كهنة الكهف الأبيض
عاد ظافر منهك القوى بعد سيره لمدة يومين في تلك الصحراء دون طعام أو شراب إلى كهفٍ غريبٍ يقع في طرف الصحراء الشرقية في اليمن، وما إن وصل إلى هناك حتى ارتطم بجسده على الأرض أمام فتحة الكهف.
وبعد مرور عدة ساعات أفاق ظافر من وعيه وكان ممددًا على فراشٍ كبيرٍ صخري ويلتف حوله الكثير من الرجال متفاوتي الأعمار يرتدون زي الكهنة ويمسكون بين أيديهم كتيبات وزجاجات من بعض الأدوية والماء.
كانوا ينظرون إليه بغضبٍ ثم اقترب منه أحدهم وقال بصوت حاد:
- لقد أخفقتَ يا ظافر في أداء مهمتك، بعد أن راهنتُ عليك كل تلك الأعوام وكنت أربيك وأجهزك حتى يحين الموعد المحتوم.
ابتلع ظافر ريقه وارتبك بشدة وتلعثم قائلًا:
- لم يكن خطئي أنا..... لا أدري أين................
قاطعه الكاهن "بسطام" بحدة:
- لتصمت......... أعلم كل ما حدث، لقد أرسلت أحد الخدم ليتعقبك وعاد إليّ بتلك الأخبار المحبطة.
- إذن فأنت على يقينٍ الآن أنه ليس خطئي، فأين اختفتْ؟
لكن هناك سؤال يجوب بخاطري ولستُ على يقين منه.
- قل ما هو يا ظافر!
- هل هي الفتاة المستهدفة؟! بتول هي حفيدة الساحر "عبدول الحظرد" بالفعل؟!
ضيق الكاهن بسطام عينيه واقترب منه وقال بهدوء:
- النبوءة أشارت إلينا بوجودها في تلك الأيام في الصحراء وحيدة وبالفعل أرسلناك إلى هناك في الوقت المحدد، وبالفعل أيضًا وجدتها، تُرى.. هل لديك أدنى شك بعد كل ذلك أنها ليست النبتة الشريرة؟!
- لا يا سيدي لا أشكك في النبوءة، ظننت لوهلة أنها ليست هي، كانت جميلة ومسالمة كالملاك، وقصتها تحوي الكثير من الألم والظلم، فإن كانت بالفعل حفيدة عبدول فلماذا لم تستخدم قواها من قبل؟!
غضب الكاهن قائلًا:
- هذا أمر بديهي؛ فإنها لم تكتشف قواها بعد.... كنت أظن أننا سنقضي عليها قبل أن يجدها هو.
- هو من؟!
مــكـــرب، حتما سيحصل عليها الآن.. أو هو من اختطفها بالفعل من بين يديك...• (مكـــــرب)
جمعها مكارب أو مكاريب، هو أحد الأسماء اليمنية القديمة التي كانت تطلق على بعض الملوك في عهد ملكة سبأ، ومعناه هو كل إنسان أو حيوان وثيق المفاصل، شديد القوى، صلب، متسيد، وصاحب هذا الاسم طاعته واجبة نظرًا لشدة بطشه.
اندهش ظافر وقال في هدوء وثقة:
- "لا.. لا أظن أنه وجدها.. لم أرَ أيّ أثر لأي شخصٍ هناك و....
انتظر بالفعل رأيت شيئًا ما.. كان هناك ظلٌّ ضخمٌ أتى من خلفي وقتها، كنت أظن أنني أتخيل هذا... يا ألله ليتني انتبهت له.
- وماذا كنت ستفعل حينها، لا تستطيع أنت وجيشٌ من أمثالك مقاومة مكرب، كيف عرف بوجودها معك في تلك اللحظة بالذات، كيف؟!
- سيدي لماذا لم تذكر لي من قبل علامةً محددةً قد أجدها بتلك الفتاة؟!
- علامة؟ ماذا تقصد؟!
- أقصد أن بتول بها علامة مميزة على وجهها، وكان المفترض أن تنبهني إليها حتى تيسر الأمر عليَّ، تلك الشامة على ذقنها كانت واضحة وغريبة.
زادت دهشة الكاهن بسطام ولمعت عيناه قائلا بلهفة:
- ما هي يا ظافر؟ اوصف الشامة بدقة.
- حسنًا، هي تكاد تكون قرص شمس لونه أحمر، ولكنه انقسم نصفين بفعل رمح أسود طويل وكان....
- انتظر يا ظافر لا تكمل وصفك، وتعالَ خلفي بسرعة...
اندهش بقية الكهنة ونهض ظافر مسرعًا خلف كبيرهم بسطام الذي دخل حجرة صخرية بالكهف الأبيض ممتلئة بالشموع الضخمة المتقدة ورفوف متكدسة بالكتب التي يغطيها الرمل الأصفر.
وقف الكاهن على كرسي خشبي قديم ثم جذب كتابًا كبيرًا لونه بني وأخذ ينظفه من الأتربة المتراكمة عليه وكأنه وُضع هناك على تلك الأرفف منذ عدة أعوام، وضعه أمام ظافر على منضدة عالية بجوار إحدى الشموع الضخمة وبدأ ظافر في قراءة الاسم:
- (الوشم الأحمر)! ما هذا يا سيدي؟ يبدو أنه عتيقٌ جدًّا واسمه لم يمر عليّ من قبل.
جلس الكاهن على كرسي حول المنضدة وأمر "ظافر" بالجلوس بجواره، وطلب منه الإنصات بشدةٍ وتركيز.
- كلي آذان مصغية يا سيدي.. تفضل.
- عبد الله الحظرد، كان بمثابة شيطان يسير على الأرض ويمتد شره وعلمه لكل نسله، ولكن من بحثنا ومتابعتنا لكل من حوله من أجداد الأجداد وجدنا أنه لم يكن له أي أقارب على وجه الحياة إلا إننا فوجئنا في وقتٍ ما أنه تزوج قبل اختفائه بشهرين من فتاةٍ كان يعلمها فنون السحر الأسود التي كان يتقنها، وأسرارًا لم يستطع الوصول إليها غيره، ولكن شاء القدر أن لا يتم ذلك وثار عليه أحد ملوك الجان المعروف ببطشه وقوته عندما علم بأنه قرر توريث أسرارهم لشخصٍ غيره وسلط عليه وقتها أحد الوحوش فقام بابتلاعه، توهمت الناس أنه مات وتخلصت منه البشرية بعد هذا الحادث الغامض الذي شهد عليه البعض، ولكن الحقيقة أنت تعلمها جيدًا يا ظافر.
- نعم أعلمها، فهو ما زال حبيسًا في مكانٍ ما، ينتظر أن يأتي إليه المخلص ليقوم بتجديد العهد مع الشيطان وذلك مقابل إطلاق صراح عبدول أو عبد الله الحظرد.
- بالضبط يا ظافر وهذا ما ينوي فعله مكرب، عليه العثور على هذا المخلص ويجب أن يكون من نسله، ومع البحث وجد أن زوجة عبدول بعد اختفائه عادت إلى مسقط رأس زوجها (صنعاء) وكانت تحمل بين أحشائها نسله الذي من المفترض أنه سيكمل مسيرته، أخفت زوجته الرضيع عن الأنظار حتى لا يقتله أحدهم وعاشت في بيتٍ عتيقٍ بعيدٍ عن الأنظار حتى أنجبته، أسمته "طاهر"، لم يكن به شيءٌ مميزٌ أو يدعو إلى الريبة منه فكان طفلًا طبيعيًّا وعاش حياته بصورة طبيعية بين الناس حتى توفت والدته فماتت معها سيرة عبدول الحظرد، تزوج بعدها ابنها وأنجب فتاةً وحيدةً وقام بعض اللصوص في صغرها باقتحام منزلهم وذبح والديها أمام أعينها فتبناها صديقُه......
- انتظر؛ أعلم البقية، تبناها شاهين أكبر تجار الذهب في صنعاء.. (بتول) هي المخلص الذي سيجدد العهد مع كبير الجان!
- هذا ما ظننته يا عزيزي، ولكن صدمتني الآن بذكرك هذا الوشم على ذقنها، فهذا الوشم سيعيد كل التفكير في عودة عبدول مرة أخرى.
اندهش ظافر واعتدل في مجلسه لينصت بانتباهٍ للكاهن فيما سيقوله:
- كيف يا سيدي؟! ما علاقة ذاك الوشم ببتول وعودة جدها مرة أخرى وهي نسله الوحيد؟!!
فتح الكاهن الكتاب الذي بين يديه على صفحة في منتصفه وأشار إلى رسمة فيه باللون الأحمر.
فتح ظافر فمه مندهشًا مما رأى، أنه نفس الوشم المرسوم على ذقن بتول.
- انظر يا ظافر واقرأ بدقةٍ ما كتب أسفل تلك النقوش...
قرأها ظافر بهدوء:
(ثم يأتي المخلص، منقذ البشرية برمحٍ أسودَ طويلٍ، ذات وشم أحمر كقرص الشمس على ذقنه ويغرس رمحه في صدر الشيطان ليهوى إلى الجحيم الذي أتى منه إلى الأبد)
وهناك بعض الطلاسم التي سيرددها المخلص عند غرس الرمح في ذاك الشيطان و......
- انتظر... هذا يعني أن بتول هي......
- نعم يا بني.. بتول هي مخلص روح عبدول وهي المكلفة بتجديد العهد مع الجان وهي أيضًا المخلص الذي تحدثت عنه النبوءة وتحمل الوشم المميز على ذقنها..
- لكن كيف لها أن تكون مخلص البشرية من الشيطان وفي الوقت نفسه هي من سيعيده إلى الأرض مرة أخرى.
- هذا ما لا أجد له تفسيرًا الآن، وإن وجدها مكرب بالفعل سيقوم أولا بأمرها وتجهيزها لعودة جدها عبدول ومن ثم إن كان يعلم بأمر الوشم سيقوم بالتخلص منها على الفور.
- ظافر.. هل كانت بتول تحمل رمحًا ما؟؟!
- رمح!!.... لا.. لم يكن معها غير تلك اللفافة أعطتها إياها سهر زوجة شاهين بها بعض النقود والذهب، انظر..
- يا ويلي سهر وزوجة شاهين أيضًا!
- لماذا؟ من تكون سهر؟!... أنت اليوم تفاجئني بأشياء عجيبة يا سيدي..
- لا... لا عليك، سأشرح لك فيما بعد من تكون وما هي علاقتها ببتول ومكرب.
- سيدي لقد ذكرتْ بتول شيئًا عن الرمح، ولكن لم يكن رمحًا معدنيًّا، لقد كان اسم الفرس الذي امتطته وهي تهرب من منزل شاهين.
- امممممم، من الواضح أن الرؤية تتضح لنا في بعض الأمور.
- لا أفهم معنى كلامك!!
- لا عليك، همي كله الآن العثور على بتول وتحريرها من يد مكرب حتى نهيئها للخلاص من عبدول وهي تحتاج إلينا لمساعدتها وخصوصًا أننا نملك هذا الكتاب الثمين..
- معنى كلامك أنك عزفت عن قتلها.
- بالطبع أيها الغبي فهي الوسيلة الوحيدة لنجاتنا جميعًا.
ابتهج ظافر وارتسمت الابتسامة بصورة ملحوظة على وجهه.
ضحك الكاهن قائلًا:
- يبدو أنك معجبٌ بها، كنا سنقع في ورطة لو قتلتها فنحمد الله أن الظروف منعتك وأتمنى أن تكون استطاعتِ الهروب منك وأن "مكرب" لم يعثر عليها حتى الآن، ظافر يجب أن نجدها بأي وسيلة ويجب أيضًا أن نعثر على مخطوط (العزيف) بالتأكيد مكرب يخفيه في مكانٍ ما، فهو وسيلة عودة عبدول من خلال قراءة بتول لبعض الطلاسم الموجودة به والتي خطها جدها بيديه السوداء المغطاة بالدماء الخبيثة.
- لكن سيدي أين سأبحث عنها الآن؟ هل أعود إلى الصحراء مرةً أخرى أم أبدأ من مكانٍ آخر؟!!
- لا، ليس الصحراء، فلتذهب إلى قصر شاهين.
*****
أنت تقرأ
رواية برهوت / للكاتبة سارة خميس
Terrorيجب أولًا أن تكون على يقينٍ أن هناك مخلوقات أخرى تشاركنا الحياة.. قد لا نراها.. قد تظهر للبعض أحيانًا.. قد تعيش في منازلَ وأماكنَ مهجورة.. أو أن يكون موطنها الأصلي في (الربـــــــــــع الخالـــــــــــــي) تلك الرواية تحوي بين صفحاتها أساطيرَ ومعلوم...