عاد ظافر إلى القصر فوجد سهر تقف أمام باب غرفته في قلقٍ وغضب:
- ظافر، أين كنتَ كل هذا الوقت؟!!
ارتبك ظافر ثم قال:
- لقد شعرت ببعض الضيق والتوتر من كثرة التفكير فيما قد يحدث غدًا، آملا ألا أخيب ظنك فيّ، لعل السير قليلًا في هدوء يهدئ من روعي.
ابتسمت سهر وقالت وهي تقترب منه:
- طبيعي ما تمر به، ولكنك الفارس القوي فلا تقلق، وعدني بأنك لن تلمس امرأة غيري..
صمت ظافر وفزع حينما رأى "شاهين" يقف خلفهما ويتنصت عليهما فدفع ظافرٌ سهر بعيدًا، وعندما التفتت للوراء رأت "شاهين" فأطلقت ضحكةً عاليةً قائلةً بسخريةٍ:
-ماذا يا شاهين؟ أحبه ويحبني وسيصبح ذراع مكرب اليمين وأنا أخت مكرب الحاكم القوي، فماذا ستفعل بنا يا.............. يا رجل؟ هاهاهاها...
صاح شاهين بغضب:
- أتظنين بأنني أخشى "مكرب" أو كونك أخته.......... سوف أجعلك تنبهرين بما أنوي فعله بكم جميعًا... ولكن ما يمنعني الآن هو العثور على بتول.
ضحكت سهر بصوتٍ عالٍ قائلةً بسخريةٍ:
- ونحن نتركك على قيد الحياة حتى تعثر لنا عليها هاهاهاها... هيا حبيبي ظافر نم قليلًا وأراك صباحًا قبل أن تسافر حتى ألقاك بعدها.. هيا.
كان ظافر في دهشة من موقف سهر، وشاهين بالأخص.. ظن أنه سيقتلها على الفور ولكن من الواضح أنه يدرك مدى قوة وخبث سهر ومكرب فتركها ورحل، ودخل ظافر غرفته ليرتاح ولكن لم يهنأ بالراحة لانشغاله على بتول وما ستفعله وحيدة.***
ظلت بتول ليلًا تبحث عن عنوان منزلها قديمًا، سارت كثيرًا حتى أُنهكت قواها وجلست بجوار شجرةٍ ضخمةٍ تبكي على حالها وعلى مصيرها الذي لا تعلم إلى أين سيهوي بها، ثم تذكرت شيئًا ما وحدثت نفسها: "تلك الشجرة.. تشبه كثيرًا الشجرة التي كنت ألعب عندها في صغري.. كانت أمي تعقد بها حبلًا وصنعت لي أرجوحةً صغيرةً كنت أستمتع بالتأرجح عليها وخصوصًا في الصيف تحت ظلها، يا إلهي.. إنها هي.. لكن أين المنزل؟ فهذا المنزل أمامها لا يشبهه.. أم أنني لا أتذكر".
وقفت بتول ثم توجهت إلى المنزل أمام الشجرة، فكان يحاوطه سورٌ كبيرٌ يخفي معالمه... العشب والأشجار القصيرة تنتشر حوله فيحجب الرؤية عن باب المنزل.. فوضعت عددًا من الحجارة الضخمة فوق بعضها البعض ووقفت عليها لترى أي شيءٍ يدلها...
"إنه هو... ما زلت أتذكر أوصافه رغم صغر سني وقتها.. بالتأكيد شاهين هو من بنى هذا السور حوله حتى لا يراه أو يدخله أحدهم".
وقفت قليلًا لتتأكد من عدم وجود أحدهم بالداخل.. كان معتمًا وعتيقًا وتحولت شكل أحجاره للون الأسود، والأشجار حوله باتت مجرد فروعٍ سقطت من عليها الأوراق منذ زمن.
حاولتْ التسلل للداخل وتسلقت على السور بعد عدة محاولات فاشلة حتى أن ثوبها تمزق من فروع الأشجار الحادة.
ارتجفتْ بتول وكانت تسير بخطواتٍ بطيئةٍ مترددةً والدموع تنهال على وجنتيها من شوقها للمنزل ولوالديها...
"(أمي... أبي... ليتكما هنا.. ليتكما تنزعان مني كل هذا الخوف وأغفو للحظات بين أحضانكما حتى أشعر بالراحة والأمان)
حاولت فتح الباب ولكنه كان موصدًا بشدة وكأنه لم يقترب منه أحدٌ منذ سنوات..
تذكرت باب غرفة الطعام من الخلف.. فكانت تتسلل منه دون أن تشعر والدتها لتلعب مع أبناء الجيران فكان والدها حريصًا على عدم اختلاطها بأي شخص منهم وكان يخفيها عن العيون نظرًا لشدة جمالها والخطر الذي كان يحاوطها.
كان باب غرفة الطعام موصدًا بشدة أيضا.. فأمسكت بعصا سميكة وكسرت زجاجه ومدت يدها بالداخل لتفتحه.. وأخيرًا تحرك معها مُصدرًا صريرًا عاليًا، نظرت حولها لتتأكد من ألا يراها أحدهم.. ثم بخطوات مرتجفة بدأت بالسير داخله ولكن الظلام دامسٌ ورائحة التراب تكاد تحبس أنفاسها... تحسست بيدها المصابيح الموجودة علّها تجد بعض الكيروسين في أحدها وأخيرًا وجدت واحدًا منها ما زال منتصفه ممتلئًا وكان بجواره أعواد ثقاب.
ابتسمت بتول: (أتذكرُ يا أمي، كنتِ تقومين بوضع علبة من الثقاب بجوار كل مصباح حتى لا تبحثين في كل مرة عليه)
حاولتْ إشعال أعواد كثيرة ولكن الرطوبة قضت عليها... يئست بتول وأمسكت بآخر عود وأغمضت عينها وهي تشعله وفجأة اشتعل العود.. أسرعت بإشعال المصباح ووجدت بعض الشموع أشعلتها هي الأخرى وظهرت أمامها تفاصيل منزلها كاملة.
"هنا ركضتُ وهنا تعثرتُ.. وهنا احتضنت أمي وداعبتني بكلتا يديها بحنان، وهنا.. حملني والدي وأنا أبكي عندما جُرِحت في قدمي وحاول تضميد جرحي وهو يبتسم".
بكت بشدة ثم تذكرت ما أتت لأجله وأسرعت تبحث بين الأرفف والأتربة عن أي شيء دون جدوى.
بعد ساعاتٍ من البحث جلست بتول على أريكة أكلت معظمها الفئران ووضعت رأسها بين يديها تبكي وتفكر.
(أبي... أين أخفيت هذا الرمح.. لا يوجد ثقب بالمنزل إلا وبحثتُ فيه.. دلني يا ألله فلقد تعبت ولا أقوى على فعل شيء)
سأخرج الآن من هنا، حاملة خيبتي ولأواصل البحث في مكانٍ آخر، فمن الممكن أن يكون هناك مخبأ ما حول المنزل، أو أن يكون أبي دفنه في مكانٍ ما، يا ألله ليس لدي قوة لحفر الأرض والتنقيب عن ذاك الرمح.
نهضت بتول ثم نظرت إلى الدرج قائلة: "اشتقت لغرفتي الصغيرة بشدة، سألقي نظرة أخيرة عليها قبل أن أغادر".
صعدت بتول للأعلى ودخلت غرفتها مرة أخرى.. كانت فارغة تمامًا وليس بها سوى خزانة ملابس محطمة وفارغة وفراشها الممتلئ بالغبار، دمعت عيناها وقالت بحزن: "حتى الآن أتذكر القصص الجميلة التي كنت ترويها لي يا أبي، حتى إنني أتذكر دفتر رسوماتي، تُرى أين ذهب؟! كانت أمي تضعه في صندوقٍ خشبي صغير مع بقية لعبي وعرائسي التي صنعتها أمي لي من القماش".
جثت بتول على ركبتيها ونظرت أسفل الفراش، ابتهجت عيناها حينما رأت الصندوق الخشبي الصغير ونفضت بعض الأتربة وخيوط العنكبوت من عليه ثم قالت: "الحمد لله أنه مغلق بإحكام، فلولا ذلك كانت التهمته الفئران هو الآخر".
فتحته بتول ولمعت عيناها بالدموع حينما رأت دفتر رسوماتها الصغير وعرائسها، وقامت بلهفة بفتح الدفتر وتذكرت والدها وهو يساعدها في رسم وتلوين لوحاتها الصغيرة.
صفحة بها أشجار وزهور مزينة والأخرى بها طيور جميلة، وفي الأعلى قرص للشمس لونه والدها معها باللون الأحمر.
تنهدت بتول ثم شردت للحظة محدثة نفسها: " كان أبي يحب رسم قرص الشمس وتلوينه بالأحمر، حتى يصبح مثل الوشم المرسوم على ذقني".
فتحت بتول باقي الصفحات التي كان يساعدها في رسمها، ثم لاحظت شيئًا غريبًا، حيث تكرر رسم جزء من كوخ صغير بين الأشجار مع قرص الشمس الأحمر ورسم فتاة صغيرة خلف الكوخ وكأنها هي.
حدثت بتول نفسها بدهشة: "لماذا كررت تلك الرسومات في كل صفحة؟! وتلك الفتاة الصغيرة التي تشبهني؟ لماذا تقف دائمًا خلف الكوخ؟!".
انتفضت بتول فجأة عندما سمعت أصوات الفئران حولها وشعرت بالذعر، فقامت مسرعة إلى الخارج حاملة بين أحضانها دفتر الرسومات وواحدة من عرائسها المفضلة.
في أثناء ذلك جلست سهر مع شاهين تمشط شعرها في غرفتها وكان ينظر إليها بضيق وغضب. فجأة هبت ريح قوية داخل الغرفة هزت أركانها، فنظرا إلى بعضهما بعضا في دهشة وقالا في آنٍ واحد: (أتى ظـــــــام)!!
• (ظـــــــــــام):
اسم يطلق على أحد خدام الجن السفلي، وهو عون شديد من أعوان الملك (ميمــــــــون ابانـــــــــوخ) ويقال إنه كان من المتمردين العصاة في عهد النبي (سليمان) (.
أنت تقرأ
رواية برهوت / للكاتبة سارة خميس
Terrorيجب أولًا أن تكون على يقينٍ أن هناك مخلوقات أخرى تشاركنا الحياة.. قد لا نراها.. قد تظهر للبعض أحيانًا.. قد تعيش في منازلَ وأماكنَ مهجورة.. أو أن يكون موطنها الأصلي في (الربـــــــــــع الخالـــــــــــــي) تلك الرواية تحوي بين صفحاتها أساطيرَ ومعلوم...