الفصل الثاني عشر "غياهب شرهم"

56 3 0
                                    

في الإسكندرية .
أمام فرع شركة المنسي .
وقف "طلال" يودع "راغب" و قد ترك "باسل" يتناقش فى بعض الأمور مع "إيڤا" بعدما وقع على الوثائق المهمة التي حدثته عنها و الذي راجعها ابن خاله.
و قريبًا منه كان "راغب" يتميز من الغيظ و هو معترض تماما على سفره فى هذا الوقت من الليل :
_ طلال! بالله عليك حد يسافر فى الوقت المتأخر ده؟! مش هتلحق توصل قبل نص الليل ، آجل سفرك النهاردة و روح بكرة بالطيارة.
تنهد "طلال" قائلاً يفسر له أسبابه الهامة :
_ مش هينفع يا راغب ، الڤيلا و الشركة سايبهم هناك ، و مضمنش الظل ممكن يعمل ايه و انا مش موجود ، أنا عطيت أجازة للموظفين و حطيت حراسة على الفيلا و الشركة لكن ده مش كافي طول ما جاوسيسه محاوطين كل حاجة لازم آخد حذري.
تضايق "راغب" و حدثه مقترحًا بقلق :
_ طيب خد معاك حراسة ، متمشيش لوحدك و تسوق فى الليل ده ، ممكن الظل يأذيك بأسهل طريقة و خصوصًا و إنت لوحدك.
رفض "طلال" الفكرة نهائيًا و واصل تفسيره لقراره الغير مدروس :
_ لأ ، مش هاخد أى حراسة ، انتو محتاجينهم أكتر ، و الحراس إللى جوم معايا هسيبهم لباسل عشان أكون مطمن أكتر عليه.
طالعه "راغب" و تشدق بامتعاض يمتزج به إحساس صادق بالحب :
_و إيه إللى يطمنى أنا؟! إيه إللى يضمنلي سلامتك؟! إيه إللى يبرد نار القلق و الخوف إللى جوايا عليك؟!
جادله "طلال" متمسكًا برأيه و الذى يظنه الصواب :
_متأفورش يا راغب ، إيه إللى ممكن يحصل يعني؟!
غضب "راغب" أكثر و أكثر و ثار فى وجهه حانقًا :
_ أقسم بالله يا طلال إن دماغك ناشفة أكتر من باسل ، عشان إنت دلوقتي تفكيرك غلط و قرارك هيكون سبب فى تعرضك للخطر و انت و لا هامك نفسك و لا هامك إنك ممكن تودي نفسك فى داهية!
سايره "طلال" و قد ألم برأسه صداع فتاك ، لينسحب هاتفًا :
_ طيب ، هبقى هاخد حراس معايا ، سيبني أركب العربية و أمشى!
كز "راغب" على أسنانه بسخط و غضب بالغان فهو يدرك أنه يتهرب منه بطريقة لبقة ، فرمى فى وجهه تلك الجملة الهادرة :
_ إنت حر ، كلكم أحرار ، أعملوا إللى على هواكم و انا أخبط دماغي فى الحيط!
و ضرب كفيه ببعضهما و هو يغلي من الغضب و يسير إلى داخل الشركة فقد تملكه اليأس كلية من هذا الرأى المتحجر الذى يملكه "طلال" .
بينما "طلال" زفر ضائقًا من كل شئ ، و فتح باب سيارته ملقيًا نفسه بها و ضاربًا بقبضتيه على المقود ، هو حقًا لا يريد أى حراسة معه ، لأن فى تفكيره ابن خاله أولى بكل رجل أمن ، فكيف يرتاح باله و هو بعيد عنه و بلا حراسة كافية ، أما نفسه فهى آخر أولاوياته ، ليته يهتم بها أكثر من إهتمامه بالأخرين و جعلهم فى أول القائمة ، ثم سلامته يضعها فى النهاية ، حتى أنه لا يكاد يفكر فيها و يحسب لها حسابًا .....
...............................................................
فى منزل "فداء أبو النجا"
إلتفوا جميعهم حولها كبتلات الأزهار التى تحمي ما بداخلها ، مشفقين عليه من ما حدث لها نتيجة عدم انتباهها ، جلست والدتها "فريال" عن يمينها تمسح على شعرها برفقٍ و قالت بقلب مفطور :
_ سلامتك يا ضنايا ، قلبي كان واكلني عليكي من قبل ما تروحي و معرفتش اقولك عشان مقلقكيش ، و أتعصيت جامد على أبوكي عشان سابك تمشي!
و بصوتٍ متعبِ للغاية و خافتٍ ردت "تغريد" بأنين :
_ الحمد لله يا ماما ، جات سليمة .
و عن يسارها "إيناس" المتمسكة بكفها تضمه بين كفيها بحنان و هى تقول بنبرة رفيقة :
_ ألف سلامة عليكي يا قلبي .
_ الله يسلمك يا حبيبتي.
لفظتها "تغريد" ملتفتة لها تطالعها بنظراتٍ امتنانٍ قابلتها "إيناس" بنهرين من حنان يجريان فى عشبية عينيها.
إرتاح "فداء" أخيراً شعر بالسكينة برؤياه لابنته فى خير حال ، بعد أن انهكه القلق و الزعر عليها ، ليقترب من حافة السرير ، و غمغم بلهجة صادقة محبة و فى نفس الوقت مؤنبة :
_ مش تخلي بالك يا تغريد ؟! ، قلقتينا عليكي و قلبي كان هيتخلع من الخوف ، بسبب الكلام إللى وصلني من الجيران لما قالولي إنك كنتى بتصرخي من الوجع.
رجعت "تغريد" برأسها إلى ظهر السرير ، كم كانت تتألم وقتها و تلك النخصات لازالت تضرب معدتها بين حين و آخر و لكن ألمها أخف عن سابقه ، و احتوت كل مشاعره الأبوية بنظرات عينيها المتلألأتان قائلة بأسف :
_ آسفة يا بابا ، أوعدك إنى هاخد بالي بعدين.
أقترب "عرفه" نحوها و عيونه تشع قلقًا و سألها :
_ عاملة إيه دلوقتي يا تغريد ، يا رب تكونى أحسن من الأول.
ابتسمت و هى تتنهد متعبة و تمتمت مجيبة إياه :
_ أنا أحسن الحمد لله ، متقلقش!
قرر "عرفه" مشاكستها قليلاً و هى يراقص حاجبيه :
_ و مين قالك إن قلقت عليكي ، دا أنا بس صعبان عليا الجيران و الدكتور و الممرضين إللى اتصرعوا من صراخك.
إنفلتت من "إيناس" ضحكات مستمتعة و شامتة ، بينما توهجت عيون "تغريد" بلهيب غضبها الذى أخذ يتصاعد مع كل كلمة ، حتى إذا ما انتهى عقبت عليه مغتاظة :
_ هو إنت كدة إنت و إيناس متعملوش خير و تكملوه لآخره خالص ، لازم و حتمًا تفقعوا مرارتي.
تدخلت "إيناس" و قد تجهمت قسماتها ، لتصوغ كل ضيقها فى هذه العبارة المستشاطة :
_ و مالها إيناس دلوقتي؟!ما أنا قاعدة ساكتة و فى حالى أهو ، و لا هو جر شكل و خلاص؟!
شُحِنَت "تغريد" ضدها مع تذكرها لكل المهام التى قضتها معها رغمًا عنها ، و قبل أن يتفاقم الشجار بينهما ردعهما "غيث" بهتافه :
_ إيه؟! هتتخانقوا قدامنا كدة عادي ؟! و مش عاملين أى إعتبار لا لوجودى و لا وجود فداء ؟! و لا حتى أمهاتكم القلقانين؟!
ابتلعت "إيناس" لسانها مزدردة ريقها بحرجٍ ، بينما "تغريد" نفخت أوداجها غير راضية عن ما يحدث .
قضم "عرفه" شفاهه لكى لا يضحك متشفيًا فيهما ، فهو الذى أشعل فتيل الشجار و راقب إشتعالهما به و تفجير طاقاتهما المخزونة فى وجه بعضهما.
و هو فى غمرة انتصاره غير المخطط له ، فهما اللتان تم توبيخهما بينما لم يوجه إليه حرف واحد ، لم تدم نشوته كثيرًا حيث إن "صفية" فاجأته بقولها المتسائل العفوي :
_ كنت فين يا عرفه لما بنت عمك حصلها إللى حصل دا أنت حتى مروحتش معانا المستشفى!
يا لورطته الكبرى! كيف عليه أن يتصرف الأن ليخرج من هذا المأذق المحتوم؟!
بل كيف نسيت والدته أنه كان فى درسه الخاص؟!
و كما توقع حاصره والده "غيث" بين عينيه و بين كلماته الغامضة مخاطبًا زوجته :
_ هو مكانش معاكم فى المستشفى؟!
هزت "صفية" رأسها بالنفي و هى تجيبه بحسن نية :
_ لأ ، تقريبًا مكانش فى البيت أساسًا ، عشان لو فى البيت كان سمع الدربكة و الزيطة إللى عملتها تغريد .
انتزع "عرفه" نظراته المرتبكة من نظرات والده الفاحصة و المفتشة بين عينيه عن الحقيقة ، و تلافى النظر إليه قائلاً بنبرة متلجلجة :
_ أنا ه.... هروح أج.... أجيب العلاج اللى كتبه الدكتور من الصيدلية .
جذب قائمة الأدوية من بين أصابع والدته و نظر لها نظرة كلها تأنيب ممزوج بالخوف ، فرفعت حاجبيها متعجبة ، فما الذى أخطأت فيه هى؟! ألم تقل ما حدث بالفعل؟!
و بغتة اتسعت جفونها بإدراكِ و ضربت رأسها نادمة ، و همست بصوتٍ خافت :
_ هو إنت كنت فى الدرس؟
هز "عرفه" رأسه إيجابًا ، و عيونه تحدق فى وجه أبيه بتوجس و هو يحدثها :
_ كدة بابا مش هيسيبني فى حالي غير لما يعرف ، و شكله شاكك فيا.
ثم عاتبها بنظراته و عبارته القلقة :
_ إزاي يا ماما تنسي موعد الدرس بتاعي؟ و إزاي تلفتي انتباهه إنى مكنتش فى البيت؟
عقدت "صفية" حاجبيها تؤنب نفسها على سهوتها عوضًا عن كلمات ابنها التى تفيض لها مشاعرها الأمومية السخية ، و ربتت على كتفه متأسفة منه :
_ معلش يابني ، لساني فلت و مأخدتش بالي ، متخافش هو أكيد مش هيعرف إنك كنت فى الدرس.
بدا "عرفه" غير مقتنع بما قالت ، فحدسه الذى لا يخيب يخبره أن والده أوشك على كشف سره الصغير إن لم يكن قد كشفه بالفعل ...... و وقتها سيعاقب بلا تأخير على فعلته و مداراته للأمر بل و مخالفة أوامر أبيه.
كل هذا و "إيناس" تراقبهم متوجسة خيفة على أخيها ، هو لم يخطئ ذاك الخطأ الذى يستحق عقابًا قاسيًا و إنما خطئه الوحيد أنه وقف ضد إرادة والده بل و أخفى عنه أنه يتلقى دروسًا مدفوعة الأجر.
و أما نظرات "غيث" كانت تطوى فى ثناياها غموضًا يبدو لهم جليًا ، و لكنه يعرف تمامًا ما عليه فعله .......
....................................................
طريق القاهرة _ اسكندرية الصحراوي

رغم قسوة الحياة سأحيا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن