الجزء الثاني عشر

29 4 0
                                    

وصل ظافر إلى كوخ باهلة ليلًا وكان يشعر بالبرد، والقشعريرة تسير في جسده، فوضع وشاح رأسه على فمه والتفح بشدةٍ بعباءته الثقيلة، فلم يظهر منه أي شيء سوى عينيه.
وجد باهلة تجلس أمام باب الكوخ وتشعل بعض الحطب لتنعم بالدفء ووضعت فوق ألسنة النار إبريقًا كبيرًا حتى تحضر مشروبًا ساخنًا.
كانت بالكاد ترى على ضوء لهيب النار أمام عينيها.. نظرت إلى خيالٍ ما يقف أمامها دون أن يتفوه بكلمة، حاولت تدقيق النظر فيه ولكن لم يظهر له أي ملامح، صاحت فيه:
- من أنت؟! فيم أتيت
ارتجف ظافر من شدة البرد ومن الواضح أنه مصابٌ بالحمى فتحدث بصوتٍ خافتٍ غير واضح قائلًا:
- أنــــــــــــا.... أنــــــا جئت..... لأعرف.... أشياء...... آااااااااه رأسي.
ضربه أحدهم بقوةٍ على رأسه فتأوه من شدة الضربة ثم سقط على الأرض أمام باهلة.

بعد مرور ساعتين
ظافر يرقد على فراشٍ صغيرٍ بكوخ باهلة وجلست بجواره تضع كماداتٍ من المياه الباردة على رأسه لتخفض حرارته وكانت تطحن مجموعة من الأعشاب الغريبة؛ حتى تجعلها ممزوجة ليشربها في ماءٍ مغليٍّ حتى يمتثل للشفاء.
بدأ يفتح عينيه ثم أمسك رأسه وهو يتألم قائلًا:
- من الذي ضربني من الخلف هكذا يا باهلة؟؟ سأشرب دماءه حيًّا هذا الوغد...
ابتسمت باهلة وقالت بهدوء:
- لماذا جئت ليلًا متخفيًّا هكذا، لم أظن أنك ستكرر زيارتك بعد يومين فقط، ظننت أنك ستمكث في كهف برهوت مدة أطول.
جلس على الفراش أمامها معتدلًا وخرج من باب الكوخ يستنشق بعض الهواء النقي، صاحت باهلة فيه:
- أنت لم تتعافَ بعد، تعالَ هنا قبل أن تنتكس مرة أخرى.
- لا باهلة... أشعر بالاختناق، وأريد بعض الهواء ولا تقلقي أعشابك وحساؤك جعلاني أشعر بالتعافي والصحة... من أين تأتين بكل تلك المعرفة والعلم يا باهلة؟!
ابتسمت باهلة ثم جلست على حجرٍ ضخمٍ أمام الكوخ قائلة بهدوء وهي تنظر للسماء:
- " أتــــــــدري؟ لقـــــــد خلقنـــــــــــا الله مختلفيــــــــــــن لنتــــــكامـــــل، الهــــــــــــادئ يحتضــــــن الغاضــــــب، والمتســـــــــرع يستشيـــــــر المتـــــأني، والمنعـــــــم بالصحـــــــــة يساعـــــــــــد المريـــــــض، ويتـــوازن المســــرف مع المــدبـــر "
- جميل يا باهلة وصفك لكن أختلف معكِ في الرأي، ليس الجميع يُكمل ما انتقص من الآخر.. البعض يشعر بالسعادة إن امتلك شيئًا كالصحة، أو المال، أو الجمال، أو المعرفة وغيره لا يمتلكها، يسعد وكأنه يحتكرها لنفسه ولا يريد رؤية الآخرين منعمين في الراحة مثله.
- أتظن أن مثل هؤلاء يا بني سعيد حقًّا!!....
"ســـــــــــر الســــــــعادة يـــــا بنـــــــــي يكمـــــــــــن فـي العطـــــــــاء" حتى لو قوبل هذا العطاء بالبغض والنكران، من عامل الناس وكأنه يعامل الله فاز بنعيمه فالجزاء عند رب العالمين ليس بين مخلوقاته.
- لكن باهلة... ما رأيته أمس وفي أواخر الأيام الماضية......
قاطعته باهلة:
- أعلم ما حدث، وكنتُ على يقينٍ من أنك صاحب دهاء عقلي وقوة أكبر من قوتك البدنية... والقوة الحقيقة في الرأس وليست في العضلات.. لقد ولدت فصيح اللسان يا بني.
ضيق ظافر عينيه واقترب منها قائلًا:
- تعلمين كل شيء.. وهناك من يخبرك بما يحدث بعيدًا عنكِ... ولا تقولي الكلام دفعة واحدة وإن تفوه فمك قال ألغازًا يجب أن نعمل على فك شفراتها بتمعن.. لماذا باهلة كل هذا؟.. لم أعد أقوى على حل تلك الألغاز... أخبريني بكل شيءٍ دفعة واحدة فالقادم مرعب..
ابتسمت باهلة وألقت ببعض الحطب الصغير في كومة النار وقالت:
- ماذا تريد أن تعرف بالضبط يا ظافر؟!
- كل شيء باهلة... كل شيء وأولها: مَن الجني الذي ضربني على رأسي؟
قالت بسخرية:
- وما الثاني؟
صاح ظافر:
- أخبريني عن الأول أولًا، ثم أخبريني..... أين أعثر على (بــــــــتول).
ضحكت باهلة بشدة:
- هاهاهاها.......... ظافر إذا وجدت الأول عثرت على الثاني.
- بـــــــــااااااهلة أرجوكِ بلا ألغاز.
- وما اللغز في ذلك ظافر؟!
- انتظري.... تعنين أن ذاك الجني هو.............
- هي....... وليس هو يا ظافر.. بتـــــــــــــــول.
نظرت باهلة خلفه بابتسامة، فاستدار فجأة وفتح فمه وساد الصمت قليلًا ثم قال:
- مرة أخرى يا بتول تأتين من الخلف وتضربينني على رأسي....
ابتسمت بتول واقتربت منه ببضع خطوات قائلة:
- لم أقصد في تلك المرة ظافر... ظننتك شخصًا ما يحاول إيذاء باهلة.. كنتَ متخفيًا بشدة... سامحني يا ظافر.
ابتسم ظافر وابتهج وجهه واقترب منها ليحتضنها، فهمهمت باهلة لتنبهه بوجودها، شعر ظافر بالخجل ثم أمسك بيد بتول بقوة قائلًا:
- تلك اليد الناعمة تعلمت أن تضرب بقوة.
- نسيت من علمني وقال يجب أن يكون العصا قويا حتى يضرب بقوة؟! كنت أجمع لباهلة بعض الحطب ووجدتك أمامي فأمسكت بأقواها وضربتك بها. هل تأذيت؟
- لا بتــــــــــــول....... بل تعــــــــافيت حين وجدتك، لكن المهم كيف استطعتِ الهروب والتخفي من شاهين وسهر في منزلك ذاك اليوم. لقد أخبرهم (ظام) بدخولك.. ووجد شاهين قطعة من ثيابك وعلم أنه أنتِ... أتعلمين إن وجدك يومها كنت قتلته وقتلت سهر حتى أحميكِ منهما.
- لا يا ظافر.... لا تلوث يدك بدماء هؤلاء الأشرار أبدًا مهما حدث....
ضحكت باهلة بصوت عالٍ قائلة:
- وقف الثرثاران معًا وارتحتُ من أسئلتهما الكثيرة أخيرًا... استمرا فإني أستمتع بهذا.. هاهاهاها...........
ضحكا كلاهما ثم قال ظافر:
- حقًّا بتول أخبريني ما حدث... وهل وجدت........؟
قاطعته بتول:
- الرمح؟
- نعم.. الرمح!!
- لا تقلق يا ظافر الرمح بأمان داخل الكوخ.
لمعت عين ظافر وابتهج وجهه قائلًا:
- عظيــــــــــــــم.. حمدًا لله.. أين وجدته؟ في المنزل بمكان خفي صحيح؟!
- لا يا ظافر بل هنا في كهف باهلة.
- هنا عند باهلة؟ كيف؟! ولماذا لم تخبرينا يا باهلة وجعلتِنا نخوض في تلك المؤامرات ونعرض حياتنا للخطر......... لماذا لم.........؟
قاطعته بتول:
- "لا تُلقِ بالاتهامات على باهلة فكانت تجهل مكانه... عندما جاء إليها أبي حتى تحميني رأى أن لديها قدرة على حماية من لجأ لها وخصوصًا أنا، وأراد فيما بعد إن وقع به مكروه أو فارق الحياة أن أعود مرة أخرى لها...
دفنه خلف الكوخ ووضع علامة لتمييز المكان... حجارة حمراء منقوش عليها وشمي.
في ذاك اليوم ذهبت للبحث عن الرمح بالفعل في منزلنا، ولم أترك مكانًا إلا وبحثت فيه، لكن دون جدوى".
وقفت بتول ثم دخلت إلى الكوخ وخرجت بعد لحظات ممسكة بيدها دفتر الرسومات ودميتها القماش، جلست بجوار ظافر فسألها في دهشة:
- ما هذا؟!
ابتسمت له بتول قائلةً:
- بعدما يئستُ من البحث وجدت دفتر رسوماتي ودميتي تلك، كنت منهكة القوى تمامًا وخائفة في ذات الوقت، أخذتهما وخرجت مسرعة من المنزل وصرتُ أفكر، جُن جنوني، نظرت حول المنزل هنا وهناك ولكن الظلام كان دامسًا فلم أصل لأي شيء، قررت الرحيل لأرتاح في مكانٍ ما ثم أعاود البحث حول المنزل في وضح النهار، أخذت أسير لمسافاتٍ بعيدةٍ حتى شعرت بالإرهاق الشديد فتوقفت في مكانٍ بعيدٍ لأنعم بقسطٍ من الراحة وجلست بين الأشجار وأنا أنظر إلى دفتري الصغير فغلبني النعاس، كنت قريبة من كوخ باهلة وعندما أشرقت الشمس فتحت عيني على دفتري الصغير وأمعنت النظر في دفتري أثناء تساقط أشعة الشمس على أوراقه، وحينما فكرت في سبب تكرار رسمة الكوخ وقرص الشمس الأحمر في كل صفحة، شعرت بأنها إشارة من أبي إلى شيء ما، وكأنه أراد إخباري به، وجدت الكوخ يشبه كوخ باهلة، ورسمة الفتاة خلفه في كل صفحة، فأسرعت إلى هنا ووقفت خلف الكوخ، وإذ بي أجد حجرًا صغيرًا على الأرض، وكان عليه رسمة الوشم الأحمر، حفرت أسفل الحجر حتى وجدت الرمح وشعرت بسعادة بالغة، دخلت إلى الكوخ وأخبرت باهلة وكادت تطير من فرط سعادتها بي، احتضنت دميتي وبكيت بشدة وأنا أتذكر أبي، أثناء ذلك شعرت بشيء ما داخل قماش الدمية فمزقتها وأخرجت تلك الورقة، انظر يا ظافر، إنها رسالة من أبي، انظر.
أمسكها ظافر وقرأ الرسالة في دهشة.
"ابنتي الغالية بتول، اعلم أنكِ ستجدين تلك الرسالة في يومٍ ما وستكونين قد عرفتِ الكثير من الحقائق التي قد تصيبك بالدهشة والذعر، سامحيني يا صغيرتي، تركت لكِ إرثًا مخيفًا وحملتك رسالة وواجبًا أقوى من أن تفعليه، ولكن ما بيدي حيلة، فلا يختار أحد والديه، نصيبك وقع بأن يكون جدك هو ( عبدول الحظرد)، ظننت أنني سأنعم بحياة عادية حتى رأيت باهلة وأخبرتني بالمجهول، وقتلتُ توأمك بنفسي، كم هذا مؤلم، كانت على قيد الحياة وتشبهك إلى حد ما، لكني أدركت أن الشر يستوطنها وأنها ورثت شيئًا ما من جدها، كانت عيناها كبؤرة ظلام قاتمة وكانت مخيفة على كونها رضيعة، نظرت إليّ وكأنها تتوعدني، فأسرعت إلى صديقي شاهين وأخبرته ونصحني بالتخلص منها على الفور، لأن بها عرقًا شيطانيًّا سيحرقنا جميعًا، لم أستطع فعلها بيدي وطلبت منه حملها بعيدًا وقام بدفنها حية كما كانوا يفعلون أيام الجاهلية، شاهين يا ابنتي كان صديقي المقرب وكنت أثق فيه، وقتها لم أفكر بشيء وندمت أشد الندم بعدها، حتى إنني ذهبت إلى الصحراء لعلني أجدها وبحثت عنها بين الرمال، لكن قد فات الأوان، آمنت بقدر الله وكنت مستعدًا لتلقي الجزاء والحساب على ذنبي الذي لا يغتفر، حتى اقتص القدر لها، وعلى يد شاهين أعز أصدقائي، حيث سمعته في يومٍ ما يتحدث إلى زوجته وعلمت بمخططتهما ضدي وما ينويان فعله بكِ وقررت مواجهته، وأردت ترك تلك الرسالة لكِ فأشعر أن شيئًا ما سيحدث لي، اغفري لي يا صغيرتي وعلى يقين أنكِ ستعثرين على الرمح وستجتازين كل المصاعب، اعتني بنفسك، وأكملي رسالتك، وكوني بأمان مع باهلة، فهي من تقوى على حمايتك بعد الله.
والدك طاهر عبدول".

رواية برهوت / للكاتبة سارة خميسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن