6..هروب

1.9K 82 13
                                    

شعرت بيليز بأنها تختنق عندما سمعت ما قاله فرمان عن نازلي..وقفت و اقتربت منه و همست بصوت خافت" حبيبي..لست مضطرا لفعل ذلك..أعلم بأنها المساعدة المفضلة لديك..لكنك لست حارسها الشخصي..لا داعي لتلفيق حكاية كي تحميها..ثم انه مجرد توقيف احترازي الى أن تثبت براءتها" نظر اليها و قال بصوت مسموع" و لماذا تقولين هذا بصوت خافت؟ أنا لا اقوم بتلفيق حكاية لحماية نازلي..ما قلته صحيح..لقد كنا معا في غرفة التغيير..و بإمكانكم التثبت من مشاهد الكاميرا..أنا آخر من رأى السيدة هاندان بعد أن تم نقلها الى غرفتها..راقبت مؤشراتها الحيوية و تركتها ترتاح..ثم التقيت بنازلي التي كانت قد قضت ليلتها تركض هنا و هناك بين المصابين و الجرحى..لن أسمح لكم بتحميل مساعدتي وزر أخطاء أمها" جمدت بيليز في مكانها و هي تسمع دفاع حبيبها الشرس عن مساعدته..نظر ضابط الشرطة الى نازلي و قال" حسنا يا آنسة..سنعود الى مشاهد الكاميرا و نتثبت مما قاله الدكتور..لا تغادري المشفى الى أن نسمح لك بذلك..مفهوم؟" هزت نازلي برأسها إيجابا و فتحت الباب و خرجت..
في سيارة الاسعاف العائدة من الميناء..جلس ياغيز قبالة هزان فيما ركب جينك بجانب السائق..تأملته بعيون تحاول استشفاف باطنه و الكشف عما يخفيه في أعماقه من صفات قد تجعله انسانا جديرا بالاهتمام و الاحترام على حد السواء..التهمت عيونها وجهه الوسيم ذي البشرة البيضاء و العيون البلورية الوسيعة..أنفه الدقيق و شفاهه الرقيقة..خصلات شعره الذهبية التي يقطر منها الماء..كان يمسك تقرير الحالات و يملأه بقلمه المميز الذي نقش على طرفه اسمه..شعر بنظراتها المتفحصة فرفع عيونه نحوها..التقت نظراتهما فسارعت هي الى ابعاد عيونها..حان وقته هو لكي يتأملها..شعرها الليلكي المتناثر على كتفيها..عيونها البنية الجميلة..شفاهها الممتلئة و التي مازال يشعر بطعمها الممزوج بمياه البحر عالقا بشفتيه عندما طبق عليها التنفس الاصطناعي..عاد يملأ تقاريره دون أن ينطق بكلمة واحدة..توقفت سيارة الاسعاف أمام المشفى فترجلا و مشيا معا جنبا الى جنب الى الداخل..اعترضتها نازلي و همست" هزان..أريدك في أمر" و سحبتها معها الى غرفة المساعدين..أما هو فاتجه الى مكتبه لنيل قسط من الراحة بعد ليلة حافلة بالأحداث..أغلقت نازلي باب الغرفة خلفها و قالت" هزان..ماذا حدث لك؟ مالذي بلل شعرك هكذا؟" ارتمت هزان على المقعد و أجابت و هي تبتسم كالبلهاء" لقد وقعت في البحر..و كدت أغرق..فأنا لا أجيد السباحة..لكن الأستاذ ياغيز أنقذني" حملقت فيها نازلي و سألت" و لم تبتسمين هكذا؟ لقد عدت لتوك من الموت..هل هذا أمر مفرح؟" مررت هزان يدها على خصلات شعرها و ردت" لا..لكنني رأيت وجها آخرا للأستاذ ياغيز..وجه لا يعرفه الآخرون..وجه يجيد اخفاءه عن العيون..وجه موجود خلف قناع العجرفة و الغرور و التكبر التي يحرص على اظهاره للجميع..لا أعلم..ربما لكي يحمي نفسه..لكنني رأيت فيه للحظات رجلا شهما و شجاعا و متواضعا..لم يفكر طويلا قبل أن يبادر الى انقاذي و اخراجي من الماء..لولاه لكنت ميتة الآن..هل فهمت ما أعنيه؟" زمت نازلي شفتيها امتعاضا و قالت" بصراحة..لا أرى أمرا مميزا فيما قام به الأستاذ..أي شخص مكانه كان سيقوم بانقاذك..و هذا ليس معروفا او جميلا منه..بل واجب..لذا..لا داعي للمبالغة عزيزتي..و لا تنسي..انه الأستاذ ياغيز..انه يحرق كل من يقترب منه بنار طباعه السيئة..فلا توهمي نفسك بأشياء لا وجود لها" قطبت هزان جبينها و فكرت لوهلة قبل أن تغير الموضوع و هي تقول" دعك مني الآن..فيم أردت الحديث معي؟" اجابت نازلي" أوووه لو تعلمين ما حصل معي..لقد فرّت أمي من المشفى..و أنا الآن تحت مراقبة الشرطة..و ممنوعة من مغادرة المبنى الى أن تثبت براءتي" حملقت فيها هزان و كأنها لا تصدق ما تسمعه..صاحت بها" ماذا تقولين؟ متى حدث هذا؟ و ماذا ستفعلين الآن؟ و السيدة بيليز ماذا فعلت؟ أنت في موقف لا تحسدين عليه..يجب أن نجد حلا..هيل..انهظي" ابتسمت نازلي و ربتت على كتف صديقتها ثم قالت" اهدئي هزان..لقد قام الأستاذ فرمان بحل الموضوع" و أخبرتها بما حصل فصمتت هزان مطوّلا قبل أن تقول" نازلي..هل يوجد شيء بينك و بين الأستاذ فرمان؟ و لا تحاولي أن تنكري..لقد انتبهت لك و انت تنظرين اليه و عيونك تنطق بحبك له..فهل يبادلك هو ذات الشعور؟" طأطأت نازلي رأسها بحزن و تمتمت بصوت خافت" لن أنكر أنني أحبه..نعم..أنا أعشقه منذ  اليوم الأول الذي وضعت به ساقي في هذا المشفى..كنت أعمل بجد لكي أسمع منه كلمة إطراء واحدة تدفئ قلبي التعيس..اجتهدت و طورت من نفسي و نجحت في حجز مكان مميز لي بين باقي المساعدين حتى صار يناديني بالمساعدة المدهشة..و لو تعلمين كم تسعدني تلك الكلمة..و كم تحزنني في آن واحد..من جهة أدرك بأنه يراني و يشعر بوجودي بفضل عملي و اجتهادي..و من جهة أخرى أتأكد بأنه لا يرى فيّ سوى هذه المساعدة..و لا يراني كنازلي المرأة التي تعشقه..و كيف له أن يراني و هو مرتبط بإمرأة غيري و يحبها و يعيش معها في نفس المنزل..و ليس مستبعدا أن يتزوجا قريبا..انها مشاعري الخاصة التي أخفيها في داخلي هزان..اما الأستاذ..فلا يعلم عنها شيئا" نظرت اليها هزان و قالت" ربما يكون ما تقولينه صحيح..لكن..في طريقة دفاعه عنك و حمايته لك أمر مختلف..و علاقته بك لا تشبه اية علاقة أخرى لأستاذ بمساعدته..بينكما رابط قوي لا يمكن للعين ألا تراه" ارتمت نازلي على الأريكة المقابلة و قالت" ارجوك هزان..لا تغذي تلك الآمال اليائسة داخلي..لأنني صرت اجد صعوبة في السيطرة على مشاعري و أنا أمامه..و لا أريد له أن يحتقرني..لننم قليلا قبل أن يبدأ موعد الجولة التفقدية" صمتت هزان و استلقت على اريكتها و راحت تفكر في كلام نازلي بخصوص ياغيز..
في مكتب بيليز..جلس فرمان بينما راحت هي تروح و تجيء و الغضب باد على وجهها..قال" بيليز..هلا جلست لو سمحت..أنا متعب جدا..و صوت كعبك العالي يزعجني" التفتت اليه و رفعت حاجبها استغرابا و هي تصيح" هكذا إذا؟ صرت أزعجك؟ و منذ متى صرت مصدر إزعاج لك سيد فرمان؟ منذ متى صرت تراني هكذا؟ ها؟ و كيف سمحت لنفسك بأن تضعني في ذلك الموقف المحرج أمام مجلس الادارة و ضباط الشرطة؟ و من تكون نازلي لكي تدافع عنها بإستبسال و استماتة و كأنك ولي أمرها؟ أإلى هذه الدرجة تعني لك تلك الفتاة؟ هل بدأت تحس بشيء تجاهها؟ اجبني..هيا" انتفض فرمان واقفا و جذبها من ذراعها بشيء من العنف و هو يصيح" ماذا تقولين يا هذه؟ هل جننت؟ أشعر بماذا ؟ و تجاه من؟ نازلي؟ لا بد أنك فقدت صوابك..إنها تلميذتي و مساعدتي و واجبي أن أحميها..لا اكثر و لا أقل..هل أصمت لمجرد أنني خائف من أن تفهم تصرفاتي بطريقة خاطئة و أقف مكتوف اليدين و أنا اراكم تظلمونها و توقفونها عن العمل؟ لا..لن أفعل ذلك..دفاعي عن نازلي أو عن أي متدرب او مساعد آخر أمر طبيعي أفعله بدافع من ضمير حيّ و إحساس دائم بالمسؤولية تجاههم..لا داعي لتأويل ذلك بطريقة خاطئة" انتزعت بيليز يدها منه و قالت" فرمان..لا تحاول أن تنكر..أنت تعامل هذه الفتاة بطريقة مختلفة و مميزة عن البقية..لم أرك يوما تدافع عن أحدهم كما تدافع عنها..لم أرك يوما تقرّب أحدهم منك كما تفعل معها هي..لم أرك يوما تهتم بتفاصيل أحدهم كما تهتم بتفاصيلها هي..و العناق الذي عانقتها اياه في غرفة التبديل..ماذا تسميه؟ عناق بريء بين أخوين؟ صديقين؟ رفيقين؟ أب و ابنته؟ هل هو هكذا؟ طبعا لا..أنا لا اراه عناقا بريئا أبدا..لقد تابعت المشاهد..كنت تنظر اليها بطريقة غريبة و تحتضنها بشكل مريب..و كأنك.." قاطعها بعصبية" و كأنني ماذا؟ اصمتي بيليز و لا تستفزيني أكثر من ذلك..لست مضطرا لتحمل هراءك هذا..نازلي مميزة عندي لأنها أفضل مساعدة بين زملاءها..انها مهذبة و محترمة و هادئة..ذكية و لمّاحة..تفهمني من نظرة عين..لا احتاج الى الكثير من الجهد و أنا أعمل معها..أتوقع لها مستقبلا باهرا في مجال الطب..و هذا ما يجعلني أقربها دونا عن البقية..هل فهمت؟ و الآن..عن اذنك" هم بالخروج فأمسكته بيليز من يده و قالت" انتظر..لا تذهب..أنا آسفة..لم أقصد ازعاجك..لكنني..أغار عليك..ماذا أفعل؟ ألا يغار المحب على حبيبه؟ اعذرني حياتي" نظر اليها و رد" عديني أولا بأنك لن تكرري هذا الهراء على مسمعي مرة أخرى" عانقته بقوة و هي تردد" أعدك حبيبي..أعدك" ..
..في مكتبه..استلقى ياغيز على الأريكة و نام بهدوء بعد أخذ منه التعب كل مأخذ..مرت ساعتان تقريبا و هو نائم بعمق قبل أن ينتبه الى الباب و هو يفتح..لم يفتح عينيه و لم يتحرك..كانت هزان هي من دخلت تسير على أطراف أصابعها..وضعت ملفا أعطاها إياه الدكتور يافوز لكي توصله الى ياغيز..و همت بالمغادرة قبل أن تتوقف للحظات تتأمل ذلك الرجل النائم كالملاك..ملامح وجهه بريئة و جميلة..و تنفسه هادئ و منتظم..كان قد رآها و هي تضع الملف على الطاولة ثم عاد للتظاهر بأنه نائم..لم تتزحزح هزان من مكانها خطوة واحدة..عقلها يردد كلمات نازلي التي تحذرها من الاحتراق بنار هذا المغرور..و قلبها يخفق بشدة و عيونها تتفحص كل تفصيلة فيه..كانت تعيش صراعا داخليا بين رؤية الأمور كما هي عليه..و بين التأمل في العثور على حقائق جديدة لم يسبق لغيرها أن رآها..قالت تحدث نفسها و هي ماتزال واقفة أمامه" من أنت ياغيز؟ من تكون في الحقيقة؟ أي وجه هو وجهك الحقيقي؟ أية أسرار تخفيها داخلك؟ هل أصدق حدسي و أتبعه الى الآخر متحملة عواقبه مهما كانت؟ أم أبتعد قدر الإمكان و أدع بيننا مسافة الأمان اللازمة؟ لم أنسى أنك أستاذي..أنا التي لم تسمح لنفسها بتجاوز الحدود التي لطالما رسمتها بينها و بين أساتذتها..أنا التي لم يسبق لي أن لفت انتباهي رجل ما أو أعجبت بشخص ما..أنا التي لم يجد الحب طريقا الى قلبها فيما مضى..لماذا تغريني أنت بالغوص في عوالمك العميقة؟ لماذا تستفز عقلي و قلبي و كل حواسي و كأنها مهمتي أن أثبت للجميع بأنك تخفي خلف قناع العجرفة و الغرور الذي ترتديه وجها نقيا بريئا لم يروه بعد؟ مالذي جعلك تنقذ حياتي فأصير مدينة لك بها و أنا التي لم أكن مدينة لأحد يوما سوى أمي و أبي؟ هل أسمع تحذيرات نازلي و الآخرين و أبتعد قبل أن أتورط؟ أم أخاطر و أفتح الباب أمامك قانعة و راضية بما سأراه منك؟" انتبهت لنفسها بعد بعض الوقت فقالت بصوت مسموع" كفى هراء هزان..اهتمي بعملك و اصرفي عنك هذه الأفكار" و خطت نحو الباب لكي تخرج لكنه استوقفها بسؤاله و هو يفتح عيونه و ينظر اليها" عن أية أفكار تتحدثين أيتها المتدربة؟" ارتعشت يدها التي وضعتها على مقبض الباب و جمدت في مكانها و هي تسمع صوته..استوى هو في جلسته و نظر اليها و كرر سؤاله" ألن تخبريني عن الأفكار التي راودتك و أنت تقفين أمامي و تتأملينني ايتها المتدربة؟" التفتت اليه و أجابت و هي تحاول أن تسيطر على ارتعاشة صوتها" أستاذ..آسفة لأنني أيقظتك..انها عادة سيئة لم أستطع التخلص منها..أتحدث بصوت عال و أنا أفكر..كنت أفكر في وضع المريض الذي حدثني عنه الدكتور يافوز..حالته صعبة و معقدة و .." وقف و اقترب منها و هو يقاطعها" و هل كان تقرير حالة المريض مكتوبا على وجهي؟ لأنك وقفت تتأملينني لبعض الوقت و كأنك صنم دون حراك..نعم..لا تستغربي..رأيتك..و تظاهرت بالنوم..فلا داعي للكذب..و الآن..أجيبي..ما هي الأفكار التي راودتك و أنت تنظرين الي؟" تقدم نحوها فوجدت نفسها محاصرة بين الباب و بين جسده..احمر وجهها خجلا و تسارعت أنفاسها و لم تعد تدري بم تجيبه..اخترعت كذبة سريعة و قالت" أستاذ..الحقيقة أنني كنت أفكر في هدية أقدمها لك لقاء ما فعلته معي اليوم..لقد أنقذت حياتي و .." وضع ياغيز اصبعه على شفتيها و قرب وجهه منها و هو يهمس بصوت مبحوح" ششششش...اصمتي هزان و كفاك كذبا..لأنني لا اصدق حرفا واحدا مما تقولين..عيونك هذه التي كانت تلتهم تقاطيعي تكذّب لسانك و تقول الحقيقة..فلا تخفي عني شيئا..و قولي الحقيقة..فيم كنت تفكرين؟ هل كنت راغبة في الاقتراب  مني أكثر مثلا؟ هل كنت تريدين أن تلمسي وجهي بأصابعك مثلا؟ هل كنت تريدين أن تمرري يدك على شعري مثلا؟ أو ربما قد تكون راودتك الرغبة في تقبيلي على سبيل المثال..فأي هذه الأفكار قد راودتك؟" قطبت هزان جبينها و ردت بصوت متلعثم و هي تبعد يده عن فمها" أرجوك أستاذ..ما تقوله غير مسموح بيننا..ممنوع..لا يمكن..أنت استاذي..و أنا طالبتك..و لا يمكن أن أفكر بهذه الطريقة..مستحيل" ابتسم ياغيز و قال" ألا تعلمين بأن المستحيل يستغرق وقتا لكي يصير ممكنا يا آنسة؟ ألا تعلمين بأن أكثر ما نرغب به و ما نتمناه هو الممنوع عنا؟ فلا تتحدثي حديثا تكررينه كالببغاء لانك سمعته من هنا و هناك..انظري الى نفسك..لماذا تهربين بعيونك مني ان كان ما قلته صحيحا؟ لماذا ترتجفين هكذا و أنا قريب منك؟ هذا و أنا لم أفعل شيئا بعد..فماذا إذا مررت يدي هكذا على وجهك؟" و راح يمرر اصابعه الرقيقة على جبينها و حاجبيها و خديها و أنفها قبل أن يتوقف بها على شفتيها راسما حدودها ببطء مميت..أغمضت هزان عيونها و استمتعت بحركة يده على تقاطيعها..غلت الدماء في عروقها و تهدجت أنفاسها و هي تشعر به يقرب فمه من أذنها و يهمس بصوت خافت" و ماذا اذا داعبت خصلات شعرك هكذا؟" و لامست يده شعرها ببطء قبل أن تستقر على رقبتها و تتحرك معها صعودا و نزولا..شعرت هزان بأنفاسه تلفح وجهها و سمعت صوته يقول" افتحي عيونك و انظري الي" و كأن كل حواسها تأتمر بأمره و رهن اشارته..فتحت عيونها و نظرت اليه فوجدت وجهه قريبا جدا منها..و شفاهه لا تبتعد عن شفاهها سوى مسافة نَفَسٍ و قُبلة..قال بصوت مبحوح" و ماذا إذا جن جنوني و قبلتك..هنا..و الآن..هكذا؟" و قبل أن يفعل..هربت هزان من أمامه بأن سحبت جسدها الى الأسفل و وقفت بعيدا عنه و هي تقول بصوت مرتعش" حسنا..سأعترف..و سأقول الحقيقة..كنت أفكر فيك و أنا أتأملك..و لكن ليس بطريقتك هذه..بل..فكرت..في وجهك الحقيقي..الذي تخفيه خلف تصرفاتك المنفرة و طباعك الحادة..اليوم..عندما أنقذتني..رأيت فيك..رجلا..شهما..طيبا..بريئا..لا يشبه الصورة التي ترسمها لنفسك و تبعد بها الجميع عنك..كنت أفكر..هل فعلا ما رأيته صحيح..و حقيقي..أم هي مجرد اوهام رسمها عقلي اعترافا بجميل انقاذك لي من الموت..هذا ما كنت أفكر فيه..أعترف بذلك" قطب ياغيز جبينه و تنفس بعمق قبل أن يلتفت اليها و يقول ببروده المعتاد" و لماذا ترهقين عقلك الصغير بالتفكير في هذا الهراء؟ أيعقل أن تتوهمي كل هذه الأمور لمجرد أنني أنقذتك من الموت؟ ماذا كنت تنتظرين مني؟ أن ادعك تموتين مثلا بينما أنت متدربتي و تحت مسؤوليتي؟ و هل يعني ذلك مثلا أنك مميزة عندي و أنني غارق فيك و لو كنت غرقت لكنت رميت نفسي وراءك؟ هزان..كفي عن هذا..و لا تبالغي..و الا ستجدين نفسك واقعة في حبي..و عندها لن أستطيع معالجتك رغم أنني بروفيسور..اسمعي هزان..سأقولها لك مرة واحدة..و لن أكررها مرة أخرى..ما ترينه أمامك..هذا أنا..بكل تصرفاتي و طباعي السيئة..أنا..بعجرفتي و غروري و قلبي الذي لا يعترف بالحب أو المشاعر..أنا..بكلامي السيء و برودي القاتل و عيوبي الكثيرة..أنا..هذا أنا..و لا مجال لتحليلي أو تأويلي..و أنصحك نصيحة صادقة..إياك أن تتورطي فيّ..لأنني سأؤذيك..حتى و ان كان ذلك دون قصد مني..ابتعدي عني..و اهربي مني..و لا تحاولي أن تحلليني او تفكري بي..و اكتفي بما ترينه مني..لكي تكوني بأمان..هل فهمت أيتها المتدربة؟" لسبب لا تعلمه آلمها ما سمعته منه..لكنه في نفس الوقت..غذى رغبتها في أن تبحث خلفه أكثر و أن تحاول استكشاف بواطنه رغم نصيحته لها بالابتعاد..اكتفت بهز رأسها و فتحت الباب و خرجت..راقبها ياغيز و هي تذهب ثم صفق الباب بقوة جعلت الصوت يتردد في الأرجاء..
في غرفة الطوارئ..فحص فرمان مريضا لديه و هو يحاول أن يطرد من ذهنه كلام بيليز و اتهاماتها الخطيرة التي وجهتها له..لم يسمح لنفسه بأن يفكر في كلامها..هو رجل مرتبط..و يحب حبيبته..أما نازلي..فهي تذكره بنفسه..في شغفه بالطب..و اجتهاده المتواصل..و نشاطه الذي لا ينتهي مهما نال منه التعب..لسبب لا يعلمه يشعر بأنه مسؤول عنها و بأن حمايتها واجب عليه..خاصة بعد ما عرفه عنها و عن معاناتها في طفولتها و شبابها بسبب أمها و إدمانها على الكحول..هو يراها تلميذته و مساعدته فقط..أو ربما هذا ما كان يظنه..قبل أن تضرب بيليز الحقائق في وجهه..لا يجب أن يسمح لنفسه بأن ينجرف في أفكاره تلك و الا أساء اليها و الى نفسه..يجب أن يساعدها على الوصول الى أحلامها دون تمييزها عن البقية..هذا التمييز الذي صار يفسر بطريقة خاطئة..لم يجد امامه من حل سوى الهرب منها و من أفكاره تلك فطلب من داملا أن تساعده في جولته التفقدية تلك..انهى فحص المريض و طلب من داملا أن تقوم بالفحوص اللازمة فأسرعت الى المختبر أما هو فجلس لبعض الوقت يحتسي القهوة الخامسة منذ الصباح..اقتربت منه نازلي و قالت" مرحبا أستاذ..آسفة لأنني تأخرت عن الجولة التفقدية..نمت مثل الميتة و .." قاطعها" حسنا نازلي..فهمت..لا مشكلة..لقد ساعدتني داملا..اذهبي و ساعدي الدكتورة تولاي..هيا..بسرعة" نظرت اليه نازلي لوهلة قبل أن تخطو خطوتين ثم تعود لتقف أمامه و تقول" أستاذ..لم تتسنى لي فرصة شكرك لأنك أنقذتني من الموقف المحرج هذا الصباح..لولاك لكنت الآن موقوفة عن العمل..و ربما..في السجن..شكرا لك أستاذ" هز فرمان برأسه و رد دون أن ينظر اليها" لا داعي للشكر..لقد قلت الحقيقة فقط..و كنت سأفعل نفس الشيء مع البقية..يعني هو ليس أمرا خاصا بك..و ليس تمييزا لك على البقية..اياك أن تفهميه بهذه الطريقة..احذري بأن تقعي في هذا الفخ يا نازلي..أنا أعاملك مثلما أعامل الجميع..و ان كنت المفضلة لدي فذلك بسبب اجتهادك و عملك الدؤوب..و ليس لأي سبب آخر..هل هذا واضح؟" اغرورقت الدموع في عيون نازلي و ارتعشت الكلمات في حلقها و هي تقول بصوت مخنوق" نعم ..أعلم ذلك جيدا أستاذ..و لا داعي لكل هذا الشرح ..أنا أعرف حدودي جيدا و لن أتجاوزها أبدا ..كن مطمئنا..شكرا لك مرة أخرى أستاذ..لن أنسى ما فعلته معي..عن اذنك" و تحركت مبتعدة عنه فيما شعر هو بالسوء لأنه تحدث معها بتلك الطريقة القاسية..
بعد يوم طويل من العمل و الركض هنا و هناك لانقاذ حياة الناس..غادرت نازلي و هزان المشفى عائدتين الى منزلهما القريب..تحسست هزان أجيابها و بحثت في حقيبتها ثم قالت و هي تنظر الى صديقتها" اللعنة..لقد نسيت هاتفي..سأعود لأخذه..اسبقيني انت الى المنزل و سألحق بك سريعا" مشت نازلي نحو البوابة فرأت فرمان يركب سيارته صحبة بيليز و يغادران معا..اكتفت بابعاد عيونها عنهما و في القلب غصة لا تعلم بها إلا هي..عادت هزان الى غرفة الملابس فوجدت هاتفها هناك..أخذته و خرجت..ضغطت على زر استدعاء المصعد و انتظرت أن ينفتح و ما ان فعل حتى صعدت اليه..و انظم اليها كل من ياغيز و تولاي..انسحبت الى زاوية لكي تفسح لهما المجال للوقوف أمامها..سأل ياغيز بصوت مسموع" ماذا نفعل الليلة؟ هل نذهب الى منزلك أم الى منزلي؟" ابتسمت تولاي و أجابت" هل أنت دائما مباشر هكذا؟ هذا أفضل ما فيك..فلنذهب الى منزلي..سأعد لك العشاء بيدي..سئمت أكل المطاعم و الأكل الجاهز..و لا بد أنك مثلي خاصة بعد سنوات طويلة من الغربة" ابتسم و رد" من يعلم؟ ربما كنت أجيد الطبخ مثلما أجيد الطب" سألت تولاي" حقا؟ هذا رائع..سيأتي يوم و أتذوق فيه أكلك إذا" غمزها و هو يقول" لا أعدك بشيء..لست رجل وعود..و هذا تعرفينه جيدا..لا تنتظري مني شيئا..هذا أفضل لي و لك" انفتح المصعد في النهاية و قد وصل الى الطابق الأرضي..غادره ياغيز صحبة تولاي فيما مشت هزان على مهل و هي تفكر في الكلام الذي سمعته منذ قليل..لقد بدا و كأنه يسمعها هي هذا الكلام..و لم يقله لتولاي..

المُتدرّبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن