الفصل الرابع عشر "عاد ماضيه الأسود"!

74 3 6
                                    

فى شقةٍ فاخرةٍ تابعةٍ لـ "سفيان" .

واقف أمام مرآته بكل هذه الجديـة الباديـة تلقائيًـا على ملامحـه المرتخيـة فى أقل الأحيان بحكم طيبعة عمله كـشرطـي ينبغي أن يكون على قدر كبير من الصرامة و الحزم، و الذان يليقان بـه و يعطيانــه جاذبية لا تقاوم.
تأمل هيئتـــــه المتأنقــة فى زيــــــه الرسمــي، بنجومــــه الصفراء المعلقــة علـى كتفيه العريضين تدل على رتبته و تعطيـه مكانــة اجتماعيـة ترتجف لها القلوب و السيقان، و يحسـب لـهـا الكبير و الصغيـر ألف حساب.
مرر أصابعـه الطويلـة فى شعره يمشطـه سريعًـــا، يحرك رأسه للجانبين ليرى إن كانت خصلاتـه جميعها مهذبـــــة أم لا.
دومًــا ما يتركهـا مبعثرة قليلًا، يتعجب لنفســــــه كيف يتمكن من ضبط المجرمـين بينما يقف عاجزًا أمام هذه الخصلات المتمردة لنعومتها الذائدة!
ضحكَ لتذكره لموقفــــه الدائـم مع "طلال" و الذى على الدوام يعلق علـى تسريحته ممازحًـا:
_ بجد مش مصدق إنك قادر تمسك المجرمين و تحاسبهم و تخليهم يعترفوا و لحد دلوقتي مبتعرفش تسرح شعرك كويس.
و كما أعتاد يكون رده بسيطـًا:
_ واحد زيي كل وقته و اهتماماته لشغلـه، مش هيفرق معاه تسريحة شعره.
و بالحديث عن" طلال" فإن حالته الجسدية فى تحسن مستمر، و قد كان "سفيان" يتردد علـى المشفـى فـى زيارات متقاربة ليخفف عنه جوها الكئيب و يتسامران أحاديثًا شيقة و كان ينضـم إليهما "فراس" الذي ظل ملازمًـا لـ"طلال" طيلة فترة خضوعـه للعلاج.

مع انتباهـه من شروده القصيـر كان قد وصل للباب ففتحـه و خرج مغلقــا إياه بالمفتاح و مع استدارتـه تفاجـئ بمن ينتظره و يلوح لـه، مستندًا على سيارةٍ أتـى بها، و علـى وجهه ابتسامةً غبيـة، أو هكذا رآها "سفيان".
........................................
تغلب على تفاجؤه، و تخطاه وكأنـه لم يره، لا، وكأنـه شفاف، وكاد أن يركب سيارتـــه لولا اليد التـى حالت دون فتح الباب حيث أغلقـه اثناء فتحه.
رفع عينـاه الغائمتان بسحب الغضب فرآه لازال مبتسمًـا، هتف فيـه ضائقًـا:
_ أوعـى من وشـي يا سامـي مش ناقصاك ع الصبح، و بعديـن مال فشتك عايمـة عليـك و بؤقك من الودن للودن.
تحولت ابتسامة" سامـي" إلى قهقهات و اعتبر نبرته التهديدية مُزحـة.
بينما قال مشيدًا بمظهره الآخاذ كأنـه لم يسمع تهديده:
_ إيـه الشياكة دي يا عم البشوات كلهم.
ارتفع حاجب "سفيان" بحدةٍ عفوية لم يتعمدها، بينما أكمل "سامـي" مُقيمًـا مظهره بعيناه و ناقدًا:
_ بس لو تسرح شعرك لورا و تحط كريم مثبت أو جِل هتجنن عقل اللى يشوفك.
و لمـا رأى نتيجـة عكسية لكلماتـه، أصر عليه بقولـه:
_ صدقني بس و خد منـي.
أزاحـه "سفيان" إلـى الجانب، ثـم أبعد كفـه عن باب سيارته ليفتحها و يدخلها غير مكترث بـه.
و فى ثوانٍ و قبل أن يستوعب كيف و لماذا وجده يحتل المقعد المجاور لـه و يغلق على نفسه حزام الأمان بكل هدوء مُغيظ.
_ إنزل يا سامـي و بلاش لعب عيال، ورايا بلاوي مايعلم بيها إلا ربنا.
رن صوت "سفيان" يأمره بضيقٍ شديد، بينما أخذ يفتح الباب من جانب "سامـي" الذى أعاد إغلاقـه مستفزًا إياه عن غير قصد، قائلًا:
_ لا، أنا جاي معاك، رجلي على رجلك.
امتدت يد "سفيان" إلـى باب السيارة الثاني يغلقه بقوةٍ و عنف، و جذب سامـي من مقدمة "تيشرته" بحيث ينظر له بشكل مباشر و يخيفـه ، ليصير محصورًا ما بين حزام الأمان المشدود على جسده بفعل سحبه له و ما بين يده الغاشمة ، مستأنفًـا حديثه بــ همسٍ غاضبٍ:
_ ولا شايفني رايح حضانة عشان تشبط فيا؟! انا لحد دلوقتي موريتاكش الوش التاني، سيبني أغور القسم عشان يومي مش ناقصك، كفاية الأشكال اللى بشوفهم كل يوم ، بلطجية و حرامية و قتالين قتلة، واخد بالك؟ رايح القسم، ها الـ إيه؟
رمش "سامـي" بعيناه كـ طفلٍ امسكته أمـه لتعاقبـه على مشاغبتـه، و ابتلع ريقـه، محاولًا إبعاد يد "سفيان" برفقٍ، لينطق بنبرة شبه راجية و ابتسامة مهزوزة حذرة:
_ إنت مكبر الموضوع ليه؟!
استمر فى محاولاته لجعله يتركـه و شأنـه، لأنه قد أخافـه بردات فعلـه و نظراتـه المرعبة، كشبحٍ ينوي التباسه، مكملًا كلامـه:
_ كنت عاوز عربيتي اللى كنت سايقها وقت الحادثة، و إنت قولتلي هتعمل شوية إجراءات و تجيبها، بس استنيت كتير و موصلنيش منك حتى رنة فون.
فك "سفيان" يده عن ياقة هذا المذعور، ليدفعـه قليلًا ناحيـة ظهر المقعد يعيد ضبط جلستـه، مربتًـا على كتفـه تربيتات عنيفـة، ليتمتم بتهديد:
_ اتظبط و انت قاعد، و ياريت لسانك الحلو يفضل جوة بؤك احسنلك.
شغل محرك السيارة، يزفر أنفاسـه باشتعالٍ، فها هو يوم جديد اُفسِدَ عليـه، تذكر أمر سيارة "سامـي" الذى أتى بها و كان يرتكز عليها حين رآه، ليسألـه فى صوتٍ به قليل من هدوء:
_ هتسيب عربيتك هنا؟
ارتاح "سامـي" فى جلستـه باستمتاع بعدما هذب ياقته المنكمشة من ضغط هذا الضابط و سحبه لها منذ قليل، و رد عليـه بسماجة:
_ و إيه ياعني؟ أكيد هسيبها هنا، عشان عارف إن محدش هيجرؤ يسرق حاجة من قدام بيتك يا باشا.
ارتفعت زاويـة فم "سفيان" بنصف ابتسامـة تملؤها السخرية، و مع سير السيارة علق عليـه ساخرًا :
_ وجهة نظر بردو.
و العجيب فى الأمر أن "سامي" من كان يستميت ليستقل السيارة منذ لحظات قليلة، الآن يهتف فيه و يستوقفه بعيونٍ متسعة بادراكٍ لشيء ما، و بلهفةٍ طاغية:
_ وقف، وقف بسرعة.
أُثِيرت أحساسيس "سفيان" الأمنية، و تنبهت أجهزة الخطر فى شرايينه و فصوص عقله، ليدوس بقدمة على المكابح، فارتد جسدهما معًا للأمام بعنف و عادا مجددًا.
كان "سفيان" الأقل تأثر من التوقف المفاجئ، حيث امتدت يده إلى جانبـه ليحوز سلاحـه الـشرطِي من الجراب الخاص به، رافعًا إياه يحركـه فى كل الاتجاهات بحذرٍ و ترقب.
همسٍ فى صوتٍ خفيضٍ حاد:
_ في إيه؟ شوفت حاجة غريبة أو خطيرة؟
_لا، بس .... بس افتكرت .... إني ... إني.
تلبك "سامـي" و تلعثم فخرجت كلماته على هذا النحو، مما قلب كل تعبيراتٍ "سفيان" السابقة إلى شكٍ حديث، و راح يطالعه بنظراتـه التحقيقية، مستجوبًـا إياه بنبرته الرسمية التى يعتادها مع المتهمين، و بالطبع لم تخلو من سخريته المُبَررة :
_ كنت ناسي إيه و افتكرته؟ مالك اتلجلجت كدة؟ اللى يشوفك دلوقتي ميشوفكش من شوية و إنت بترغي زي البراباند!
انحدرت حبيبات العرق من جبينه على وجهه، و زاد ربكة و توترًا و بخاصة هذه العيون النافذة بنظراتها المتركزة عليه لا تنزاح عن وجهه لحظة!
_ متنطق!
لم يجبـه، بل و اندفع خارجًـا من السيارة فى ثوانٍ كما دخلها، و هرول إلى سيارته البعيدة قليلًا ملوحًـا بيده للخلف، يصيح بصوتـه العالي:
_ اسبقني انت ع القسم، افتكرت مشوار مهم هعمله و احصلك، تكون انت خلصت كل الاجراءات و مضطرش استنى.
رغم أن نبراتـه اتسمت كثيرًا من الثبات على عكس الأخرى منذ قليل، و إضافة إلى عقلانيـة مبرراتـه، إلا أن "سفيان" لم يقتنع بهـا، و ظل يحلل أفعال هذا الفتـى المتقلبة و المتسرعة، بينما عيناه أبقاها بشرودٍ على حزام الأمان الملقـى على المقعد الذي أصبح فارغًا بجواره، و تحرك لسانـه بهذه الكلمات:
_ الواد ده وراه حاجة مش طبيعية، تصرفاته مش مظبوطة.
.............................................................
تنفس "سامـي" براحةٍ كبرى لإلفلاتـه من بين يدي سفيان، و ظل واقفًـا بقرب السيارة حتى لاحظ ابتعاده بالتدريج، حتى اختفى نهائيًا بسيارته.
و سريعًا فتح "سامـي" سيارتـه و أخذ من التابلوه علبـة صغيرة للسجائر، و تعلقت نظراتـه بها بطريقـة مريبة، كــ شخصٍ تعثر بـ كنزٍ بعد أن قضى عمره كلـه فى فقر مدقع.
و عينيه المتوهجتين أظهرتا تلهفًـا غير طبيعي البتة، خاصة و هو يشتـم العلبة كالمدمن حين يتناول جرعتـه.
أخرج منها سيجارة ملفوفةٍ بإتقانٍ لدرجة أن الناظر لها لن يجد فرقًـا بينها و بين سائر السجائر، مررها أمام أنفـه مغمضًـا عيناه بإشتهاء يحادثها معتذرًا:
_ آسف، سامحيني عشان كنت هنساكي.
يتمنى لو يشعلها، و لكنـه استبعد الفكرة حاليًا بقولـه الهامسٍ همسًا شديدًا:
_ ملعش بقى، هستنى شوية، لازم ابقى فى وعيي لحد ما أروحله، كمان مينفعش اخلى سفيان باشا يشك فيا، خصوصا و انا رايحله القسم.
أعادها بقرب مثيلاتها من السجائر، و أضاف بنبرةٍ تقطر خوفًـا و رعبًـا:
_ ساعاتها هكون روحت فى داهية ممنهاش رجعة، و أقول على زهرة شبابي يلا السلام.
.....................................................
"شركة المنسـي "

رغم قسوة الحياة سأحيا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن