سر الوشم الأحمر
جلست "باهلة" أمام الكوخ تطهو شيئًا ما في إناءٍ معدنيٍّ واسعٍ تلحفه ألسنة النيران المتقدة من الأسفل.. تقف لإحضار بعض حبات الخضروات من على طاولة صغيرة بجوارها وتسير بخطوات ثقيلة بظهر مُنْحَنٍ، كانت تغطي شعرها بحجابٍ أسودَ طويلٍ، ولكنّ بعضًا من خصلاته البيضاء سقطت من تحته.
باهلة تبلغ من العمر 80 عامًا فهي في مرحلة الكُهولة، ذات وجه تملأه التجاعيد ويتناثر عليه الكثير من النمش.
تأتي من خلفها فتاةٌ تتثاءب ثم تنظر إلى الخضرة حولها والطيور التي تملأ المكان وتبتسم برقة ثم تجلس بجوار باهلة.
- صباح الخير خالتي باهــــــــــــلة.
- أخيرًا نهضتْ الكسولة بتول من غفوتها الطويلة.
- هاهاهاها... ولمَ لا أغفو كثيرًا فكنت أشعر أنني لم أنعم بالراحة والنوم منذ سنوات، كم كنت مشتاقة للعيش في أي مكان، بعيدًا عن كوني خادمة، أجد هذا وهذه يأمرونني كل لحظة ويعاملونني كالحيوان المشرد، خالتي باهلة كيف لي أن أشكركِ على إنقاذ حياتي من هذا المعتوه ظافر.
- صغيرتي هذا واجب عليّ وأمر كان يجب تنفيذه بأي شكل.
- خالتي لم أستطع سؤالك منذ ذاك الوقت كيف استطعتِ حملي من صحراء الربع الخالي وحيدة في لمح البصر وإحضاري إلى هنا، من يقوم بمساعدتك؟! ولماذا لم تجديني من البداية قبل أن يعثر ظافر علي؟ ولماذا كان يريد التخلص مني؟ الكثير والكثير من الأسئلة التي أبحث عن إجابة واحدة لها، أرجوكِ أريحي قلبي واشرحي لي ماذا حدث بالضبط.
ضيقت باهلة عينيها ثم نظرت إلى السماء قليلًا في صمت وقالت بهدوء:
- لقد حان وقت فتح الصندوق يا عزيزتي ويا ساحرتي الصغيرة.
اندهشت بتول قائلة:
- صندوق؟ ماذا؟ أنا ساحرة؟ هاهاهاهاها بوركتِ خالتي فلقد جعلتِني أفكر أكثر وأكثر.
- هاهاهاها أنتِ تثرثرين كثيرًا أيتها المشاغبة.
- يا ويلي أصبحت مشاغبة وساحرة في لمح البصر، هيا يا باهلة ألقي عليّ مزيدًا من الأوصاف ولا تقصي أي شيء مما أريد معرفته.
- صغيرتي (كثرة المعرفة تقلل المعرفة، وكثرة المعرفة تزيد الهم والغم).
- ماذا تقصدين يا باهلة؟
- تشتاقين لمعرفة كل شيء فما أدراكِ أن معرفة كل الأسرار قد تريح عقلك وبالك، هناك أسرار إذا خرجت عن الصندوق قد يتحول الإنسان إلى جحيم، أو قد تعيده إلى الجحيم مرة أخرى.
ارتجفت بتول فكان صوت باهلة مخيفًا وهي تنطق تلك الكلمات الغريبة:
- خالتي... ماذا تعنين بالعودة إلى الجحيم؟
- بعض البشر كتب عليهم المشقة وعدم الراحة على الرغم من أنهم ليس لهم ذنب يعاقبون عليه سوى أنهم يدفعون ثمن أصلهم وفرعهم.
- تقصدين الأهل؟!
- نعم هم الأهل، يرتكبون الجريمة ويدفع ثمنها الأبناء الأبرياء.
- لقد تشتت عقلي... من ارتكب جريمةً أدفع أنا ثمنها الآن؟ (أبي أم أمي؟)، لكنهما قتلا ظلمًا وليس لدينا معارف أو أقارب، لا أعلم في تلك الحياة سواهما و..... وصديق أبي الخسيس شاهين.
- شاهين وسهر يا ابنتي يعرفان الكثير والكثير...
- لا.. لا يا خالتي سهر ليست مثله، فلولاها كنت ما زلت حبيسة هذا القصر وجارية لشاهين يتمتع بي قليلًا ثم يلقيني بأي كوم قمامة بعد أن يمل مني لتأتي غيري.
- وزوجته سهر يا صغيرتي كذلك أيضًا، لم تكن تساعدك من باب الشفقة والخوف على مصيرك، بل كانت تسعى لشيء أكبر وأعظم لوقوعك في فخٍّ لن تستطيعي النجاة منه أبدًا.
- معنى كلامك أنها من سلمتني لظافر، وجعلته يتتبع خطاي حتى يقضي عليّ بعيدًا عن القصر؟ أيعقل؟!.... وما العجيب في ذلك؟، في الحالتين كان يريد التخلص مني.
- لتصمتي قليلًا ولتصغي إلى كل حرفٍ سأقوله ولا تعيدي تكرار الأسئلة ولا تقومي بالاستفسار عن الأكثر، فقط اسمعي ما سأرويه، اتفقنا.
- حسنًا باهلة اتفقنا، أسمعك دون التفوه بكلمة...
وضعت بتول يديها على فمها حتى لا تتحدث دون أن تشعر فتلك عادتها، وبدأت باهلة في حديثها العجيب الذي سيصعق بتول من هول المفاجأة.
- أبدأ حديثي بالسلام على الماضي الذي عبر وترك لنا الدروس والعبر، يقولون إن كثرة المعلومات والمعرفة تصيب المسنين أمثالي بالنسيان وداء (الزهايمر).. بالفعل نسيت الكثير والكثير إلا ما هو متعلق بأمرك، حياة (بتــــول طاهـــــــر عبــــدول) غير الجميع، ومصيرها مريع، إما أن تنجو وتنجينا، أو تضيع ومعها نضيع.
حاولت بتول التفوه وكادت أن تضحك بشدة ثم أمسكت بفمها مرة أخرى عندما رأت نظرات باهلة الغاضبة إليها.
- عبدول هو (عبد الله الحظرد) جدك الملقب بالساحر المجنون (ابن بعلزبول) المختفي العائد، والعائد الثائر، والثائر المدمر. ظن الجميع أنه لقى حتفه ولن يعود مرة أخرى وارتاحت البشرية من أفعاله الشيطانية، لكنه ما زال حيًّا بعد مرور تلك السنوات، مكبلًا بفعل الشيطان، عصى أوامره فقام بنفيه بعيدًا عبر بوابات زمنية غير مرئية في باطن الأرض السوداء، بداية من الحفرة المظلمة، وإذا حضر الموت هناك، لعلها تكون نهايته أو نهايتنا.
لم تقوَ بتول على الصمت أكثر من ذلك فشهقت بصوتٍ عالٍ قائلة:
- عبد الله الحظرد جدي، كيف؟!.... سامحيني ما ترويه شيء عجيب لم يأتِ ببالي ولا حتى بأحلامي وأيضًا تقولين كلمات كالألغاز لا أفهم منها شيئًا وكأنها شفرات وعلي أن أقوم بفكها ومحاولة تفسير كل واحدةٍ منها.
- نعم بتول... إنها شفرات، وغير مصرح لي أن أوضح لكِ ماذا تعني.. ستجدين من يكمل النقاط بين الجمل.. ويسير معكِ لتحقيق الأمل، إما أن يخطو هو إليكِ أو تركضي أنتِ وتبحثي عنه بلا ملل.
- باهلة كفى.. إذا كنتِ ستكملين حديثك بتلك الطريقة لا أود معرفة شيء، اسمعيني لا أريد معرفة ما سيحدث في الغد أو بعد الغد أو حتى بعد سنين، فقط أريد معرفة من أكون وما علاقتي بجدي الحظرد، ولماذا يريدون التخلص مني؟؟
- "كتب عليكِ يا صغيرتي أن تكوني من آخر نسل الساحر عبدول، عندما هربتْ جدتك بعد اختفاء زوجها عبدول عادت إلى صنعاء واختفت في منزلٍ، بعيدًا عن الأنظار حتى لا يطاردها أحدهم وشعرت بتلك البذرة في رحمها وكانت تخشى أن يراه أحدهم ويقوم بالخلاص منه خوفًا أن يسير على نهج والده، غير أن بعض الأساطير تروي أن نسل عبدول هو من سيعيده إلى الحياة فكان القضاء على أي شخص له علاقة به هو أنسب وأيسر الحلول.. بعد أن أنجبت جدتك والدك "طاهر" ربته في وسط الغابات متنقلة من مكانٍ إلى آخر حتى تم الرابعة عشر وكانت من شدة العمل في أماكن غير مهيئة للمعيشة أضاع صحتها وهاجمها مرضٌ غامضٌ بدأ يأكل عظامها ويفتته، كانت تعيش في مكانٍ قريبٍ من هنا، أسرع ابنها طاهر إلى كوخي وبدأ يستنجد بي لمساعدة والدته، ذهبت إليها فأمسكتْ يدي بقوة وقالت لي: (ابني أمانة، إنه طاهر عبدول).
علمت أنه ابن عبدول الحظرد ولكن القليل من كان يعرفه بعبدول فكان ينادون جدك بعبد الله أو الحظرد أو الساحر المجنون، أو ابن الشيطان، فكان عبدول غير مألوف لهم. كنت أعلم أن مساعدتها باتت مستحيلة فإنها كادت تلفظ بأنفاسها الأخيرة.
بعد يومين تَوَفَّاها ودفنتها بمساعدة طاهر بعيدًا عن الناس، نصحته أن يبتعد ويعود للانخراط بين الناس ويعيش حياته بصورة طبيعية، وألا يفكر أبدًا بما كان يفعله والده ويحصن نفسه وولده فيما بعد من أفعال الجن والشياطين حتى لا يسيروا على خطى جدهم المجنون، وبالفعل كان يريد والدك الاستقرار والحياة الكريمة، ذهب إلى المدينة وبحث عن وظيفة، حتى أتقن حرفة صناعة الحليّ لدى أحد التجار، ربح منها الكثير والكثير حتى أصبح في يومٍ من الأيام صاحب محل لبيع الحلي والمجوهرات، وأصبح لديه منزل كبير وراقٍ. تعرف بعدها على (ريما) والدتك وتزوجها وعاش معها أجمل أيام حياته... وفي يوم تشابهت فيه الأرقام والأيام مع السنين...".
- أتعنين يوم ميلادي (8 - 8 - 888)؟!
- "نعم هو ذاك اليوم، حيث ذكرت الأساطير أن مولود تلك الأرقام المتشابهة في أي زمن قد تصيبه لعنة أو مرض، احتل الذعر قلب والدك بسبب تلك اللعنة ووجدته يركض في يوم مولدك حتى يجد لديّ حلًّا قد يساعدك على النجاة، فلجأت وقتها إلى كاهنة كبيرة من النساء اللاتي اختفينَ في وقتنا الحالي وبقي منهم كبار الكهنة الرجال منقسمين في عدة مناطق من أطراف صحراء الربع الخالي.
طلبت منه الكاهنة (خنساء) إحضارك لكهفها على وجه السرعة، وانتظرته معها حتى أتى بكِ إلينا، كنتِ طفلة غاية في الجمال وتشبيهين الملائكة، وضعت خنساء يدها على رأسك ثم نظرت إلى والدك بحدة قائلة: ليست ابنتك الوحيدة.... أين الأخرى ولمَ لم تحضرها معك؟!".
فتحت بتول فمها وصرخت:
- باهلة ماذا تقولين، هل لدي أخت؟
- "نعم، كان لديكِ أخت توأم، لكن والدك قال وقتها لقد ولدت بلا روح وعندما رآها هكذا خشي عليكِ من الموت أنتِ الأخرى وأسرع إليّ لينقذك، وتأكد أن سبب موت أختك هي تلك اللعنة.
غضبت الكاهنة خنساء وقالت له وقتها: "كان يجب أن أقوم بتكفينها ودفنها بنفسي يا نسل عبد الله الحظرد".
ارتجف والدك ولم يسأل عن السبب وتوسل إليها بمساعدته حتى يقوم بحمايتك، وضعتك على طاولة عالية وأشعلت الكثير من الشموع والبخور، وأخرجت من داخل شجرة غريبة كتيبًا قديمًا وأخذت تردد بعض الكلمات الغريبة المذكورة به، ثم أحضرت سكينًا يده مصنوعة من (الورل الضخم) ورل الصحراء وغرسته في سائلٍ ما ثم كتبت على ذقنك به كلمة (المحصنة) وفجأة تحولت تلك الكلمة إلى هذا الوشم الأحمر على ذقنك مما جعل خنساء في حالة ذعر غير مصدقة لما تراه وكأنها لا تعلم ما كان سيحدث بعد تلك الكلمات.
نظرت إلى والدك في غضب قائلة: (أريد جثة توأمها في الحال).
أرسل والدك طاهر جثة الرضيعة مع أحد أصدقائه ليقوم بدفنها قبل أن تعلم والدتك بوجودها حتى لا تنهار وعند عودته له لإحضارها، قال إنه دفن الجثة في إحدى بقاع الصحراء الواسعة ولم يترك أي دليل يرشده إلى مكان القبر فكيف له أن يحضرها.
صمتت خنساء قليلًا وتركتنا وهي غاضبة ودخلت لأعماق الكهف الذي تعيش فيه وكأنها تحدثت إلى شخصٍ ما بالداخل، ثم خرجت مبتسمة، وتمسك في يدها رمحًا أسودَ ضخمًا سلمته ليد والدك، وقالت: هذا رمح بتول، وهي من أطلقت عليكِ هذا الاسم ومعناه (العذراء).
وعندما سألها طاهر عن الرمح، قالت: (احتفظ به حتى تصبح بتول في عمر الحادية والعشرين)
كم عمرك الآن بتول؟!".
ابتلعت بتول ريقها وتسارعت أنفاسها وقالت متلعثمة:
- سأكمل الحادية والعشرين بعد عدة أيام.....
- يا إلهي، ألم تري الرمح من قبل في مكانٍ ما في منزلكم القديم؟
- كنت صغيرة في السن وقتها ولا أتذكر أنني رأيته من قبل وبعد وفاة أبي وأمي أستولى شاهين على أملاكنا كلها زاعمًا الحفاظ عليها كونه الواصي الوحيد، ولكن لم يسلمها لي ولن يسلمها لي إلى الأبد، ما ذهب إلى جوفه لا يعود...ولكن باهلة، ما سر هذا الرمح وذاك الوشم؟!
- لقد عرفتِ ما كان يجب أن تعرفيه حتى الآن، باقي الأسرار ليست في جعبتي، شخص آخر يحتفظ بها داخل صندوق آخر.
- وكيف أجد هذا الشخص؟!
- لا أدري يا صغيرتي، ربما في المكان الذي هربتِ منه، ربما هو العدو الحبيب، ربما هو من يسكن الكهوف البيضاء، وربما هم جميعًا.
- ياااا ألله عودة مرة أخرى للألغاز... ارحميني باهلة، كفاني ما سمعته..
- بتول يجب أن تعثري على ذاك الرمح قبل أن تتمي الحادية والعشرين.. ابحثي في مسقط رأسك لتعودي به للبؤرة السوداء ليحضر الموت وتصيح الأفاعي...
- لاااا... سيجن جنوني إذا جلستُ معكِ أكثر من هذا... سأرحل لأجد جوابًا مناسبًا لباقي أسئلتي عند شخصٍ ما، لا ينطق بالألغاز المشفرة أبدًا وإلا قطعت لسانه.
وقفت بتول لترحل ثم التفتت مرة أخرى لباهلة التي كانت تنظر إليها وتضحك على غضبها وثرثرتها التي لا تنتهي.
- خالتي.... لم تقولي لي حتى الآن كيف أحضرتِني إلى هنا وكيف وصلتِ إليّ وقمتِ بحمايتي من يد ظافر.
ضحكت باهلة بصوت عالٍ قائلة:
- (ما أقســــى أن يكــــــــــون الحبيــــــب هــــو العـــدو المتــــــــــخفي الــــــذي يلقــــــــي بالســـــهم في صمـــــيم القلـــــــــب ليقتلـــــــــه، ومـــــــا أجمــــــل أن يكــــون مــدعـــــــي العــــــــــــداوة مـــــــا هــــو إلا الحبيــــــــب المتــــــخفي الـــــــذي يتلـــــــقى الأســــــــــهم وينـــــــــتشل الألـــــــــم والحــــــزن وبعــــــيدًا عـــــن قـــلـــــــــــبِ الحـــــبيــب يحـــــــــمله)
تنهدت بتول قائلة:
- ما أجمل كلماتك لكن لا أفهم منها أي شيء، حسنًا قبل أن أرحل وأعود لمواجهة مصيري سؤالي الأخير وأعتقد أن إجابته لديكِ: (ظافر هو الحبيب العدو أم العدو الحبيب)؟
- هاهاهاها... الإجابة في صميم قلبك.
(فــــي كـــل خيبــــــة درس، وفـــي كـــل دمــعة قــــوة) كوني قوية، كوني جميلة، كوني عنيدة وصعبة المنال، دعي الجميع يقولون: (سبـــــحان مـــن زينـــها بالثـقل، تلـــفت، ولا تلتـــــفت)
- باهلة سأرحل ولكن ذكريني في المرة القادمة إذا كنت على وجه الحياة، أن أحضر معي ورقة وقلمًا وأدون تلك الكلمات الثمينة التي لا أفهم معناها هاهاهاها.
- لا بأس يا صغيرتي غدًا ستفهمين، غدًا ستحلين ألغازك بنفسك، غدًا وإن غدًا لناظره قريب.... جعلتك في ودائع الله بتول وعودي إلى باهلة منتصرة.
*****
أنت تقرأ
رواية برهوت / للكاتبة سارة خميس
Terrorيجب أولًا أن تكون على يقينٍ أن هناك مخلوقات أخرى تشاركنا الحياة.. قد لا نراها.. قد تظهر للبعض أحيانًا.. قد تعيش في منازلَ وأماكنَ مهجورة.. أو أن يكون موطنها الأصلي في (الربـــــــــــع الخالـــــــــــــي) تلك الرواية تحوي بين صفحاتها أساطيرَ ومعلوم...