن أرد عليه..لكنني لم أفعل..و أرسل الي رسالة صوتية..لم أسمعها..و ألقيت الهاتف في المسبح..اتصاله بعد كل هذه السنوات..و بعد كل ما حدث بيننا..أزعجني و ضايقني و جعلني أسأل نفسي آلاف الأسئلة التي لا أجوبة لها..أوف يا الله..أكاد أفقد صوابي" نظر إليه فرمان و رد" اهدأ ياغيز..لا داعي لكل هذا التوتر..هو اتصل و أنت لم ترد..لا تضخّم الأمر..إلا إذا كان لديك فضول لكي تعرف السبب الذي جعله يتصل بك..و في هذه الحال..تفضل..خذ هاتفي..و اتصل به..و جد إجابة لسؤالك..أما أن تبقى على هذه الحال فهذا لن يغير من الأمر شيئا..هيا..قرر أنت ماذا تريد أن تفعل" وقف ياغيز و أخذ يذرع الغرفة جيئة و ذهابا قبل أن يقول بإصرار" لن أتصل به..و لن أهتم..ان كان يريدني فليعد هو الاتصال..من يريدني يتصل بي أو يأتي إلي..لن أحرّك إصبعي من أجل شخص لم يعنيه وجودي أبدا و لم أر منه ما يسرني منذ كنت طفلا صغيرا..أتعلم ماذا سأفعل..سأنام..لكي أستيقظ في الصباح نشطا و قادرا على الوقوف على ساقيّ يوما كاملا" ابتسم فرمان و قال" حسنا..كما تريد..المهم أن تكون مرتاحا..بالمناسبة..نسيت أن أسألك..هل أخبرك السيد أورهان عن الجولة الطبية التطوعية التي يبحثون عن طبيب و مساعد للقيام بها في القرى و الضيعات الصغيرة هنا في إزمير؟" زم ياغيز شفتيه و رد" لا..لم يخبرني..هل تريد أن تذهب أنت؟" هز فرمان رأسه بالنفي و أجاب" لا أستطيع..برنامج المؤتمر لليومين القادمين سيكون كثيفا و عمليات الدماغ كثيرة..و أنا أريد أن أشرف عليها أو أشارك فيها..ما رأيك أن تذهب أنت و تصطحب معك هزان؟ و هذا سيمنحكما وقتا أكثرا للحديث عما يخصّكما..فماذا قلت؟" صمت ياغيز قليلا قبل أن يقول" و لم لا؟ انها فكرة جيدة..سأفعل..شكرا يا صديقي لأنك أخبرتني" ثم اتكئ على سريره و أضاف ممازحا فرمان" بما أنه سيكون لدي حق اختيار المساعد..أعتقد بأنني سأصطحب معي نازلي..شماتة بك فقط..لكي أبعدها عنك..و أنت.." لم يكمل كلامه لأن فرمان قذفه بالوسادة على وجهه و هو يقول" اخرس أيها الشرير البغيض..أنا و نازلي لن يفرقنا سوى الموت..هل فهمت؟ أتمنى أن تنتقم منك هزان شر انتقام و ألا تسامحك إلا بعد أن تعذبك كما يليق بك..مزعج بغيض" انفجر ياغيز ضاحكا و رمى عليه الوسادة من جديد و هو يخرج له لسانه..
في الصباح..أخبر ياغيز هزان بأن تجهز لنفسها حقيبة صغيرة تضع فيها منامة و بعض الأشياء الضرورية لقضاء يومين في جولة طبية حول القرى و الضيعات..ففعلت و انطلقا معا في السيارة التي خصصتها لهما اللجنة الطبية..في الطريق..اشترى هو لنفسه هاتفا جديدا ببطاقة جديدة و أعطاها هي مهمة تسجيل الأرقام المهمة التي يحتفظ بها دائما في مفكرته الصغيرة الموضوعة في جيبه..ثم فتح الراديو لتنطلق منه نغمات أغنية جميلة..كانت هي تسترق النظرات اليه من حين الى آخر و كأنها تريد أن تسأله عن أمر ما لكنها كانت مترددة..انتبه هو إليها فقال" إسألي..ماذا تريدين أن تعرفي؟ لديك وجه يفضح رغباتك و ما يدور في ذهنك..هيا..اسألي" سألت بعد صمت" ألن تتصل بأبيك؟" رد" لا..لن أفعل..و لن أرهق نفسي بالتفكير فيه أو فيما يريده مني..هل أخذت جوابك؟" تمتمت بصوت خافت" لكن..ألا ينتابك الفضول؟ ألا تريد أن تعرف سبب اتصاله المفاجئ بك؟ غريب أمرك بصراحة" لم يجبها بل راح يصفر على انغام الأغنية و الارتياح باد على ملامحه..توقفا في الطريق أمام مطعم صغير لكي يتناولان فطور الصباح قبل المواصلة..طلب هو من صاحب المطعم أن يجهز لهما فطورا دسما يأكلانه في الشرفة المطلّة على نهر صغير تحيط به الأشجار الوارفة و الأزهار الملونة و الفواحة..تأملت هزان المكان و قالت" انه مكان رائع..لو تعلم كم أعشق الطبيعة و هذه الأجواء البسيطة و المميزة..في ضيعتنا الصغيرة..كان والديّ كلما تأخرت في العودة الى المنزل يجدانني بجانب النهر..أنزل ساقيّ الحافيتين في الماء البارد و ألعب بالتراب المبلل..أتعلم..كنت أحب ايضا تسلّق الأشجار و قطف الفواكه..يا الله..كم أشتاق لتلك الأيام و لتلك الأجواء" أسعده انفتاحها في الحديث معه عن نفسها فسأل" منذ متى لم  تذهبي لزيارة أهلك هناك في الضيعة؟" تنهدت بحرقة و أجابت" منذ أن قررت مواصلة دراستي و الالتحاق بالجامعة..الناس في ضيعتي يفكرون بطريقة رجعية متخلفة ترفض تدريس الفتيات لأكثر من الباكالوريا..و الفتاة هناك..اما تتزوج باكرا و تنقطع عن الدراسة..أو تتعلم الخياطة مثلا..أو تبقى في المنزل الى أن يجد لها أهلها زوجا مناسبا..أبي و أمي دعما قراري و وثقا بي و ارسلاني لوحدي الى اسطنبول لكي أكمل دراستي و أصبح طبيبة كما حلمت منذ الصغر..تعرّضا بسببي لمضايقات كثيرة..و حاول اهالي الضيعة جعلهما يعدلان عن قرارهما..لكنهما كانا شامخين كأشجار الصنوبر المتماسكة تلك..لا ينكسران و لا يتراجعان..حتى أخويّ عارضاني.. و حاولا منعي..لكنهما لم يفلحا في ذلك..و ها أنا أمامك اليوم..أسعى لتحقيق حلمي و لإثبات نفسي أمام أهل ضيعتي..لعل نجاحي أنا يفتح الباب أمام الكثير من الفتيات الأخريات لكي يدافعن عن أحلامهن" أحضر الرجل مختلف الأطباق وضعها أمامهما فسكب ياغيز لها فنجان قهوة أعطاها إياه و قال" مع الأسف..مازال هناك الكثير من الرجال يفكرون بهذه الطريقة السيئة..يجب أن تتغير هذه الأفكار..آن لها أن تتغير..من حق كل إنسان أن يعيش كما يريد..و أن يحلم و يحقق أحلامه..دون عراقيل تعترض طريقه" ثم وضع يده على يد هزان و أضاف و هو ينظر إليها" ستنجحين هزان..و ستثبتين نفسك لأهل ضيعتك و للجميع..أنا واثق من نجاحك..أنت فتاة مثابرة و مجتهدة و ذكية..و إصرارك على النجاح و التفوق جليّ و واضح..المهم الا تسمحي لأحد بأن يعرقلك او يقف في طريقك..مهما كان..سيري في طريقك بثبات..و أنا معك..لن أتخلى عنك أبدا..و سأدعمك بكل الطرق الممكنة..أعدك بذلك" ابتسمت هزان و تمتمت" شكرا لك ياغيز" أبعدت يدها لكي تأكل ثم سألت" ما قصة هذه الجولة التطوعية؟ و ما هو برنامجنا لليوم؟" ارتشف رشفة من قهوته و أجاب" هذه الجولة اصبحت منذ سنوات تقليدا مقدّسا كلما كان هناك مؤتمر طبي او شيء من هذا القبيل..المناطق المجاورة تحتاج لالتفاتة من كل الأطباء..فالمستوصفات الصغيرة الموجودة لا تكاد تفي بالغرض..و تفتقر في اغلبها للمعدّات الضرورية التي يحتاجها المرضى..لهذا تستغل اللجنة الطبية فرصة تواجد الأطباء و ترسلهم الى مختلف المناطق لتقديم المساعدة اللازمة..في سيارتنا البيك آب هذه مثلا..نحمل معنا آلة تصوير بالأشعة من أحدث طراز و بعض الآلات الأخرى التي قد نحتاج اليها..سنذهب الآن إلى الضيعة القريبة و نزور المركز الطبي هناك..نكشف على بعض الحالات و نحول الحالات الطارئة الى المستشفى المركزي..ان أنهينا باكرا..نمرّ إلى الضيعة التي تليها و نواصل العمل بنفس الطريقة..و لا تقلقي بشأن المكان الذي سننام فيه..اللجنة الطبية حجزت لنا غرفتين في فندق سياحي يقع في منطقة بوزداغ على بعد خمس كيلومترات من هنا تقريبا..سنرى هناك تلك الجبال الشاهقة التي تكسوها الثلوج البيضاء في الشتاء و يزورها الجميع عندئذ للتزلج و قضاء وقت رائع في اللعب بكرات الثلج..الفصل الآن ربيع و الطقس معتدل و دافئ لذا لا تخافي..لن نجد صعوبة في التنقل" ابتلعت هزان قطعة الخبز التي طلتها بالشوكولاطة و ردت" هذا جيد إذا..ستكون هذه فرصة رائعة لاكتشاف المكان هنا..فأنا لم أزر إزمير من قبل..كل ما اعرفه عنها بعض المعلومات و الصور التي وجدتها على الانترنات" علقت عيون ياغيز بشفاهها التي بقيت آثار الشوكولاطة على جوانبها..مد يده و أزال تلك الآثار ثم لعق إصبعه..ارتبكت هزان و هربت بعيونها من نظراته..فإبتسم و واصل تناول فطوره..و بعد لحظات..كانا قد ركبا سيارتهما من جديد و تابعا طريقهما..
في قاعة المؤتمر..ألقى فؤاد محاضرة عن الجراحة التجميلية و بعض آلياتها الجديدة كالفيلر و البوتوكس و حقن الشد قبل أن يقدم حالة جراحية استعجالية لفتاة تعرضت لحروق بليغة شوهت جبينها و وجنتها و طرح بعض الأسئلة حول الإجراء الطبي المتبع و هو يمنّي النفس بأن تكون نازلي هي المساعدة التي ستنجح في الإجابة لكي ترافقه خلال العملية لكن المساعد الإسباني سبقها و أجاب..و خلال فترة الراحة..كانت نازلي تقف مع داملا عندما اقترب فؤاد منهما و قال" كيف حالكن يا فتيات؟" أجبن معا" بخير أستاذ" نظر إلى نازلي و سأل" هل تريدين أن تنظمّي إلى عملية التجميل التي سأجريها بعد قليل؟" لم تجبه هي بل تولى فرمان المهمة و أجاب عنها" لا..لن تستطيع الانظمام اليك..لأنني أحتاجها معي في عملية دماغ دقيقة و ستبث مباشرة على الموقع الطبي العالمي..أتعلم أي نوع من العمليات ستكون؟ عملية دماغ لشخص مستيقظ..سنعالج ارتعاشة يد للاعبة كرة يد معروفة" علت البهجة و الحماس ملامح نازلي و قالت" ماذا؟ هل سنجري هذه العملية حقا؟ لطالما حلمت بذلك..هذا رائع حقا" وضع فرمان يده على كتفها و رد" نعم..هذا حقيقي..اذهبي و استعدي لكي نغادر معا إلى المشفى..سأنتظرك أمام المدخل..هيا..لا تتأخري" ركضت نازلي بحماس أما فؤاد فبقي ينظر إلى فرمان بطريقة غريبة..التفت فرمان اليه و سأل" خيرا؟ لماذا تنظر إلي هكذا؟" قال فؤاد" سأسأل مباشرة لأنني صرت ألاحظ هذا كثيرا..مالذي بينك و بين نازلي؟ هل هناك علاقة خاصة تجمع بينكما؟" أمسكه فرمان من ياقة قميصه و أجابه و هو يجز على أسنانه" هل جننت يا هذا؟ ما هذا الإدعاء المشين الذي توجهه لي؟ نازلي طالبتي و مساعدتي المميزة..لا أكثر و لا أقل..و ان كنت اريدها أن تساعدني في عملية مهمة كهذه فهذا من أجل أن أدعمها في مسيرتها المهنية..و ليست لدي أية غايات أخرى..هل فهمت؟" أبعد فؤاد يديه عنه و رد" نعم..فهمت..أنا آسف..لكن..هناك شيء خاص..بينكما..في تصرفاتكما..في نظراتكما..لا أدري..لهذا سألت..أحيانا يبدو لي..أنك تغار عليها مني..و تحاول بكل الطرق الممكنة إبعادها عني..لا تنظر الي هكذا..و لا تغضب..هذا ما شعرت به..لكن..ما دمت قلت أنك لا تراها سوى مساعدة لك..فهذا يكفيني" حملق فيه فرمان بإستغراب و سأل" عفوا؟ يكفيك لماذا؟ مالذي تريده من نازلي؟" ابتسم فؤاد و أجاب" بصراحة..أنا معجب بها..و أعلم بأن العلاقات بين الأطباء و المساعدين ممنوعة..لكنني سأخبرها..و سنتصرف حسب ردها..المهم أن نكون معا" جمع فرمان قبضته و احتقن وجهه غضبا و كان سيلكم فؤاد لولا أنه سمع صوت نازلي و هي تسأل" أستاذ فرمان..هلا ذهبنا" تبعها الى الخارج و الغضب يأخذ منه كل مأخذ..فتح السيارة و جلس خلف المقود دون أن ينطق بحرف واحد..ركبت نازلي بجانبه فإنطلق مسرعا.. قالت هي  بحماس" لا اكاد أصدق بأنني سأكون جزءا من عملية مهمة كهذه..الحماس سيقتلني..انت لا تلام طبعا..لأنك شهدت عمليات كثيرة كهذه..و معتاد عليها..أما أنا..ف.." صمتت فجأة عندما لاحظت أنه صامت و متجهّم..وضعت يدها على ذراعه و سألت" حبيبي..مالأمر؟ لماذا تبدو منزعجا و غاضبا هكذا؟ هل سمعت من فؤاد كلاما ضايقك؟" ضغط على الفرامل فجأة و صاح بعصبية" نعم..سمعت من ذلك السافل كلاما أزعجني و أفقدني صوابي..لو لم تصلي أنت في الوقت المناسب لكنت ضربته و حطمت فمه و انفه..أكاد أجن..أتعلمين ماذا قال لي؟ انه معجب بك..و يريد أن يخبرك بذلك..و سيتصرف معك حسب ردك..علاقة خفية أو ماذا؟ كنت سأنطق بكل شيء..و أخبره بأن هذه الفتاة حبيبتي و تخصني و لن أسمح لأحد بأن يأخذها مني..حتى مجرد تفكيره فيك يخنقني..يقتلني..لم أستطع أن افتح فمي..لكي لا أؤذيك..أقسم لك بأنني خفت عليك أنت..و لم أخف على نفسي..لطخة كهذه في تاريخك المهني ستؤذيك و تجعل لك صيتا سيئا بين المساعدين..و ستنتشر الشائعات المغرضة و المسيئة..لولا هذا لكنت اخبرته بالحقيقة و أخرسته على الفور..أوف يا الله..أشعر بالنار تلتهم جسدي و أعجز عن السيطرة عليها و .." قاطعته بإحتضانها له بكل قوتها و هي تهمس" و هكذا؟ هل هدأت قليلا؟ ام تحتاج إلى مسكّن أقوى؟" دفن وجهه في شعرها و احاط جسدها النحيل بيديه و خيّم الصمت عليهما للحظات قبل أن يقول بصوت مبحوح" لا أحتمل هذا..مجرد فكرة أن أراك مع شخص آخر..و أن يأخذك مني..تقتلني..و تفقدني صوابي..متى ينتهي هذا العام؟ أتطلع لانتهاءه لكي تنتهي فترة تدريبك و تصبحين طبيبة إختصاص و عندها سنعلن علاقتنا أمام الجميع..دون أي خوف أو خجل..أريد أن أصرخ بأعلى صوتي أمام العالم كله بأنني أحبك و أعشقك و بأنك حبيبتي و إمرأتي و روحي و كل ما أملك..ليتني أستطيع أن أفعل هذا الآن..ليت" رفعت نازلي عيونها نحوه و همست" فرمان..أنا لك أنت..لوحدك..و لن أكون لأي رجل آخر..أساسا انت الرجل الوحيد في عيوني..البقية لا يهمونني و لا أراهم..و لا تقلق بشأن فؤاد..أنا سأعطيه الرد المناسب في الوقت المناسب..سأضع له حدا لن يتجاوزه أبدا..المهم ألا تحزن أنت أو تغضب..يلزمنا بعض الصبر لكي نتجاوز كل هذا..و لدي إيمان ثابت بأن ذلك الوقت الذي سنعلن فيه علاقتنا للجميع سيأتي قريبا و لن يمنعنا أحد من البقاء معا..كن واثقا من هذا" طبع فرمان قبلة رقيقة على جبينها قبل أن يقول" ليأتي هذا اليوم بسرعة..هذا كل ما أتمناه..اما الآن..فلدينا عملية تاريخية في انتظارنا..هيا لنذهب قبل أن أغير رأيي" ابتسمت نازلي و ابتعدت عنه فداعب وجنتها و انطلق بالسيارة..
في قرية صغيرة تدعى شيرنجه..كان ياغيز يقوم بفحص بعض المرضى في مستوصف القرية الصغير..و هزان تساعده لساعات طويلة..اكتشف ياغيز بعد قضاء اغلب يومه هناك بأن المستوصف في حالة يرثى لها..نقص في الآلات الطبية..و نقص في الإطار الطبي..هو طبيب عام يأتي لمرة واحدة في الأسبوع..و لا يجري أكثر من عشرين كشف في اليوم..ثم يغادر..و الحالات المستعجلة كثيرة..فقام بتحويل المرضى ذوي الحالات المتأزمة الى مستشفى إزمير المركزي مع جواب توصية يشرح فيه الوضع الطبي لهم و يطلب الاهتمام بهم بشكل عاجل..أما هزان فوجدت في ياغيز صبرا و سعة صدر لم تعدهما فيه سابقا..كانت الابتسامة لا تفارق وجهه و طريقة تعامله مع المرضى بها كثير من التعاطف و التفهم..كانت تعي جيدا بأنها صارت ترى فيه شخصا جديدا لا يشبه ذلك البارد المتعجرف الذي قابلته في المرة الأولى..صارت ترى فيه تلك الصورة التي رأتها ذات مرة في أعماقه و بحثت عنها طويلا..و خاب أملها لمرة في طريق بحثها هذا..قبل أن ينتبه هو و يتجاوز أخطاء الماضي بطريقة جعلتها تفكر بجديّة في مسامحته و في فتح صفحة جديدة معه..و كانت طوال اليوم تتأمله بعيونها و تراقب حركاته و سكناته كأنما لتطمئن عقلها بأن ما تراه صحيح و بأنه يستحق منها فعلا فرصة أخرى..فالحب الذي في قلبها له لم يخمد يوما و لم تنطفئ ناره..و مشاعرها تجاهه لم تتغير و لم تهدأ..لكنها كانت غاضبة منه و من نفسها..منه..لأنه خيّب أملها و آذاها بعد أن وثقت به..و من نفسها..لأنها لحقت احساسها المبني على مجرد حدس و لأنها سمحت لنفسها بأن تتجاوز حدودها معه..فإنكسر قلبها..و انجرحت كرامتها..و احترقت روحها..فاتخذت من القوة و البرود و الثبات درعا تحمي به نفسها و تخرس به صوت قلبها الذي لم يتعلم درسه بعد كل ما حدث..أما اليوم..فهي ترى ياغيز الذي حلمت به و تمنته..ياغيز البريء الطاهر..ياغيز المتواضع العطوف..ياغيز الشهم و النبيل..ياغيز البروفيسور العظيم الذي يكسب القلوب بتواضعه و بقربه من الطلبة و من المرضى و من الناس..رغم معرفتها الأكيدة بأن ما يفعله من أجلها ليس بالامر السهل بالنسبة إليه..فلطالما كان رجلا مغرورا يرى نفسه بعيدا كل البعد عن كل تشبيه أو منافسة..و له عزة نفس لا يقبل بأن تهتز بأي شكل من الأشكال..لكن مجرد المحاولة هي النجاح بعينه بالنسبة إليها..لأنها تثبت لها مشاعره الصادقة تجاهها..و تؤكد حبه لها..و هو الرجل الذي كان يكره الحب و يهرب منه..على الساعة الرابعة مساءا..غادر ياغيز و هزان المستوصف و ركبا السيارة متجهين إلى فندق بوزداغ القريب من المنطقة..كان التعب و الارهاق باديان على كل منهما..ركّز هو في السياقة..أما هي فكانت تتأمله في صمت..و كأنها تحفظ تفاصيل وجهه في ذاكرتها..و تحفر كل تفصيلة من تفاصيله عميقا في عقلها..لم تدري كيف فرّت تلك الكلمة من بين شفتيها و هي تنظر إليه..و كأنها عقلها تواطئ مع قلبها من جديد..و أمر شفاهها بالنطق بمشاعرها..فهمست بصوت خافت" حبيبي" التفت هو اليها على الفور و سأل بلهفة" عفوا؟ هل قلت شيئا؟" انتبهت لنفسها و أبعدت عيونها عنه و هي تجيبه بإرتباك واضح" أنا..لم..أقل شيئا..لم أقل شيئا..انتبه انت للسياقة..هل مازال الطريق طويلا؟" ابتسم بخفة و رد" لا..لم يبقى الكثير..عشر دقائق و نكون في الفندق..هل أنت متعبة؟ هل تريدين أن نتوقف لكي ترتاحي قليلا؟" هزت رأسها بالنفي و أجابت" أنا متعبة..لكن..لا تتوقف..أريد أن نصل لكي ارتاح في غرفتي..أريد أن أستحم و آكل و أنام..اليوم كان متعبا و طويلا" قال و الابتسامة لا تفارق شفتيه" لكنه استحق هذا التعب..يوم مميز..قدمنا فيه المساعدة لمن يستحقها..ماذا نريد أكثر من ذلك؟ ..رؤية البسمة على وجوه أولئك الناس البسطاء أسعدتني و دفّأت قلبي..و كأنها المرة الأولى التي أرى فيها قيمتي الحقيقية في عيون الناس..قيمة قوامها المجهود و التعب و تقديم المساعدة و القرب من الناس..النزول هنا على أرض الواقع لا يشبه ما نفعله هناك..في مشفى خاصة..يأتي من لديهم أموال لكي يتعالجوا و يخففوا آلامهم..أما هنا..فالناس تبقى تحت رحمة ظروف العيش السيئة و انعدام المال او قلّته..فيتضاعف الألم و تزيد اللوعة و الأسى..هذا هو الفرق..و هذه هي القيمة الحقيقية للطب برأيي" نظرت إليه هزان بإعجاب كبير نطقت به عيونها و هي تسمع كلامه الذي لم تتوقع يوما أن تسمعه منه..وصلا الى الفندق بعد دقائق..فنزلا و اتجها إلى الاستقبال..استقبلتهما موظفة شابة بترحيب حار ثم أعطتهما مفتاحا واحدا..نظر ياغيز إلى هزان ثم إليها و سأل" عفوا آنستي..نحن شخصان كما ترين..و اللجنة الطبية حجزت لنا غرفتين..فلماذا أعطيتني مفتاحا واحدا؟ ألا توجد غرف شاغرة؟" ردت الموظفة" مع الأسف..لا يوجد..الفندق ممتلئ و الغرف كلها محجوزة..و ممثل اللجنة الطبية الذي اتصل لكي يحجز لكما طلب مني أن أحجز غرفة واحدة" قطب ياغيز جبينه و سأل من جديد بعد أن لاحظ علامات الانزعاج على وجه هزان" و من يكون هذا السيد؟ هلا أخبرتني بإسمه" نقرت الفتاة على حاسوبها و بحثت لوهلة قبل أن تجيب" الدكتور فرمان ار يغيت..هو من اتصل بي" ضحك ياغيز و قال" شكرا لك يا آنسة..بالإذن" ردت"أهلا و سهلا بكما.. نتمنى لكما إقامة طيبة في فندقنا" مشى ياغيز بجانب هزان و همس" انه فرمان..لقد فعل هذا لكي يمنحنا فرصة للحديث معا و لإصلاح ما بيننا" سألت بقلق" و هل يعرف ما بيننا؟" رد" ليس بالتفصيل..لا تخافي..لست غبيا لكي أخسر صديقا رائعا كفرمان إذا علم بالكارثة التي فعلتها..يعرف فقط ما يجب أن يعرفه..لا تقلقي" صعدا إلى الطابق العلوي حيث غرفتهما..نظرت هزان إلى الباب و سألت" اييي..و ماذا سنفعل الآن؟ هل سنبقى حقا في غرفة واحدة؟" التفت اليها و رد" سنفعل..ليس بيدنا شيء آخر..أنا آسف لكنك مضطرة أن تتحمليني لليلة واحدة..و لا تخافي..لست منحرفا لكي أفعل شيئا يؤذيك..تفضلي" ثم فتح الباب و سمح لها بالدخول و تبعها الى الداخل..الغرفة فسيحة و واسعة..بها سرير كبير و أريكة و طاولة و بعض الكراسي و خزانة للملابس اضافة إلى حمام ملتصق بها ..

المُتدرّبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن