اعتراف

807 37 44
                                        



ذهبت وتركته حائرًا، ممزّقًا بين ما يشعر به وما يراه صوابًا. عجز يقتله، وضمير يؤنّبه، لعن نفسه آلاف المرات، ومع ذلك... لا يزال مقتنعًا بما قاله.
منذ عودته من أمريكا، وهو يراها تنفض عن نفسها غبار الحداد، تعود إلى الحياة. وحين سمعها تقول لأمه إنها ترغب بأن تكون زوجة وأمًّا... بدأ يفكر. ويفكر. ويغرق في التفكير.

ليته أناني، ليحتفظ بها إلى جانبه، ليتجاهل رغباتها... لكنه ليس كذلك.
حبه لها أكبر من أنانيته، أكبر من أن يُبقيها في زواجٍ ناقص، حبّه لها أن يُطلقها، وإن عذّبته الفكرة حتى آخر يوم في عمره.
وإن تحطّم قلبه كلّما رآها سعيدة مع غيره، كلّما لمحها تنظر لرجلٍ آخر بحب، فليكن.
المهم أن تكون سعيدة.
ومن يحب... عليه أن يختار سعادتها، وإن كانت السبل قاسية.

وضع يده على شفتيه، أغمض عينيه... أعاد القبلة في ذاكرته، لحظةً بلونٍ مختلف، بشغفٍ غافله، قبلة خالفت كلّ قراراته، أطارت توازنه وأخذته إلى عالم آخر.
يا لها من قبلة... كانت ناعمة، نضرة، مليئة بالحياة، كلّ شيء في هذه الحياة مقرف... إلا تلك القبلة.

تقدّم خطوتين... ثم عاد. جلس... ثم نهض.
قلبه يخفق بجنون، يداه ترتعشان، وعقله مشتعل من التفكير.
يعرف أنه يجب أن يتحدث إليها... أن يوضح، أن يعتذر... أو يعترف.
لكن ما الذي سيوضّحه؟
كلامه؟ أم نظراته؟ أم تلك اللحظة التي لم يكن فيها سوى رجل عاشق، يملك العالم بين يديه... ثم أضاعه بكلمة واحدة؟

طرق الباب، لكنه لم يتلق إجابة، أمسك المقبض وأداره، لكن الباب مغلق !
كان واضحا ! لن ترغب في النظر في وجهك مجددا !
الم تقل لها أنّك تريد الانفصال، وأنك بكل شهامة ستتكفل بالجد والعم والناس !
ابدأ من هذه اللحظة اذن !

توجه الى المكتب، واتكأ على الاريكة ولم ينم !

***

فتح ياغيز عينيه ليجد نورجول تنظر إليه بهدوء، عيونها المليئة بالقلق لم تخفه، بل زادته حيرة. بحث بعينيه عن هاتفه ليتحقق من الساعة، ثم استقام ببطء، متلمسًا ظهره الذي يئن من ألم مفاجئ. قالت له المرأة بنبرة دافئة لكن مشوبة بالقلق:
"ياغيز، ابني! لماذا نمت هنا؟"
لم يجبها، بل ظل صامتًا لثوانٍ، ثم نظر إلى الساعة، ففوجئ بأن الوقت قد تخطى التاسعة صباحًا. نهض متباطئًا وقال:
"لقد تأخرت، هل هازان في الأسفل؟"
أجابته نورجول بدهشة:
"هازان ذهبت."
شعر قلبه يتسارع، هل رحلت؟ كيف رحلت؟ وإلى أين؟!
"ذَهَبَت مع كريم وخطيبته إلى إسطنبول!"
سأل بصوت متوجس:
"لماذا؟"
أجابته مفسرة:
"كريم سيقابل والد الفتاة، وطلب من هازان أن ترافقه، وهي قبلت."
تنفس ياغيز الصعداء. إذاً هي لم تتركه... ليس بعد. ثم سألها وهو يحاول تهدئة نفسه:
"هل ستعود اليوم؟"
في تلك اللحظة، التحقت فضيلة بهما، وكانت نظرتها تُخفي الكثير من الأسئلة. قالت بنبرة شبه قاسية:
"أي زوجين أنتما! ألا تخبرك زوجتك أين تذهب؟"
لم يجبها، ولم تنتظر جوابًا. عيونها، التي لم تَخْلُ من نظرة حادة، لمحت الغطاء الملقى على الأريكة في المكتب، ثم نظرّت إلى ابنها، لتسأله بخوف:
"هل نمت هنا، بالمكتب؟ بني، ألم تكونا على وفاق البارحة؟ ألا أستطيع أن أفرح ليومين متتاليين؟ يومين فقط! ماذا حدث مجددًا؟ ماذا جرى؟ ما هذا الذي لا تستطيعان الاتفاق عليه؟"

أخطاء الماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن