الفصل الخامس. "لمحة من ماضٍ مدفون"

96 10 0
                                    


في فيلا المنسى.
بعد الرجوع من المسجد بدأ "طلال" فى قراءة سورة قرآنية مثلما تعوَّد مسبقًا ، وكل آية تحمل معنًا مختلفًا عن الأخرى.
انغمس فى القراءة المشوقة، حتى أنهى جزئين، فى وقتٍ وجيزٍ، فهو قد اختتم القرآن منذ الطفولة.
و لكنه كل يومٍ يقرأ جزءاً معينًا، حرصًا منه على عدم نسيانه لأي حرفٍ من هذا الكتاب المُعْجِز.
فلكل نبي _عليهم جميعًا صلاة الله و سلامه_ معجزة، و معجزة الرسول "محمد" ﷺ هى القرآن.
حيث جاء لتعجيز العرب و تحديهم بأن يأتوى و لو بآيةٍ مثله، مع العلم التام بفشلهم المُحتم، رغم كونهم عمالقة اللغة العربية و أصحاب الفصاحة و الشعر.
بعد فروغة، وضع المصحف_ بعنايةٍ_ على إحدى الوسائد المرصوصة على الأريكة التى كان يستقر عليها قبل أن يقوم معتدلاً والجًا حمامه، ليحظى باستحمام يُرخي به أعصابه.
مرت دقائقُ على ولوجه بعدها طَلُعَ مرتديًا ثيابه التي سيذهب بها إلى عمله ، و يجفف شعره بمنشفةٍ صغيرة ، ألقاها على الطاولة فور انتهائه.
.........................................
في منزلٍ "غيث أبو النجا"
فى يدها ماسحة قماشية تتصل بيد خشبية، تحركها على البلاط بتكرارٍ لتزيل التراب الناعم عن الأرضية، الذي تراكم عليها.
انتهت لتضع الماسحة فى دلوٍ بلاستيكي مخصص لذلك، ومن ثم تدفعه بمقدمة قدمها، لأحد أركان المطبخ، و تحديداً بجانب الثلاجة من بعيد قليلاً.
- أخوكي لسة مجاش؟
التفتت "إيناس" لوالدتها مجيبة بهدوء مقتضب: معرفش.... تلقاه مخرجش أصلاً.
بعينين ضيقتان تعجبت "صفية": متعرفيش إزاي؟ لما يكون هو كان معاكي إمبارح!
- بصي ياماما ... احنا مخاصمين بعض من إمبارح .... أو بمعنى أصح هو رافض يكلمني.
- و السبب؟
- مش قادرة أشرح حاجة و كدة كدة مش هتقتنعي بكلامي ، فالاحسن تسأليه هو.
ما لبثت أن أضافت "إيناس" بتهكم و غيرة:
"عرفة" ابنك حبيبك، و انا اللي بنت الجيران.
انخفض مستوى حاجبي "صفية" بانكارٍ ، هى لا تنكر أنها تبالغ في تدليل "عرفة"، و إنما تنكر تفريقها بين ابنيها فهى تحبهما بنفس المقدار.
لتحاول استدراج إيناس حتى تفصح لها:
-أهووو، بقى ده اسمه كلام ...... يا ترى يا هل ترى إيه اللي خلاكي ترجعي للكلام ده؟ .... مش كنتي كبرتي على شغل الأطفال و غيرتهم من بعض؟
تبدلت ملامح" إيناس" و احتلها الغضب ، بسبب مرور بعض المشاهد من الأمس على ذهنها ، و تذكرها لأخيها كيف كان يغيظها.
- متحاوليش يا صافي ... عشان مش هتكلم.
تحركت "إيناس" ناحية الثلاجة خطوتين فقط، لتصير بعيداً عن مرمى بصر "صفية"، ثم أخرجت مستلزماتها من الخضار الطازج، لتغسل حبات الطماطم و تقطعها و من ثم تضعها فى الخلاط الكهربائي البسيط كباقي الأثاث حولها.
- يعني كدة؟ مش هتفضفضي لصافي حبيبتك.
تبسمت "إيناس" فى استمتاع قائلة: انسي يا صافي.
غطت "إيناس" وعاء الخلاط جيداً، لتضغط على الزر الصغير، فيصدح الصوتُ المزعج فى الارجاء.
فصلت الكهرباء بعدما تأكدت من تفتيت قطع الطماطم حتى صارت سائلاً أحمراً متجانسًا.
دلف "عرفة" إليهما يحمل كيسان من البلاستيك الابيض ، تجاهل وجود إيناس متلافيًا النظر ناحيتها كي يحافظ على ثبات انفعالاته، هتف موجهًا حديثه لوالدته: يا ماما أنا ملاقيتش طعمية جاهزة، فاشتريتها نية إبقي اقليها.
بنبرة جعلتها محبة رقيقة نبست "صفية": حبيب ماما انت‌َ.... مش حابب تحكي لماما عن حاجة؟
مثل عدم الفهم لتلميحها البين، و بدا غير مكترثٍ حينما أجابها على عجالة: لأ يا ماما.... انتي عارفاني لو فيه حاجة كنت قولت.
اومات "صفية" بالايجاب، و استلمت منه الحاجيات على مضضٍ، فغادر "عرفة".
عضت "صفية" شفتها السفلى فى محاولة لتخمين ما لا يودان إخبارها به، و يا للأسف! لم تتوصل لشئ يفسر حالتهما، لتهمس لنفسها بحنقٍ.
- ماشي يا ولاد غيث.
لتملى على ابنتها ما سيفعلانه: اعملي انتي الفول بالطماطم، و انا هقلي الطعمية.
ردت عليها "إيناس" موافقة فى اقتضاب: حاضر يا صافي.
...........................
شد "طلال" طرفي سترته الزرقاء القاتمة بأنامله ليغلق الزرارين الوحيدين بها، مطالعًا مرآته ذات الاطار المزخرف، ليعدل ياقة قميصه الأبيض، ليكتشف أنه نسي إرتداء "الجرافات" الخاصة به، فزفر بسخط لعدم رغبته فى التأخر عن الشركة.
انتشل "الجرافات" بانفعال ليشرع فى لفها، حيث رفع ياقة القميص و مررها حول الياقة ليعقدها بسهولة لاعتياده على إرتدائها بكثرةٍ.
وجد مشكلة فى إدخالها أسفل السترة بحيث تظل مرتبة و لا تنكمش، تنهد بانزعاج و هو يخلع سترته مجدداً، أحسن لف "الجرافات" واضعًا السترة فى إنثاناء مرفقة، ليلتفت إلى "الكوميدينو" جانب الفراش ممسكًا بهاتفه بين بنانه، طالبًا رقمًا مدونًا فى قائمة الأسماء، ثم وضعه على بعد بسيط من أذنه، ليأتيه الصوت رخيمًا نعسًا: طلال........ حرام.... عليك... سيب... سيبني... ف.... حالي... النهاردة.... أجازة.
ضغط "طلال" على أسنانه بقسوةٍ ، حتى احتكت ببعضها فصدر عنها صرير مسموع.
- فوق يا باسل ، و ركز معايا.
تمتم "باسل" ببعض الكلمات الغير مفهومة و لم يتبين منها سوى: ممممم، مممم، مر.... مركز معاك أهوة.
بعصبية تابع "طلال" ضاغطًا هذه المرة على قبضته: بقولك فووق، انت بتبرطم بتقول إيه؟!
ثم صرخ فيه بضيق لغياب صوته و عدم رده عليه: باااااسل.... أنا بكلمك... روحت فين؟
انتفاضة سرت بكامل بدن "باسل" إثر صرخة طلال الصاخبة، ليعود له وعيه قائلاً بتثاؤب: نعم يا طلال.
سخر "طلال" منه بهتافٍ قانط: - نعم الله عليك يا أخويا، هو ده اللي انتَ فالح فيه، بس متعرفش تشتغل زي الناس.
كي يتجنب الشجار الذي كرب أن يحتدم همس "باسل" ضاجراً: خلص يا طلال، قول عايز إيه؟ لأحسن و الله هكمل نوم.
- باااسل .... بطل رغي ، قدامك ساعة و نص بالكتير و ألاقيك ف الشركة، انت فاهم؟
هذا آخر ما قاله "طلال" و من ثم انهى المكالمة، هو يعلم أن معاملته ليست جيدة معه، لكنه يجب أن يقسو عليه قليلاً بل كثيراً، حتى بنتبه لعمله و أموره الهامة.
..................................................
منزل "فداء أبو النجا"
- عقابًا ليكي، على تضييع صلاة الفجر، مافيش خروج النهاردة من البيت.
ابتدر "فداء" حواره _الشبه جاف_ مع ابنته، ريثما تفك لفة حجابها و تطوي السجادة لتضعهم فى خزانتاها الخاصة.
فتأكد من شكوكه حول تفويتها لصلاتها، فقد اخبرته زوجته "فريال"، و رغم ذلك لم يصدق أنها لم تلتزم بلتعليماته أو حتى تخف من تحذيراته.
استعطفته "تغريد" بصوتٍ يظهر به الندم: طيب ينفع أروح عند إيناس؟
- أنا بتكلم إنجليزي و لا انتي بطلتي تفهمي؟
- دي بنت عمي يا بابا.
اغلق آخر باب أملٍ فى وجهها بقوله الحازم: لا عند إيناس و لا غيرها، حتى لو فريال راحت مشوار هتفضلي انتي قاعدة هنا لوحدك، و فكري كويس لحد ما تعترفي لنفسك بغلطتك.
اصتدم كتف "فداء" أثناء مغادرته بكتف "فريال" و لم ينتظر دقيقة واحدة معهما فى المكان ليدعهما وحدهما.
اقفلت "تغريد" باب الخزانة بقوةٍ و همست باستياء: بردو قولتيلو إني مصليتش، ماشي يا فيري.
رفعت "فريال" كتفيها و انزلتهما غير مبالية، لتخرج هاتفة: انتي عارفاني مبحبش الكذب.
لتدبدب "تغريد" بقدمها، و هى تغلي من الغيظ، لتضيف بصوت مرتفعٍ :دي أخرتها يا ماما!
رد "فريال" و هى تبتعد وصلها: كل واحد لازم يتحمل نتايج غلطه......
.......................................
هفا المفتاح بداخل القفل، ليدفع "باسل" باب شقته قليلاً و من ثم يخرج مغلقًا إياه خلفه.
و تأكد من وجود حقيبته الجلدية السوداء، التى تضم فى ثناياها اوراقًا و ملفاتٍ شديدة الأهمية.
و كاد أن ينزل على السلم، إلا انه فكر فى تفقد المصعد الكهربائي، لربما تم تصليحه، فى تلك الفترة القصيرة.
فهو لم يتوانى عن توبيخ مالك هذا العقار و تهديده بالعواقب الوخيمة التى ستحل على رأسه إن لم يصلحه _أي المصعد_ و أخبره "باسل" بضرورة إنتهاء الصيانة فى فترة وجيزة.
حيث إنه طلب رقم مالك العقار ليلة أمس فور وصوله إلى شقته موبخًا بكلماته الحادة: الاهمال ده مش هسمح بيه بعد كدة، انتي بني آدم مهمل و غير مسؤول ..... إن اتكرر الموضوع ده تاني متلومش غير نفسك ....... إحنا مش بنعلب هنا .... لا ..... لازم يتصلح قبل الصبح ..... ميهمنيش إذا كان نص الليل و لا أوله ....... ياريت ده يحصل من غير تأجيل .... أما نشوف.
أفاق "باسل" من شروده القصير، ليضغط على أحد أزرار اللوح الالكتورني، فانفتح المصعد مصدراً صوته المعتاد.
انبسطت معالم "باسل" براحةٍ، وهو يلج إلى الداخل، فمن الجيد انهم أنهوا التصليح فى وقتٍ قياسي.
............
فى غرفة إيناس.
جالسة على سريرها ممسكة بصورة لطفل صغير لم يتعدى الخامسة، سرحت فى ذكريات جميلة محفورة فى فؤادها حتى الممات.
♕♕♕♕♕♕♕♕
كانت وقتئذ في عامها السابع و العشرين، تركض خلف ولدٍ لطيفٍ دقيق الملامح مكتنز الحجم، و تلحقها ضحكاتها المبتهجة، سكنت عن الحراك و قد نال التعب منها ما نال، لتهتف بصياحٍ: كفاية يا أيمن، انا تعبت.
تزمر بلطافةٍ قائلاً: لأه ..... أنا عايز أكمل لعب ..... انتي شكلك عجزتي خلاص.
تزمره اللطيف جعلها تقهقه بقوةٍ حتى آلمتها عضلات وجهها و فكيها لتقول ضاحكةً: مش قادرة، انت شكلك ظريف قوي و انت متضايق كدة.
عدا "أيمن" نحوها ثم ألقى بنفسه عليها، فاختل توازنها، مما دعم سقوطها على السجادة.
و بدأ "ايمن" يدغدها بأنامله الناعمة، إلا أنها قلبت الموازين فى لحظةٍ، حيث دارت به لتجثو فوقه و تدغده بشكلٍ أقرب إلى الرفق، و لكنه لم يتحمل و كاد ينفجر من كثرة الضحك، ليصرخ عاليًا من وسط ضحكاته الرنانة، ليعلن انهزامه أمامها ب: انت... ي...... الكسـ... ـبانة ... سيب..... سيبيني..... خلاص هموت.
كفت "إيناس" عن الدغدة و قامت من مكانها حاملة إياه من خصره، لتحذر برفقٍ: إياك تقول عليا عجوزة تاني.
امتثل "أيمن" الصغير للامر الذى تشوبه نبرة مرحٍ رفيق.
- بعد كدة مش هقولك يا عجوزة.
أخبرها و هو يزيل دموعه المنسابةٍ إثر ضحكه الشديد.
♕♕♕♕♕♕♕♕

كم كانت سعيدة الفؤاد مرتاحة النفس آنذاك!
...........................................
-إيه اللي أخره لحد دلوقتي؟
ابتلعت "سندس" ريقها الذي صار جافًا و تمنت من قلبها ان تجدي كلماتها نفعًا فى تهدئه أعصاب "طلال"، تكلمت معللة تأخر باسل الغير مبرر ب: اهدي يا باشا، هو أكيد ع الطريق، و هيوصل ان شاء الله.
- اقفلي يا سندس، أنا هعرف اتعامل معاه كويس.
القى"طلال" بسماعة الهاتف الأرضي على سطح مكتبه، و ما أسرعه انفعالاً و أشده غضبًا فى هذه اللحظة، فلقد تأخر ابن خاله المصون ساعةً كاملة عن الموعد المحدد له و لم يحضر إلى الآن.
- حسابك معايا عسير يا باسل، عشان تلتزم بالمواعيد بعد كدة.
همس"طلال" بصوته المنفعل متوعداً ابن خاله بجزاء على إهماله الملحوظ.
............................................................
............................................................

رغم قسوة الحياة سأحيا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن