الفصل التاسع "ثـور هائج"

82 4 9
                                    

الفصل التاسع⁦❤️⁩
_ هى .... هى اتصلت .... ما .. ماما في ... فيدرا.
مصدوم هو من تلك القنبلة المجازية الملقاة فى وجهه ، و لم يجد كلامًا يقال فى هذه اللحظة الحساسة ، فــ التزم بأمر الرسول "صلى الله عليه وسلم" فى حديثه الشريف :(لتقل خيراً أو لتصمت.) فصمت لكى لا يجرح مشاعر باسل أكثر مما هى مجروحة حد النزيف ، مشاعره المسحوقة تحت أقدام ذكرياته القاسية.
و قد مرت دقائق لا بأس بها على سكوتهما و شرود كل منهما فى واد خاص به ، ليبدد "طلال" كل ما به من شحنات سلبية إلى أخرى إيجابية طموحة ، ليضع راحتيه أسفل رأس باسل و يرفعها عن حجره ، و يردف فى حماسة :
_ يلا قوم ، يلا معايا بقى ، متبقاش نِكدي!
آخر عبارة كانت مازحة بهدف التخفيف عن باسل و القضاء على حزنه و خموله و الأكثر أهمية إبعاد أفكاره قدر الإمكان عن التغول فى الماضي المؤدي إلى دفعات من الآلآم.
ليتمحور فكر "باسل" فُجائيًا حول هذه العبارة و فى استنتاج هوية المكان الذى ينوي ابن عمته اصطحابه إليه ، قائلاً فى تساؤل بديهي :
_ هتاخدني على فين؟
هش "طلال" و تشدق فى بشاشة و لطافة :
_ مش هقولك.
تبدل كل ما بــ "باسل" من حزن إلى وفرة من الاستغراب ، و أختزل المسافة ما بين حاجبيه عاقداً لهما ، و أصر مكرراً سؤاله ثانيًا :
_ أنا بقى مصمم أعرف ، ناوي توديني فين؟
و من عيني "طلال" مر شعاع تشويقي ، و أشار بسبابته على ما يرتدي من لباسٍ بيتي لا يليق بالتجول خارجًا ، مضيفًا بشئ من التمازح :
_ شايف منظري عامل إزاي؟ آدي الكريزما راحت ! ، الأول هاتلي لبس من عندك عشان أغير.
و استطرد مكملاً حديثه بحكمة مغلفة بشئ من المرح :
_ باسل ! كل شئ فى وقته حلو ، و متخافش مش هضيعك ، أنا حافظ الطريق.
.................................................
فى إحدى المدارس الحكومية.
بعد انتهاء المحاضرات لليوم، حان موعد رجوعه إلى المنزل، حتى لا يشعر والده بغيابه، ويسأل عنه فيكشف أنه يحضر الدروس الخاصة من وراءه و بدون إذنه.
و مع آذان الظهر ، أخذت أفواج الطلاب تعبر البوابة الحديدية المطلية أفقيًا باللون الأحمر يليه الأبيض ثم الأسود، أى ألوان علم مصر، فهذه الطريقة شائعة فى شتى المدارس و خاصة الحكومية منها.
رأى العلم يرفرف مع النسمات القوية، و يتوسطه نسر رافع رأسه و كأنه يفتخر بأصله و انتماءه إلى هذه الارض الغالية و هذه البلاد الحبيبة.
و بغتة اندفع الطلاب للداخل و تزاحموا فنجم عن هذا التزاجم الشديد، سقوط عدد منهم وتم دهسهم بالأسفل ليصرخوا متألمين ثم يفروا خائفين صارخين، و يجاهد كل طالب من الواقعين أن يقفوا على أقدامهم ليكملوا جريهم يعرجون غير آبهين بآلامهم و كدماتهم.
راع "عرفه" ما يرى فكأنما القيامة قد قامت!، و بسبب اصتدام زملاءه به كاد أن يقع كالباقين إلا أنه تماسك و تشبث بجزع شجرة لاذ إليها ليحفظ لنفسه مكانًا آمنًا من هذا الهياج العجيب و الذي لم يعهده مسبقًا، إلا حينما يمزح أصدقائه مع بعضهم، ولكن ليس بهذه الشدة و هذا العنف.
اتسعت جفونه و بان بياض عينيه و هو يتابع المدرسين يندفعون كـ الطلاب و ليس حالهم أفضل منهم، وهذا ليس وارد الحدوث أبداً.
فما بالهم و ما راعهم إلى هذا الحد؟! لما عادوا إلى المدرسة؟ و لما يغلقون بوابتها بهذا الهلع و الرعب؟!
.................................................
فى شركة المنسي.
تستحق جائز نوبل على السرعة القياسية التى أتت بها إلى الشركة ، فقد انتظرت خروج رئيسها فى العمل هو و ابن خاله من الشقة و لكنهما تأخرا ، فأضطرت للمجئ كي لا تتأخر.
سألت "سندس" نفسها بشئ من الفضول الممزوج بالتعجب :
_ هما مالهم ؟ اتاخروا كدة ليه؟
حملت فى يدها الهاتف الأرضي الخاص بمكتبها و طلبت رقم منزل باسل و التزمت الانتظار عل أحدهما يجيب ، لم يصلها أدني رد ، فعبثت بداخل حقيبتها الصغيرة التى تحوى هاتفها المتنقل و أخرجته لتتصل على هاتف طلال :
_ ألو .... إنت فين يا باشا؟
جاء الصوت جاداً :
_ أنا مع باسل فى عربيتي ، عندنا شوية مشاوير لحد اسكندرية هنقضيها.
رفعت حاجباها فى ذهول حقيقي و سألت مباشرة :
_ طيب و الشغل و الصفات و الإجتماعات ، مين هيعمل كل ده؟
رد "طلال" بما جعل من وجهها يشع نوراً :
_ لا ، مافيش شغل النهاردة .
و أستأنف محملاً إياها مسؤلية أخرى مكلفة بتحملها :
_ بلغي الموظفين و خليهم يروحوا بيوتهم ، و إتأكدي إن كل ببان الشركة مقفولة كويس ، إنتى معاكي كلمة السر ، تمام؟
_ تمام حضرتك.
أضاف مؤكداً عليها تنفيذ ما سيقول :
_ و سيبي إتنين من الحراس على كل باب ، فى حال لو حصل حاجة.
وقفت من خلف مكتبها مجيبة فى هدوء و تهذيب :
_ حاضر يا فندم ، أي أوامر تانية؟
_ أه ، بكرة كمان أجازة ، أكدي على الموظفين محدش ييجي.
ثم أنهى المكالمة سريعًا بعد أن قال :
_ سلام.
_ مع ألف سلامة يا فندم.
أعادت هاتفها إلى مكانه و ضبطت هيئة ثيابها سائرة نحو مكاتب الموظفين ، مع زفرات مرتاحة بها قليل من ضيق فينبغي عليها إبلاغ كل هؤلاء و تنفيذ تلك المهمات المتعبة ، و لكن هذا يهون فى سبيل يوم و نصف من العطلة المفاجئة.
..................................................
نعود إلى هنا ، منزل غيث أبو النجا.
انهيتا مهمتهما فى الجلي ، و ها هو وقت حصولهما على مكافئة مستحقة على جهودهما المبذولة ، و تلك المكافاة حازتا عليها من تلقاء نفسيهما ، مقررتان الترفيه عن قلبيهما بشئ جميل تحبانه ، و كان لهما السبق فى الجلوس و التقليب بين قنوات الرسوم المتحركة ابتغاء الاستمتاع بالمشاهدة ، و بينما هى ضاغطة على أحد ازرة الريموت كنترول ، صاحت بها "تغريد" فى لهفة ظاهرة :
_ رجعي على القناة اللى عديتيها ، لمحت كرتون فى منتهى اللذاذة.
كفت "إيناس" عن فعلها و لفت رأسها نحوها رامقة إياها بجهالة ، و سألتها بهدوء :
_ أى قناة؟
عبست "تغريد" بوجوم صبياني ، و أردفت موضحة :
_ القناة اللى فوق ، دوسي على الزورار الفوقاني.
_ فوق فين بالظببط؟ مافيش آآ
خطفت "تغريد" جهاز التحكم لتقلب بين القنوات الفضائية العديدة ، و تشدقت ناطقة فى رعونة :
_ هاتى كدة ، عقبال ما تستفسري و تعتري فيها يكون الكرتون خلص.
زفرت "إيناس" زفيراً ضائقًا من التصرف الأهوج لـ ابنة عمها معها و طريقتها الشرسة فى الحوز على الـريموت ، تلاه صب تركيزها _بملل متجلى فى عينيها الخضراوان _ على التلفاز الذي يعرض فيلمًا كرتونيًا لفتاة تبكي بحرارة و تضم رأس كائن ما ، يبدو كأسد أو ما شابه.
و أما "تغريد" صفقت تصفيقات متحمسة ، و مدت قدميها على الـ "بوفة" المقابلة للأريكة التى يجلسان عليها ، و أراحت ظهرها إلى المسند الأسفنجي خلفها مربعة ساعديها ، ثم تكلمت فى تشويق :
_ الله! Bueaty And The Beast ، أنا بموت فى الكرتون ده!
و سرعان ما تغيرت كل معالم الفرح عن وجهها و طغى عليه التأثر حزنًا ، و نجم عن هذا تدفق الدموع إلى مقلتيها و إنزلاقهم على خديها باكية فى صوت عالٍ.
حولت "إيناس" نظراتها إليها منزعجة من عاطفيتها الزائدة عن اللازم ، و رمقتها بتجهم ، قائلة فى يأس :
_ كل ما تتفرجي على الكرتون ده تعيطي؟!!
و أردفت فى استياء هادئ :
_ أصلاً هو مش هيموت ، يعني مافيش داعي تولولي.
أنزلت "تغريد" قدميها ليكون مستقرها على السجادة الوثيرة ، و أدارت كامل وجهها نحوها تحدجها بعينيها المحتدتين المتألفتين بالعبرات ملوحة بالـريموت تجاه الشاشة التلفازية ، متكلمة بــ :
_ هو إنتي معندكيش قلب؟ مبتحسيش؟ مش شايفة هو مجروح إزاي و هى بتعيط عليه؟!
تأففت "إيناس" بحنق ، مطلقة صراح تنهيدة حارة من صدرها ، لتحجم ضيقها و حنقها ، مستطردة بمراعة للمشاعر الهشة و التأثير الممارس على "تغريد" كنتيجة لاندماجها المبالغ مع المشهد الدرامي العاطفى ، و قالت بصوت رقيق :
_ يا حبيبتي ده خيال و ملهوش أساس من الصحة.
امتعضت كافة تقاطيع "تغريد" امتعاضًا كليًا و تعقدت تعابيرها الساخطة ، و أضافت مدافعة فى لهجة أكثر تصميمًا :
_لأ مش خيال ، الحب أكيد موجود ، و هو أكبر حقيقة بس إنتي اللى مش دريانة!
اعترى "إيناس" ذهول من رؤيتها لتلك التقلبات المزاجية المنعكسة على ابنة عمها ، فــ أشارت بسبابتها فى الهواء على وجهها بشكل دائري و سألتها ذاهلة :
_ إيه كم الريأكشنات الغريبة دي؟
_ نعم يا ختى!
_ خلاص متزعليش و تقلبي سحنتك.
تزامن حديثها اللطيف و المازح مع إعطائها علبة المناديل الورقية الكبيرة ، فتناولتها منها "تغريد" عاقدة الحاجبين الرفيعين ، قائلة :
_ ناس متجيش إلا بالعين الحمرا.
ضاقت عينا "إيناس" متسائلة بانزعاج تام يصاحبه استنكار :
_ مش فاهمة ، محسساني إنى غلط فــ حد من عيلتك ليه؟!
_ لما تستهيني الكرتون اللى بحبه ، و تقللي من قيمة مشاعري ، فــ أنا هتضايق و آآآ .....
_ تغريدة قلبي ، فكيها و متعقديهاش ، أنا رأيي نخلينا فــ الفيلم اللى قرب يخلص ده.
_ اه صحيح.
اعتدلت "تغريد" متأهبة عقب جملتها الأخيرة و تابعت فى قمة تركيزها لما يعرض أمامها ، و من ثم انتهى الفيلم فـ لم تمنع لسانها من السؤال بحيرة و مزاح:
_ أمال فين جماعة الخير؟ مشوفتش غيرك من لما جيت.
قضمت "إيناس" رقائق البطاطا المقلية منزليًا فـ صدر صوت القرمشة المثير للشهية ، و من بعضها ردت فى اقتضاب :
_ طنتك صفية طبقت الهدوم و خادتلها قيلولة ، و بابا فى المكتبة كالعادة ، أما عرفه الغلس فــ آآآ
قاطعتها "تغريد" لتكمل بتخمين سديد :
_ من غير ما تقولي ، راح الدرس مش كدة؟
_ أه ، فعلاً.
...........................................................
حط "طلال" الرحال على بوابة أحد الجوامع فى " الكومبوند " الذي يسكن به مع ابن خاله و الذي تطلع للأمام بعينين فضولتبن متفحصًا المكان ثم وجههما إليه متوشحتان بالتعجب متسائلاً :
_ مش انت قولت لــ سندس فى الفون إننا رايحين اسكندرية؟
_ أيوة .
_ طيب جبتنا هنا ليه؟
تبسم "طلال" بـ راحة مجيبًا :
_ هنصلى الضهر و نتوكل على الله.
تفقد "باسل" ساعة معصمه غير مصدق و نبس بتفاجئ :
_ الضهر أذن فعلاً ، بس انا مسمعتش الآذان.
ظهر الندم على محياه فأعاد إليه شيئًا من الحزن ، مستأنفًا بحروف بطيئة :
_ أول مرة تحصل معايا ، إزاي مسمعتوش ، إزاي؟
أشرقت عينا "طلال" بضياء الإيمان مفتخراً بابن خاله و خفف عنه بقوله المتسائل :
_ عارف انا جيبتك هنا قبل ما نسافر ليه؟
اجتذب الحديث انتباه "باسل" ليسأل غير مقتنع بالسؤال العجيب:
_ ليه؟
زادت إشراقة "طلال" فبدا وجهه كالبدر فى ليلة إكتمال ، و رد عليه بشوق كبير :
_ هجاوبك بكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
_ اللهم صلى على محمد.
أوقف "طلال" محرك السيارة ، و ترك المقود ، ملتفتًا إليه سائله بعذوبة نابعة من قلبه قبل لسانه :
_ سيدنا محمد _ صلى الله عليه وسلم _ كان بيقول إيه للصحابي الجليل مؤذن الإسلام سيدنا بلال _رضى الله عنه_ لما كان بييجي وقت الصلاة؟
و على ذكر النبي استراح صدر "باسل" و انشرحت أساريره ، و قد حفظ الإجابة كحفظه لحروف اسمه ، فــ تراقصت الكلمات بفمه حتى خرجت إلى الوسط بينهما و صولاً لآذانهما :
_ كان عليه الصلاة والسلام بيقوله : ارحنا بها يا بلال.
كافأه "طلال" بإبتسامة قلما تظهر للعلن رافقتها كلمة واحدة تحمل فى طياتها الكثير من التقدير :
_ احسنت.
_ احسن الله إليك يا طلال.
_ اللهم آمين و إياك ، إنزل بقى نصلى ركعتين و بعدين نروح فى طريقنا متوكلين على المولى.
تقدما بخطوات متحاذية بعد أن تأكدا من إغلاق أبواب السيارة ، دخلا و على وجهيها أمارات الراحة المؤقتة و الإنشراح الجميل ، وجدا الصف الأول مزدحم بالمصلين فــ اتخذا مكانين فى الصف الثاني ، و كبرا تكبيرة الإحرام ثم قرءا دعاء الإستفتاح سراً و شرعا فى الصلاة ، كى يوفقهما الله فى سفرهما و يحفظهما بحفظه و رعايته ، مقتنصان من الدنيا بعض دقائق ينعمان فيهما بصفاء الذهن و رحابة الصدر ، تاركان همومها خارج الجامع.
....................................
لم يبقى سواه فى ساحة المدرسة، فقد دخل الجمع من الطلاب و الأساتذة إلى المبنى ليحتموا به.
صار "عرفه" يتلفت حوله جاهلاً بما يحدث، تائهًا فيما يفعل، أيذهب خلفهم أم يخرج ليساعد هذا الشيخ الذي يعطيهم درس الدين، و الذي يطرق البوابة الحديدية بزعرٍ و ينادي باستغاثةٍ كي يرأف به أحدهم.
استسلم "عرفه" للطيبة التى تسكن فؤاده البرئ ،ليقدم على فتح الباب، و ما كاد يفعل حتى اندفع الشيخ نحوه و تعداه راكضًا و عباءته الضيقة تعيقه و تعرقل خطواته، ليقول "عرفه" سائلاً بتيه و وجلٍ: ايه اللي بيحصل يا مستر؟!
صاح فيه الشيخ منبهًا بملئ حنجرته: أجري يا عَرفـــــــــة.
تلقى جانب خده هواءاً ساخنًا و استمعت أذناه صوتًا قويًا كصوت التنفس و أغلب الظن أنه صوت زفير به انفعال، و أخيراً التفت لهذه المؤثرات فتسجل عدستا عينيه ثوراً هائجًا ينفث الهواء من فتحتا أنفه الواسعتان مُحنيًا رأسه فى مستوى قرناه الطويلان القويان الحادان، فى حالة استعدادٍ و تأهبٍ لنطح أى مخلوقٍ يعترض طريقه، و ينبش التراب بحوافره القوية.
و لا يفصل بينهما سوى متران، لا حاجز و لا بوابة فقد فتحها بيده، فتح على نفسه بوابة الخطر.
لم يفكر "عرفه" مليًا مديراً جسده فى الاتجاه المضاد، ليلوذ بالفرار و هو يولول و يصرخ: يـــالاهــــــــــــوي.

رغم قسوة الحياة سأحيا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن