الفصل السابع💜.
فى شقة باسل .
تطالع عيناه هاتفه بثباتِ سطحي يخالف تمامًا حالة التخبط و التشتت الدائرة بهذا القلب الملتوى ألمًا و الذى يصارع عقلاً لا يفقه المشاعر تاركانه بين نارين ، يرد أو لا يرد ، فماذا عساه يفعل؟
أينصت لقلبٍ يتحرق شوقًا لسماع أنغامٍ صوتها ؟ أم يصغي لعقلٍ يرفض _رفضًا باتًا_ مسامحتها؟
و لكن ثمة أمر ما يمنعه عن الرد ، كبرياء مثلاً أم ربما جفاء؟
فى الحقيقة هو لا يدري و متى كان يدرى؟ .... كل ما يعلمه أنه لا يريد سماع صوتها المهتز شوقًا و عاطفة نقية ، و لا حتى يريد لتبريراتها المبتزلة_كما يراها_ أن تحل فى عقله محل التصديق.
هو الآن فى أوج حالاته غضبًا و إنفعالاً ، بالكاد يضبط مشاعره الهائجة كأمواج البحر الثائرة و يحاول بقدر الإمكان أن يقمع ثورات غضبه ، و عدم إنقطاع رنين الهاتف استفزه و أفقده ما بقى من تحكمه بأعصابه التالفة ليرميه على الرخام فتشققت شاشته و تناثرت أجزاؤها يمنة و يسرى تمامًا كتشتت ذهنه و تفتت فؤاده الجريح.
ماضيه كان ماضيًا غابراً قاسيًا باقيًا يتعلق فى روحه و يضنيه و يطبع حياته بالقتامة و الظلمة الحالكة.
نظر حوله فى أرجاء غرفته ذات الألوان المبهجة و فى نفس الوقت هادئة كهدوء كل شئ من حوله ، على عكس ضجيج روحه النازفة .
فى عزلة عن ما حوله و على وجهه أمارات التعب و الإرهاق ، فليت له من عقار شافٍ أو دواء مجدٍ يمحو من ذاكرته تلك الأحداث المشؤومة ببشاعتها.
_ حرام ... و الله العظيم حرام ... أنا ذنبي إيه عشان يحصلى كدة ، ليه أنا ليه؟
هذيان و شرود متواصلان سيطرا عليه ليزيدا من تشتته ، أخذ أنفاسه بصعوبة فائقة و كأن الهواء يعارض رغبته فى التنفس ، ثم ظل يستغفر الله على ما فاه به : استغفر الله العظيم ، استغفر الله العظيم ، يا رب سامحنى انتَ عالم بحالي.
نال من الأحزان و الأهوال ما يكفى لإضعاف عزيمته ، و مع ذلك هو يناضل يجاهد الذكريات و يصارعها بسلاحٍ اسمه الإيمان بالله و التمسك بحبله المتين.
أنزقت قدماه الحافيتان فوقع _عمداً_ آخذاً معه الكومودينو المجاور له ، فأصدر وقوعه بها صوتًا قويًا يسمع عن بعد.
اختنق حلقه بتلك الغصة المرة ، و التى رقرقت فى عينيه دموعًا حبسها قهراً ، فلا يبكى الرجال إلا إذا تم قهرهم من الأقربين.
و ما وجد له خلاصًا إلا أن يردد دعائًا كان قد حفظه بفضل أبيه.
_ يا حى يا قيوم برحمتك استغيث اصلح لي شاني كله ولا تكلني الى نفسي طرفه عين.
🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀
و فى الشقة المقابلة له كانت "سندس" تضغط كفيها ببعضهما و تفركهما قلقًا و فضولاً من صوت الضجيج المنبعث من شقة "باسل" ، و تسائلت بينها و بين نفسها قائلة :
_ أنا قلقانة قوى ، إيه الأصوات دي ؟ هيكون باسل جراله حاجة ؟
و من دون أن تتمهل أو تفكر و لو قليلاً قررت الإتصال بابن عمته لعله ينجده ، هندمت ثيابها المنزلية و رتبت خصلات شعرها القصيرة الشقراء و من ثم حازت على هاتفها الذكي ، و من بعد ذلك فتحت باب شقتها خارجة منها لتجرى إتصالاً بينما عيناها مثبتتان على باب شقته.
و بنبرة رزينة مخلوطة بقلقٍ حقيقي : ألو ، طلال باشا ، حاسة بأصوات تكسرة و خبط و رزع جاية من شقة الباشا باسل .
🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀
فى فيلا المنسي
بعد أن استحم جلس يشاهد بعض البرامج على التلفاز كنوعٍ من التسلية حتى يأتي ميعاد ذهابة للشركة فيتجهز لذلك لاحقًا .
استوقفه عن متابعته رنين الهاتف الأرضى بجانبه فتناوله مجيبًا فى صوتٍ ثقيل : ألو .... نعم يا سندس .
انتفض واقفًا و قد نهشه القلق و أطلق لسانه بمجموعة من الأسئلة المتتابعة : إيه؟ بتقولى إيه؟ و ده حصل أمتى؟
أتاه استرسالها واضحًا :
_ لسة من دقايق سمعت صوت تكسير ضعيف ، بس قولت بيتهيألي ، بس بعدين سمعت حاجة بتقع ، فأنا قلقانة ليكون حصله حاجة لا قدر الله.
سألها بشئ من عدم اقتناعٍ بقوله المنطقي :
_ بس هو بيقفل شقته على طول ، و صعب صوت يطلع منها إلا إذا كان قوى.
_ و ده اللى مخوفني ، كمان الوقت بدرى و العمارة هادية و مافيش حركة فعشان كدة سمعت.
كلّمها و هو يتحرك خارج الصالون نحو غرفته : خلاص ، ماشي ، هجيب المفاتيح و الفون و جاى على طول ، حاولى انتي تخبطي عليه ، أو رني الجرس ، أطمني عليه و ابقى طمنيني.
_ حاضر ، أنا واقفة قدام الشقة ، بس حاول متتأخرش.
_ تمام.
مع آخر كلمة وصلتها كانت قد أصبحت أمام الباب يكاد وجهها يلاصقه و قرعت الجرس و انتظرت ، و لم تحصد فائدة تذكر ، كررت فعلها مراراً و تكراراً و لكن محاولاتها أضحت هباءاً منثوراً ، إزدادت سرعة تنفسها عن الحد الطبيعي و قد بلغ خوفها حده الأقصى ، فصارت تناديه برجاءٍ قلقٍ : باسل باشا انت جوة ، طب رد عليا انت كويس؟
و لعدم حصولها على أدنى رد استخدمت راحة يدها فى دق الباب بقوة شديدة و واصلت ندائها حتى أوشك أن يكون صياحًا يكاد يوقظ النائمين من السكان.
_ يا باااااشااااا ، انت سامعنى ، لو سمحت رد علياااا.
🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀
" منزل غيث أبو النجا "
_ ولا! استنى عندك ، ناوي على أى مصيبة المرادي؟!
قبضت "إيناس" على عضد أخيها و هتفت فيه بنبرتها الأشد شبهًا بنبرةٍ شرطي ألقى القبض على مجرمٍ فارٍ من العدالة ، و قد أصبح شغلها الشاغل تتبعه أينما تحرك تحسبًا لأي ضرر قد يصيبها منه و لو حتى مجرد تفكير و لو لم يك ناويًا الأذية ، فـتوتر الأجواء بينهما مؤخراً لا يسمح لها بأن تثق فى أفعاله.
التفت "عرفه" لها إلتفاتة كاملة ، بعد أن كان مستعداً للرحيل حالما تتركه و لكنها لم تفعل ، رأته يتلفت حوله فى تربصٍ عظَّم من شكها ، و ها هو ذا ينفض يدها عنه ، و تتقافز من بؤبؤيه حمم الغيظ قائلاً بتمتمةٍ : و لا مصيبة و لا يحزنون ، واحد و رايح الدرس بتاعه ، عند جنابك اعتراض لا سمح الله؟!
محى رده بعض شكوكها و إن لم يمحها كلها ، فـ مظهره ينطق أنه ذاهب إلى أحد دروسه و حقيبة الظهر المعلقة أعلى كتفيه تؤكد ذلك .
بـبسمة مهزوزة غير منمقة هتفت "إيناس" من فورها و هذا الإحراج الذى وضعت نفسها به و بكامل إرادتها يذبذب من نبرتها :
_ و أنا همانع ليه؟ ربنا يسهلك ، طريق السلامة .
استوى قاعداً على رف ذو مستوى مقارب للأرضية ، ليربط شرائط حذائه الرياضي و الذى لاحظ انفكاكها من جديد و ليعقدها على شكل انشوطة شبابية متساوية الأطراف ، و أثناء قيامه بهذا وجه لها جملة منفعلة يعبر بها عن ما به من حنق :
_ اومال وقفتيني ليه؟ المهم تعطليني و خلاص!
بررت فعلها بقليلٍ من ثقة :
_ كنت بس مفكراك هتتفسح مع اصحابك.
رماها "عرفه" بنظرة منكرة لفكرها قائلا بغيظ :
_ اتفسح؟ بقى أنا مطحون فى المذاكرة و طالع عيني و تقوليلي اتفسح؟
ساوت "إيناس" أطوال أظافرها ببعضها قارضة كل ظفر بالتتالي ، حتى توهمه بعدم اهتمامها و كان الأمر لا يعنيها ، و استطردت بنبرة بدت باردة على نحو ما : متحبكهاش بقى ، كان سؤال وراح لحال سبيله ، مش جريمة هى!
اعتدل مهندمًا قميصه الذى انكمش جراء جلسته ، ثم اغلق زراراً كان محرراً فى كمه ، ليوصل الكم إلى رسغه و يثنيه ثنية واحدة و لم يضطر لفعل المثل مع الكم الآخر فهو بالفعل قد أتم ذلك سابقًا ، ليقول لها قوله فى تحفظٍ و لهجته رنت فى الــ"دهليز" الضيق المتواجدان فيه :
_ أنا اللى بحبكها ؟! اقولك حاجة يانوسة ، أنا سايبهالك خضرا و ماشي.
رجع للوراء بخطى متقهقرة دون التفات و ظل يبادلها التحديق و عندما بقيت خطوة واحدة تفصله عن الباب الموارب اهدته "إيناس" نبرة قد ذابت برودتها و سد مسدها العاطفة الأخوية :
_ ركز مع المستر كويس ، عشان هو معندوش مرارة زيي.
استدار "عرفة" فى الناحية المضادة ، قاطعًا تلك الخطوة و زاد من اتساع انفراج الباب عندئذ ظنها تسخر منه ، فسبقته عبارته المتهكمة :
_ بلاش دور الأخت الكبيرة ده ، مش لايق عليكي بأي شكل.
لما أساء الظن بها ؟ أكان لكلامها معنى آخر غير الذى قصدته؟ ليس لديها تفسير غير هذا ، و بما انها لم تقصد السخرية منه، فلن تجادله، و ليظن ما يظن ، و لكن لا مانع من التكلم إليه بنبرتها الشبيه بالعتاب الطفيف يغلب عليها الحنق :
_ بتتريق عليا يا عرفه؟ ماشي!
وطأ "عرفه" بقدمه خارجًا ، مفضلاً الالتحاق بالدرس على أن يتحاور معها ، فإن كان لديه الوقت الكافى لإطالة النقاش لفعل.
من أبغض الاشياء عليها أن يتجاهلها الأقربون إليها أثناء حديثها معهم ، مما يشعرها بالهزيمة و انعدام اهتمام الطرف الآخر بها ، لتسارع بإيقافه للمرة الثانية على التوالي قائلة فى صوتٍ يشوبه الفتور مغلف بتحذير جاف :
_ اعمل حسابك ان بابا جاي المغربية ، فياريت تخلص قوام ، و تشرف قبل ما يوصل.
_ هعمل كدة ، مش محتاج توصية منك يا نوسة ، و متمثليش انك خايفة عليا.
و ما ظهر لها فى جملته من فتورٍ منافس لفتورها و لكنه مدعوم بلهجة ساخرة أغضبها و أشعرها بأجيج اللهب الآكل فى ذراتها.
🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀
"فى شقة باسل."
تدفق لعقله مشاهد من ماضيه حاول طويلاً أن يدفنها فى أغوار ذاكرته لكن و للأسف أخفق فى ذلك ، لتطفو تلك المقتطفات على أفكاره و تعرقل سيرها ، و تغزل حول حواسه خيوطًا وهمية تمنعه حتى من سماع صوت "سندس" الصاخب و التى لم تكل تناديه و تستجديه ، و فرضت عليه رؤيتها من جديد.
**************(من أثنين و عشرين عاماً ، تمامًا فى محكمة الأسرة . يومئذ كان باسل قد أتم عامه السادس.
_ متأكدين من قراركم ؟
نبرة القاضى المجلجلة شقّت سكون القاعة و خلو صوفها إلا من الصف الأول المشغول بـ "باسل" و أبوه "مهند" الملتزم صمتًا موحشًا ، و أمه على الجانب الآخر الموازي لجانبهما ، لا تكاد تعدو بعينيها عنهما ، حتى وجهتمهما للقاضي .
و كان هو "باسل" بجانب والده ملاصقًا له ، ينظر بجهل للجميع و لا يفقه ما يقوله ذاك الرجل و على كلا جانبيه رجلان آخران يرتديان مثله بإختلاف أنهما صامتان بصيغة دائمة ، و تلك الشرائط على أكتافهم.
سكتت والدته و طال سكوتها ثم إزداد مداه الزمني و عيونها تكاد تخرج من محجريها لشدة تحديقها به ، كما لو كانت تريد ضمه بعينيها ، لعجزها عن ضمه بيديها لعلة يجهلها !
كل القاضى و مل من غياب الإجابة المنتظرة ، فـأعاد سؤاله مجددا قاصداً فيدرا بكلاماته و نظراته :
_ مدام فيدرا ! متأكدة من قرارك؟ و عايزة تنفصلى عن جوزك؟
و ما تطرق إليه الأمر تاليًا من بوحها بعبارةٍ بدت كنبرة طفلٍ ذو حداثة فى النطق : أ ... أي ... أيوة ، مــمـ ...متأ ... متأكدة.
ضاعفت نبرتها جهل باسل الطفل ، و أشتدت وطأته عليه ، علام وافقت والدته؟ و لما تخشب والده فى جلسته و بات أكثر من مصدوم ؟ ربما مصعوق؟!
هلا من متطوع يشرح له حقيقة ما يجري وراء ستار عينيهما ؟
_ مهند الكيلاني ! واثق من قرارك فى مسألة طلاقك من فيدرا إدوارد؟
توجيه ذات السؤال إلى "مهند" عن طريق جملةٍ حملها الهواء من بين شفتى القاضي و تحديقاته به و بإبنه بها شئ من عواطف الإشفاق ، أضرم بعينيه حريقًا مهولاً يكاد يأكل فيدرا و يحيلها رماداً تذروه الرياح ، فذرفت عينيها الدموع و رمت بوجهها بين راحتيها تجهش فى بكاء حارٍ مكتومٍ مما زادها اختناقًا ، راحت تشهق بين الثانية و أختها لتجلب لرئتيها حاجتها من الهواء فقد تكدر صفو الهواء و ما عاد يكفيها و تلوثت الأجواء.
_ يا حضرة القاضي أبدأ الإجراءات ، أنا واثق مليون فى المية من قراري و مافيش مجال للتراجع ، خلاص فات الأوان.
فجر "مهند" قنبلته الكلامية الممالثة فى تأثيرها تأثير قنبلة نووية ، دمرت كل ما بقى بداخلهما من مشاعر و عواطف جياشة فى جوفي قلبيهما ، إلا من حطام متقافز من حدقتيهما ، يصيب كلاً منهما من الآخر عتابًا توبيخًا عن طريق العيون الدامعة.
توقف الزمان للحظة ، ضاقت الأنفاس لحظات تبادلا النظرات فى تيه و شجن ، ليتهما يجدان المفر! لعلهما يعودان معًا مشبكان أصابعهما و بينهما ابنهما!
ليت و يا ليت و ياليت ! و لكنها تبقى أماني جامدة ، محض أوهام عابرة فى خاطريهما !
و "باسل" ينظر إليهما ، إلى والداه الذان يحبهما ، و يتسائل بعقل طفلٍ لم ينضج بعد : بابا ! احنا هنا ليه ؟ و ماما زعلانة و بتعيط و انت مالك؟
حصل على نظرة من والده أقصر مما كان يتوقع ، و ليته لم ينظر ! ثم تنهد و حرك رأسه للأمام .
أشار "باسل" إلى القاضي قائلاً : و الراجل ده بيقول إيه ؟ مث فاهم حاجة!
اتته إجابة "مهند" لا تغنى و لا تسمن من جوعه لفهم ما يجري :
_ مش هتفهم حاجة ، اللى عايزك تعرفه إن مافيش حاجة هترجع زي ما كانت.
🍁🍁🍁
و ها هى إجراءات الطلاق انفضت و كلاً من والداه يطالعان بعضهما بألم و حسرة بينان كشمس الظهيرة ، و ها هى والدته انتفضت و اسرعت فى خطاها نحوه ، و إذ بها تضمه بشوقٍ يوزع على سنين و سنين ، تقبله قبلات متفرقة يحركها سيل مشاعر تضرب قلبها لتصيبها برعشةٍ انتقلت من جسدها إلى جسد باسل عن طريق الحضن فسالت دموعه كزخات الأمطار ، ليغمغم بصوته المنتحب تأثراً : ما ... ماما ، مالك؟ و ماله بابا؟ انتو زعلانين ليه ؟
ثم أشار إلى القاضي بسبابته متسائلاً فى جهلٍ بليغ : و ، و الراجل ده بـ ... بيقول إيه؟
باعدت "فيدرا" بين جسديهما فى استصعاب لحاجته الملحة لقربه المداوي لفؤادها كالبلسم الشافي ، و بقبلةٍ سريعة على خده ، نطقت و كأنها تودعه بلا رجعة : خلى بالك من نفسك ، و افتكر دايمًا انى بحبك ، ماما بتحبك و هتفضل تحبك لآخر نفس.
شهقت بفعل ما تكبته بداخلها من أوجاع و اختناق و اردفت فى التياع : آه يا قلب ماما ، يا نور عيوني ، يلي علشانك اضيع زهرة شبابي ، يا نبض قلبي.
أزالت عن طرفي جفنيه الدموع ، و هسهست تزامنًا مع تثبيت جل نظراتها صوب عينيه و قد بان صوتها متهدجًا :
_ هتوحشني قوى ، يعز عليا فراقك يا حتة من روحي.
تنفست بعمقٍ ثم مررت لسانها على شفتيها فى محاولة لترطيبهما ، لتطوف على ملامحه بنظراتها تحفرها حفراً فى ذاكرتها و ترسمها رسمًا فى خيالها.
و هناك عند باب القاعة ، كان يقف رجلاً بقامة طويلة و جسد رياضي متناسق العضلات ، يتابع من بعيد و إيحاءات وجهه خليط من نقم و كره و سخرية و .. و انتشاء ، فقد فرق شمل الأسرة السعيدة كما كانت فى الماضي ، ضاقت نفسه بسبب تأخرها و تماديها فى الحديث مع ولدها ، تقدم نحو ثلاثتهم ، شاملاً إياهم بنظراته و أولهم "مهند" الذى يحترق باشتعال ذاتي و مستحث ، يرى عائلته الغالية تتفكك و لا يقدر على فعل شئ لوقف نزيف أرواحهم.
احكم الرجل قبضته حول مرفقها و أبعدها عن "باسل" جاذبًا إياها بقوة غير مراعٍ لمشاعرها الأمومية الفياضة حتى أوقفها بجانبه دون تحرريرها من قيدها الإجباري ، قائلاً فى صلابة المعدن :
_ التمثيلية دي مش هتخلص بقى؟
ضاقت نظرات "باسل" على المشهد و كأنه يراه من الخارج و ليس يعايشه بتفاصيله ، فهو كان يحب هذا الرجل مذ أول مرة جاءهم فيها ضيفًا فاكرموه ، لا لسبب معين غير أنه كان يحضر له السكاكر عند كل زيارة ، إذاً ما دخله بمجريات الأحداث؟
لم ينفك عن تمكين قبضته عليها و اتبع ناعيًا حظهم و ما آلت إليه الأمور بشأن علاقة "فيدرا" و زوجها غريمه "مهند" ، موزعًا نظراته بين خصيمه و ابنه ، نافثًا فى صفحات وجهيهما كلماته السامة كسم الأفاعي و العقارب الضارية :
_ و دي نهاية الحكاية.
أخذها مرغمة يشدها شداً عنيفًا من عضدها يكاد يخلخله من موضعه ، و رحلا عنهما و لا تزال عيناها تبحثان عن طفلها ، عن قطعة من جسدها ، عن برعم مزروع في اصيص رعايتها ، عنه هو "باسل" ولدها الحبيب.،***********
🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀🥀
"منزل فداء أبو النجا"
قصدت سفرة الطعام المرصوص عليها ما لذ و طاب من أصناف الأطعمة الشهيرة على الفطور ، مما ساهم فى تحسين مزاجها و إقبالها على والديها تلقى عليهما تحية الصباح فى نبرة مفعمة بالحيوية ، و إذ بها تتخذ مكانها و تباشر فى تناول الصحن أمامها.
_ تغريد ! إيه الأناقة اللى من وش الصبح دي؟
مقاطعة "فريال" لها تنبع من استغراب لهيئتها الأنيقة فى هذه الساعة المبكرة من الصبح علمًا بأنها انتهت من دراستها الجامعية ، فإلى أى مكان تنتوى الذهاب دون إعلامها مسبقًا ؟
طأطأت "تغريد" رأسها تكاد تلامس سطح الطاولة بادئة فى حوارها بمرحٍ تشوبه شائبة السخرية الغير مستصاغة من جانب والديها :
_ أظن إن حظر التجول اللى فرضينه عليا انتهى و لا إيه؟
غمس "فداء" فتفوتة الخبز فى صحن المربى و مضغها ليزيل المرارة التى تقتحم حلقه بعد ما قالته ابنته ، و على إثر ذلك صوغ اندهاشه على شاكلة إنكار :
_ حظر تجول؟!!
اغتنمت فرصتها فى التنفيس عن ضيقها المطبق على صدرها من احتجاز والديها لها فى البيت من إشراقة شمس أمس ، و بكل التجهم الطافى على قسماتها تشدقت بلهجة رعناء :
_ اينعم ، مهو اللى بتعملوه فيا ميتسماش غير حاجة من اتنين ، يا إما حظر تجول يا إما إقامة جبرية.
مسح "فداء" فمه من آثار الطعام العالقة به بمنديل قماشي ، و من ثم رماه على الطاولة بعصبية استثارت فى نفسها الذهول ، و استأنف منفجراّ فى وجهها بغضب ذو لمحة أبوية بحتة :
_ اللى بنعمله فيكي ؟! ، و هو لما امنعك من الخروج عشان ضيعتي صلاتك يبقى إقامة جبرية و حظر تجول؟! ، ما انتى لو تعرفى اهمية صلاة الفجر مكنتيش تقولى كدة ، و شكل العقاب مجابش معاكي نتيجة.
صراخه فيها و تعنيفه لها من باب النصح والإرشاد الأبوى فالحق كل الحق معه و الجدير بالذكر الآن هو كيفية أفراغ هذا الضيق المتفاقم فى ثنايا نفسها ، إن صمتت فسوف يتفاقم أكثر و إن تحدثت أخفقت و أساءت الأدب مع والديها ، كما صار فى التو و اللحظة .
_ اصبر يا فداء ، اما نشوف الغندورة بنتك رايحة فين و من غير إذن ؟!
إبان فروغ زوجته "فريال" من كلامها ، استعرت عيناه عقب كلمة "بنتك" ، هدر بنبرة مزعوجةٍ :
_ دلوقتي بقت بنتى لوحدي؟! نسيتي كلامك كل ما تعمل حاجة كويسة ، تقولي شايف بنتى ذكية ازاي؟ بص بنتى جميلة و زي القمر ، و أول ما ترسم لوحة حلوة تقولي بنتى موهوبة و بنتمى مواهبها زي امها ، بنتى طالعالي فى تفوقي و ذكائي و أول ما تغلط تقولي بنتك ، المفروض انها بنتنا احنا الاتنين و لا تكونى نسيتي؟!!
كشرت معالم "فريال" من حدته و فرط غضبه و توجيه التوبيخات لها عوضًا عن توجيهها لابنتهما ، فانفلت قيد غضبها لتهتاج صائحة :
_ إيه يا فداء؟ انت بتتلكك على خناقة و لا إيه؟
_ بتلكك! هو ده اللى طلع معاكي؟!!
_ اه ، بتدور على حجة عشان تزعق فــ وشي.
يقتضى عليها إيقاف هذه المشاجرة المحتدمة بالفعل ، فلا يبقى سوى أن يكيلا لبعضهما الضربات و يتبادلان اللكمات ، و هذا ليس ببعيد ، فــ شكليهما غير مبشران بالمرة ، لتمزح معهما "تغريد" قائلة بملامح أشد دهشة :
_ إيه يا جماعة ؟ ناقص نعملكم حلبة مصارعة ، قربتوا تمسكوا فى خناق بعض.
نظرا لها فى آن واحد ، هاتفين فى حدةٍ :
_ أخرسي ، مسمعش حسك!
سكتت "تغريد" مزعنة لأمرهما ذو اللهجة القوية الشديدة ، فهما فى هذه اللحظة أبوان غاضبان ساخطان عليها و على بعضهما و إن تدخلت فيما بينهما سيكون مصيرها عبارة عن عقاب قاسٍ من كليهما ، لذا ، و حفاظًا على كرامتها انسحبت من حيذهما و استقامت و هى تتوقى الحذر و أبعدت كرسيها بحركات بطيئة لئلا ينتبها ليها ، و تحركت مستديرة مع الانصات لحوارهما المشتعل.
عاد "فداء" يشحذ أسلوبه ليصير أكثر تأثيراً بقوله:
_ بصى يا ولية انتي ! انا ساكت طول السنين دي و عمال بعدي فى غلططات ، إنما تيجي و تقوليلي بتدور على حجج فده اللى مش هسكت عليه.
بالكاد تنصتت لمناجاة فريال :
_ وريني هتعمل إيه يا فداء ، هتضربني مثلاً ، مهي دي اللي ناقصة؟!!
_ فريال ، أرجوكي مش عايزين مشاكل بعد العمر ده كله.
_ قصدك انى بعمل مشاكل؟!
_ يا صبر أيوب ، يا مرة اسكتي!
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد ، هذا المثل ينطبق تمامًا على ما جرى ، فقد انتهزت "تغريد" انشغالهما بالشجار الكلامي ، لتخطو خطواتها على عجالةٍ.
لمح "فداء" كرسيها الفارغ فبحث عنها بناظريه ، لتتعجب "فريال" من سكوته المفاجئ ، أنتهت كلماته؟ أم أدرك خسارته أمامها ؟ أم ......؟
لم تكمل تساؤلاتها الداخلية لأنها نظرت حيث ينظر ثم .....
_ تغريـــد ، تعالي لجاي!
هتاف والدتها الغاضب شل تحركها ، سكنت فى موضعها ، و استدارت لهما ، و لاحظت تجهم قسمات والدتها و التى انفرجت شفاهها دليلاً على قائمة مطولة من الأسئلة فسارعت "تغريد" بالقول:
_ أولاّ أنا رايحة عند عمو غيث ، هقعد مع نوسة ، ثانيًا و ده الأهم أنا واخدة إذن من بابا ، أشوفكم لما أرجع ، باي باي.
لوحت لهما مغادرة تاركة وراءها بركانًا على وشك الإندلاع.............
.......................................................................................................
أنت تقرأ
رغم قسوة الحياة سأحيا
Mystery / Thrillerمزَّقته وحوش الحياةٍ بين أنيابها، وطوَّحته رياحها العاتية بين دروبها مُنهكًا مكسورَ القلب كعصفورٍ كُسِرَ جناحاه. تعوَّد طعم الألم والمرارةٍ حتَّى التقاها فخففت عنه وطأة آلامه، وكأنما في ظهورها شفاءٌ لجروح روحه الغائرة. أذابت الجليد المتراكم على قلب...