الجزء الخامس

43 4 0
                                    

أسطورة عبدول الحظرد
• (عبد الله الحظرد)
أو عبدول الحظرد، ولد في مدينة صنعاء اليمنية، عاصر الدولة الأموية، وعاش حياةً مترفةً مع والدته والتي كان ابنها الوحيد، حيث توفي والده وهو في العاشرة من عمره، أحب وأدمن قراءة وكتابة الشعر حتى أصبح شاعر اليمن الأول، أصيب بعدها بالجنون وهو في عمر الثلاثين، بدأ يفكر بأشياء غريبة غاية في الجنون ومنها قدرته على التنبؤ بالمستقبل وأحداثه من خلال معرفة أحداث الماضي، خافه العديد من الناس وعاش وحيدًا لفترة طويلة من الزمن، سافر عبر صحراء الربع الخالي والتي تعد أكبر صحراء في العالم، مكث فيها عشر سنوات وزعم أنه التقى بمخلوقاتٍ عاشت بالماضي وتمكن من فهم لغتها، استقر بعدها في مدينة دمشق في بلاد الشام وألف كتاب (العزيف) أو كتاب الموتى المثير للجدل والرعب، وكان الكتاب له علاقة بتلك الأصوات في الليل التي تصدرها الحشرات والتي قيل عنها أنها عواء الشياطين، زار عبدول آثار بابل وأسرار منف المدفونة، وزعم أنه شاهد مدينة (إرم الرائعة ذات العماد) وأنه بحث تحت أنقاض مدينة مجهولة في الصحراء فوجد سجلات وأسرارًا مروعة عن عرق أقدم من البشر، ولم يكن الحظرد مسلمًا تقيًّا؛ كان يعبد كيانات مجهولة سماها (يق، سثوث، كثولو، .....) وقيل إن أشياء فظيعة حدثت في سنة وفاته أو بمعنى أدق في سنة اختفائه (738 ميلادية).
• وقال ابن خلكان (كاتب سير من القرن الثاني عشر) إن وحشًا غير مرئي نال منه في وضح النهار والتهمه أمام عددٍ كبيرٍ من الشهود الذين جمدهم الخوف.

• أطلق العرب على الربع الخالي (الدهناء) وقيل إنها مسكونة بالأرواح الشريرة ووحوش الموت، وقال بعضٌ ممن اخترقوا هذه الصحراء إنها مليئة بأعاجيبَ غريبة لا تصدق...

• كتاب العزيف (النيكرونوميكون) كان يشبه كتاب (شمس المعارف) تم تداوله خلسة وترجم لليونانية سرًّا، من قبل ثيودوروس فيليتاس من القسطنطينية عام 950 م، دفع هذا الكتاب الباحثين لقرن من الزمان أن يقوموا بتجارب رهيبة قبل أن يقوم البطريرك ميخائيل بمنع هذا الكتاب وحرقه، بعدها لم يتحدث أحدٌ عن الكتاب إلا خلسة، ولكن في عام 1228 قام أولاوس فورميوس بترجمته إلى اللاتينية مرتين، مرة في القرن الخامس عشر بالخط القوطي ومرة في القرن السابع عشر في أسبانيا، وكلتا الطبعتين لا تحتويان على علامات مميزة، تم حظر الطبعات كلها من قبل البابا غريغوريوس التاسع عام 1232 وذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من إصدار الترجمة اللاتينية، ولكن اللافت للنظر بشأن كل النسخ هو ضياعها ولم يتم العثور عليها حتى وقتنا الحالي.
*****

الصدمـة
جن جنون شاهين بعد علمه بنبأ هروب بتول وكان صوته الغاضب يرج أنحاء القصر، أمر جميع الحرس بالبحث عنها في كل شبر بالمدينة بل وبالمدن المجاورة لها فلن تستطيع الذهاب وحدها لمكانٍ أبعد في تلك الأيام القصيرة.
صرخ في وجه سهر بحدة:
- لماذا أشعر أنكِ وراء اختفاء بتول؟!
ارتبكت سهر وحاولت إخفاء ارتباكها بصوتها العالي:
- ولمَ أساعدها على الهروب؟! فأنا معتادة منذ سنوات على علاقاتك النسائية المتعددة، لو كنت كذلك لفعلتها مع كل فتاةٍ تقترب منها.
- لكن بتول كانت دومًا مختلفة يا سهر، أم نسيتِ من تكون هي؟!
- لا... لم ولن أنسى ولكن أنت من نسي أو تناسى ما يجب علينا فعله بها......
قاطعها صوتُ أحد الحرس عندما دخل مسرعًا على شاهين فقال بلهفة:
- هيا قل... وجدتم بتول؟
- لا يا سيدي للأسف ليس لها أي أثر.
- إذن لماذا تريني وجهك الشؤم الآن أيها الغبي؟!
- سيدي لقد اختفى رمح منذ يوم العرس..
- رمح؟ أي رمح؟!
اندهشت سهر عندما سأل هذا السؤال...
أجابه الحارس:
- رمح الفرس يا سيدي، فقد هربت بتول به وفجأة وجدناه أمام باب القصر.
- رمح عاد وحده؟! ولماذا تركته بتول؟ بالتأكيد هي لم تبتعد كثيرًا، ترى أين ذهب بها؟ أيمكننا معرفة ذلك من خلاله مرة أخرى؟
- لا أعلم يا سيدي ولكن لن نخسر شيئًا إذا حاولنا.
- أغرب عن وجهي أيها الغبي، سأمتطي "رمح" بنفسي وسأتعقب أثرها، أطعمه واجعله يرتاح قليلًا وبعدها سأقوم بالبحث.
غضبتْ سهر وصرخت في وجهه:
- هل جننت يا شاهين، هل ستمتطي "رمح" وتجوب الشوارع والأزقة والأراضي باحثًا عن خادمة؟!
- لا تقولي خادمة، أنتِ لا تعلمين من تكون تلك الفتاة بالضبط وماذا تعني لشاهين.
بعد بضع ساعات امتطى شاهين حصانه رمح ولم يوجهه إلى أي مكان؛ تركه يعدو في الشوارع والقرى مثلما فعل مع بتول على أمل أن يتتبع أثرها ويعثر عليها.
في تلك الأثناء وصل ظافر إلى باب القصر وطلب من الحرس مقابلة السيد شاهين، ولكن علم أنه غادر للتو ولا يعلمون متى سيعود، سمعته سهر وأمرت بإحضاره إلى مجلسها، ما إن رأته أخذت ترمقه بنظرات الإعجاب فكان ظافر وسيمًا يرتدي زي الفرسان وينظر إليها بعينيه البندقية اللون الواسعة ممسكًا بلحيته وهو يمشطها بإحدى يديه.
- مرحبًا بك في قصر شاهين أيها الفارس...
- ظافر، اسمي ظافر.
- حسنًا أيها الوسيم ظافر، كيف لي أن أساعدك؟
شعر ظافر بنظرات الإعجاب التي تبدو واضحة عليها وابتسم محاولًا استغلال هذا الأمر للحصول على أي معلومات تخص بتول.
- من الواضح أنكِ السيدة الجميلة سهر مالكة القصر.
- هاهاهاها نعم يا ظافر هي أنا.
- جئت لكم اليوم متمنيًا الحصول على وظيفة بين الحرس لديكم، فكم حلمت بوجودي هنا وخصوصًا عندما سمعتُ عنكِ، أقصد سمعت عن السيد شاهين.
وقفت سهر من مجلسها واقتربتْ من ظافر بدلالٍ وقد زاد إعجابها به بعد الإطراء عليها.
- أنت فقط تتمنى أيها الفارس ساحر العينين وأنا سأحقق لك أحلامك.
- بوركتِ سيدتي الجميلة ولكن أين هو السيد شاهين؟!
تبدل هدوء سهر فجأةً وظهر على وجهها الغضب.
- خرج في جولة على الخيل ولا أعلم متى سيعود، ولكن وجوده من عدمه لن يغير قرار تعيينك فهو لا يعلم حتى من يعمل هنا ولا يعرف أسماء الخدم والحرس عدا الفتيات والنساء والآن يهرول خلف إحداهن.
- ماذا تقصدين يا سيدتي؟!
- لا... لا شيء.. لا تتعجل ستقابله حينما يعود.
استطاع ظافر في مقابلةٍ واحدةٍ أن يكون واحدًا من أفراد قصر شاهين وجلس مع بقية الحرس يتناول الطعام وينعم بقسطٍ من الراحة، وحاول أثناء ذلك استدراجهم في الحديث.
- كيف لسيد القصر أن يخرج وحيدًا في جولة؟ لم أرَ ذلك من قبل!
- هاهاهاها لا تتعجب يا صديقي فأصابه الجنون مؤخرًا بسبب تلك الفتاة التي سرقت عقله وقلبه.
- أي فتاة؟!
- الخادمة بتول...
- وأين ذهبت؟
- يوم زفافهما سرقت الفرس "رمح" وركضت بعيدًا ثم عاد الفرس من دونها ولا ندري أين ذهبت، لقد بحثنا عنها في كل مكان دون جدوى، وذهب هو الآن للبحث عنها بنفسه وليته لا يعود هو أيضًا؛ هذا القصر لا يحتاج إليه وحتى تجارته تديرها السيدة سهر فهي من يستحق كل هذا ونعتقد أنها من حرضت بتول على الهروب لشدة غيرتها وغضبها منها.
- أممممم... بتول.. من الغريب أن تستطيع خادمة سرقة قلب سيدها هكذا فما المميز بها.
- الأغرب يا صديقي أنها صغيرة جدًّا وكانت ابنة أحد أصدقائه وبعد وفاته قام هو بتربيتها ولكن كان لا يعلم أنه سيفقد عقله على يدها، على الرغم من أن السيدة سهر جميلة وذكية ومن نسل (المكارب) أعظم قادة في الدولة الحميرية، وآخر فارس فيهم هو أخوها المعروف بقوته وبطشه.
انتبه ظافر لما يقوله الحارس وقال بدهشة:
- أتقصد (مكرب)؟!
- نعم الفارس والقائد العظيم مكرب هو الأخ الوحيد للسيدة سهر وآخر نسل المكارب.
ساد الصمت ولم يتفوه بعدها ظافر وأصبح شاردًا تمامًا حتى قطع صمته صوت الحارس:
- ما بك يا صديقي؟!
- لا عليك، مرهق بعض الشيء... كنت أتمنى مقابلة أحد ما من المكارب والآن أنا حارس لواحدة منهم وليتني أحظى بمقابلة القائد مكرب في يومٍ ما... هل يأتي إلى هنا؟!
- نعم ولكن قليلًا ما يأتي لمقابلة شاهين وسهر، يدخل في اجتماع سري مع أخته لبضع دقائق ثم يرحل بعدها، نحمد الله أنه لا يأتي كثيرًا فنحن نخشاه بشدة.
- أعتذر لك يا صديقي؛ يداهمني النعاس بشدة فقد أتيت من بلاد أخرى وكان سفري شاق للغاية، لنكمل حديثنا غدًا.

جلس ظافر يفكر، مكرب هو الأخ الوحيد لسهر وآخر نسل المكارب وكان يأتي إلى هنا، بالطبع رأى بتول أو عرف حكايتها أو أنه يعرف من تكون من البداية فلماذا تركها ولم يأخذها منذ صغرها!
لماذا ساعدتها سهر على الهروب؟!
ما كل تلك الألغاز؟ وكيف أستطيع حلها؟ يا ألله ساعدني فكل لحظة تمر يقترب الخطر وقد تنتهي حياة حبيبتي.... ظافر هل قلت حبيبتي.. أنت لم تتحدث معها سوى لحظات قليلة فكيف أحببتها بتلك السرعة، كنت تود القضاء عليها وهي من قضى على قلبك الآن بعد أن استوطنته بنظراتها ودلالها العربي الفتاك.... سأجدها مهما كلفني الأمر حتى لو كلفني حياتي.

في الصباح جلس ظافر يفكر في طريقةٍ سريعةٍ يستطيع إيقاع سهر بها للحصول على أي معلومات خاصة ببتول.
توجه إلى مجلس السيدة سهر التي كانت في حالة من الغضب بسبب تأخر شاهين حتى الآن.
- صباح محفوف بالعطور وأجمل باقات الزهور لسيدتي الجميلة سهر التي تسرق النوم من العيون وترغم أقوى الفرسان على السهر.
انتبهت له سهر وابتسمت برقة بعد سماع كلماته الغزلية وأمسكت بخصلة من شعرها تداعبها وقالت في دلال:
- من أين تأتي بتلك الكلمات، ظننتك فارسًا وليس بشاعر.
- أنا فارس وحارس حينما أشعر بالمخاطر تداهمك، وأكون شاعرًا إن وجدت الحزن يقتحم فؤادك، وما إن نظرتُ إليكِ وجدتك شاردة حزينة ولكنك أكثر جمالًا هكذا، فما بكِ أيتها الساحرة؟
- ظافر، لأول مرة يشعر أحد بي ويهتم لأمري هكذا، أتعلم؟ لم أتذوق من قبل معنى الحب والحنان، الكثير من القادة والتجار حاولوا التقرب مني ولكن لم يلفت أحدهم انتباهي، غير أن أخي أرغمني منذ سنوات على الزواج من شاهين مبررًا هذا الأمر بتجارته المشتركة معه، لم أصدقه وقتها فكان الكثيرون مثله ولكنه أصر على ذلك، تزوجتُ شاهين ومنذ اليوم الأول معه ونحن بعيدان تمامًا عن بعضنا البعض، أتعلم؟ نادرًا ما يقترب مني ويلمسني.
ارتبك ظافر حينما وضعت يدها على صدره وتتدلل هكذا فابتعد قليلًا.
- كيف له أن يتحمل الصمود أمامك، لو كنت مكانه ما تركتك وحيدة للحظة.
- حقًّا يا ظافر؟!
- بالتأكيد سيدتي ولكن ليس كل ما نتمناه ندركه، فأنت ملك السيد شاهين ولستِ ملكي أنا ولن تكوني هكذا أبدًا.
- لا.. لستُ ملكه.. وسأتخلص من هذا السوط الذي يلتف حول رقبتي فلا حاجة لمثله معي.
- وأخوكِ (مكرب)؟
- ماذا؟ هل ذكرت لك اسمه من قبل؟ لا أتذكر ذلك؟
ارتبك ظافر وتساقط عرقه على وجهه بشدةٍ فجففه بجزءٍ من عمامته قائلًا:
- سيدتي لقد قلتِ للتو أن أخي مكرب أرغمني على الزواج به.
- حسنًا لا عليك... يجب ألا أخضع لمكرب مرة أخرى، كفاني ضياع كل ما مضى من العمر ولكن أريد مساعدتك على تنفيذ شيء ما.
- ما هو؟ وأنا تحت طوعك سيدتي.
- انتظر حتى يعود شاهين وسأخبرك ماذا سنفعل بعدها.
خرج ظافر من غرفة سهر يحدث نفسه: "انتظر... انتظر... كم من الوقت سيمر عليّ هنا في هذا المكان الخانق، ولكن ليس هناك شيء آخر أعمله، وهذا ما أراده الكاهن الأبيض بسطام، بالتأكيد سأصل لشيء ما هنا، أو أصل إلى مكان مكرب نفسه وأفك تلك الألغاز الغريبة".
*****

رواية برهوت / للكاتبة سارة خميسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن