الهرب
(شهر آب عام 888 ميلاديًّا، مدينة صنعاء باليمن)
- الألم شديدٌ لا أقوى على تحمله... ساعديني خالتي، أرجوكِ، أشعر وكأن الموت يحاوطني..
- تحملي عزيزتي فلم يتبقَّ إلا القليل.. فقط ادفعي برفق.. أوشك الجنين على الخروج.
بعد لحظاتٍ من الألم والصراخ خرجت الدّايةُ مهللة:
- مبارك سيدي.. إنها فتاة سمراء جميلة.. جئتُ أبشرك وسأدخل فورًا لأطمئنَ على زوجتك؛ ما زالت تتألم وتصرخ.
صاح الرجل:
- شاهيــــــــن.. صديقي العزيز.. أصبحتُ أبًا لفتاة.. الحمد لله.
- مبارك صديقي طاهر.. أصبحتَ أنت أبًا، وأصبحتُ عمًّا لابنتك الجميلة، ما الاسم الذي اخترته لها؟!
قاطعهما صوت المرأة وهي تصيح:
-سيدي.. تعالَ إلى هنا في الحال.. أسرع رجاءً.
دخل طاهر غرفة زوجته ووقف مذهولًا مما رأى عندما حمل طفلته بين يديه.
نظرت إليه المرأة قائلة: سيدتي غابت عن الوعي من شدة الألم.. لكنّ هناك شيئًا آخر.. انظر.....
***
(أوائل القرن العاشر- شهر تموز)
ما هذا الشعور؟!
رأسي يؤلمني بشدة.
منهكة وقد خارت قواي تمامًا.
فمي وكأن كل جزء منه التصق بالآخر من الظمأ.
يا ألله ماذا فعلت بنفسي الآن؟!
أردت فقط الهروب، نعم الهروب من ذلك الظالم شاهين؛ وضع تحت قدمي كل شيء قد تشتهيه أي فتاة؛ فقط لأبقى بجواره مدى الحياة، لكنّ الموت أهون عليَّ من أن يقترب بأنفاسه الكريهة مني أو يتحسس جزءًا من جسدي.
يا إلهي كانت بين يدي الكنوز كلها، والآن لا أريد سوى شربة ماء في تلك الصحراء الجرداء.تكاد أشعة الشمس الحارة في تلك الصحراء الواسعة تلتهم بشرة تلك الفتاة السمراء الجميلة (بتـــــــــــول)، تلك العيون البنية التي يزينها الكحل، تلك الخدود المزينة بشامة سوداء بارزة، وذاك الشعر المتدلي حتى خصرها يتلوى مثل جدائل الماء من فعل الرياح حولها. ستأكلهم الشمس حتمًا كالنيران التي تلتهم خيوط الحرير، والثوب الغجري المزين بالحليّ والألوان التي تخطف العيون سيتلاشى ويكسوه رمل الصحراء الأصفر.
فرتْ الجميلة بتول من صديق والدها شاهين الذي حول حياتها إلى جحيمٍ بعد وفاة والديها فقد تركاها وهي صغيرة في سن العاشرة إثر حادثٍ أليمٍ عندما اقتحمتْ مجموعةٌ من اللصوص منزلهم الكبير وعندما تصدى لهم والدها ذبحوه أمام أعين زوجته، ولما بدأت في الصراخ ذبحوها هي الأخرى لتستيقظ الصغيرة صباحًا وحيدةً في منزلٍ غارقٍ بدماء والديها ولم يكن لديها غيرهما في تلك الحياة؛ فلم يكن لها أهل ولا أقارب ليعطف أحدهم عليها ويتكفل بها، لم يكن هناك سوى صديق والدها شاهين فأخذها لتعيش معه بقصره الكبير، رفضتْ زوجته مجيئها بشدة ولكنّ "شاهين" أصر على وجودها وأقنعها بأن تكون من ضمن خدم القصر بعد أن يستولي على ميراثها كله.
أصبحت بتول مجرد خادمة في القصر، تغفو على بلاطه العاري وتأكل بقايا الطعام وتراقب يوميًّا شجار شاهين مع زوجته سهر عن النساء اللائي يقيم علاقات معهن وعن استمراره في شرب الخمر حتى إنه لا يفيق منه.
تعودت بتول على تلك الحياة الصعبة وكبرت يومًا بعد يوم، لتصبح فتاةً سمراء ممشوقة القوام تسحر عيون من ينظر إليها، يزين ذقنها ذاك الوشم الغريب الذي لم تجد له تفسيرًا ولم يخبرها والداها أبدًا عنه، كان عبارة عن شمس انقصمت نصفين برمح مزين.
شاهين يراقب دائمًا تلك الفتاة الجميلة، وتحركت مشاعره تجاهها على الرغم من أنه بمثابة والدها فلم يستطع التحكم في غرائزه الشهوانية، وأرادها لنفسه فقط.
لاحظتْ بتول نظراته الغريبة إليها، كما لاحظت ذلك زوجته سهر وأخذت تفكر في طريقة ما لإبعادها عن أنظاره ولكنها لم تفلح في ذلك.
بدأ شاهين في التعبير عن حبه وتعلقه الشديدين لتلك الفتاة عن طريق التمادي في مغازلتها وتعقبها.
وذات يومٍ فاض به الأمر مما دعاه للتحدث إلى بتول وطلب التقرب منها، اندهشت بتول وتملكها الخوف منه ورفضت بشدة عرضه بالزواج منها وجعلها صاحبة القصر وكل ما تشتهيه سيكون بين يديها.
نهرته وعاتبته على مثل هذا العرض؛ فهو صديق والدها، لكن شاهين أصر على ما يريد، وأقسم أن بتول لن تكون لغيره فحاول الاعتداء عليها في أثناء ترتيب غرفته؛ وأخذت بتول تصرخ وتستغيث وهو يردد: (أحبك بتول وستصبحين ملكي حتى لو أبيتِ ذلك)
اقتحمت سهر الغرفة عندما سمعت صوت بتول وشاهدت "شاهين" وهو يمسك بها بين يديه محاولًا تقبيلها. فصرختْ فيه ليتركها وعنفته بشدة.
يئست سهر من تغيير طباع زوجها الهمجي ولا تقوى على البعد عنه؛ فلا ملجأ لها سواه، وقد اعتادت على تلك المعيشة المرفهة، ولكن كل ما تحاول فعله هو إبعاد أي أنثى عن طريقه حتى لا يجد سواها أمام عينيه، لكن تلك المرة اختلف الأمر فقد شغفته بتول حبًّا وأصبح لا يريد سواها، مما جعل سهر تفكر في طريقة ما للتخلص من بتول، فذهبت إليها لتنصحها بالهروب فلن يستسلم شاهين حتى يحصل عليها بل إنه رتب مراسم الزفاف ليجبرها على الزواج منه.
بكت بتول بشدة ولا تدري ماذا تفعل أو إلى أين تذهب فلم يكن لها مأوى غيرهما ولكن سهر شجعتها على أن تهرب في تلك الليلة ومعها نقودٌ كافية لتشتري منزلًا خاصًّا بها في مكانٍ آخرَ بعيدٍ، وأعطتها مع النقود بعضًا من الحُلي الثمينة خاصتها.
في البداية ترددت بتول وكانت تخشى الهروب ولكن لا مفر من ذلك؛ فهو أهون من العيش مع ذاك الرجل الغضيب (شاهيــــــــن).
وفي ليلة الزفاف استطاعتْ سهر -في أثناء انشغال الجميع بالاحتفال- إخراجها من القصر من بابٍ خلفيٍّ وأمرتها بركوب فرسهم المفضل (رمـــــــــح) والركض بعيدًا قدر المستطاع.
حملتْ بتول الحُليّ والنقود، وشكرتْ سهر على مساعدتها وبدأت رحلة الهروب، ظلت تعدو بفرسها لمسافات بعيدة لا تدري إلى أين تذهب ولكنها تُسرع في الابتعاد قدر الإمكان حتى لا يُدركها شاهين حينما يعلم بأمر اختفائها عن القصر.
كانت الشوارع معتمة ليلًا، وبعد ساعات وجدت بتول نفسها في مكانٍ واسعٍ لا تسمع فيه سوى صوت الرياح وعويل الذئاب.
ارتعدتْ بتول وخفق قلبها ولا ترى أمامها أيّ شيء، أخذت تُربت بيديها على ظهر الفرس حتى يستمر في الركض. وبعد عدة خطوات جن جنون الفرس وأبى أن يتقدم للأمام خطوة أخرى، بدأ يرفص مع صهيل عالٍ دوى في المكان.
- ما بك يا رمح، اهدأ أرجوك وتقدم، هيا رمح تقدم.
رفص (رمح) حتى ألقى ببتول على الأرض، ارتطمت بشدة وغابت عن الوعي حتى الصباح، وفر (رمح) حتى غاب عن الأنظار. وعندما استعادت وعيها وجدت نفسها في تلك الصحراء الواسعة.
عندما اكتشف شاهين هروب بتول جن جنونه وأخذ يصرخ في كل الحرس ليبحثوا عنها ويُحضروها له في الحال، لم تُظهر سهر له أي شيء فإن علم بأنها ساعدتها على الهروب سيقتلها دون أي تفكير.*****
أنت تقرأ
رواية برهوت / للكاتبة سارة خميس
Horrorيجب أولًا أن تكون على يقينٍ أن هناك مخلوقات أخرى تشاركنا الحياة.. قد لا نراها.. قد تظهر للبعض أحيانًا.. قد تعيش في منازلَ وأماكنَ مهجورة.. أو أن يكون موطنها الأصلي في (الربـــــــــــع الخالـــــــــــــي) تلك الرواية تحوي بين صفحاتها أساطيرَ ومعلوم...