٦- عاصفة الأحاسيس

41 12 3
                                    

《راشد》
بعد تذكر كلمات أبي، شعرت براحة كبيرة اجتاحت كياني فهذه أقدار الله التي وجدت لإختبارنا والله معنا، مما جعلني غير مهتم بسمير، تبادلت النظرات معه، كان يبدو عليه الاحباط! وأخيرًا انتزعت منه ابتسامة الجوكر التي كانت على وجهه، الآن أنا المسيطر هنا.
وبين كل هذا إذ بشيء يلمس جيبي، مما ارعبني، فإذ بطفلة صغيرة نحيلة قد تبلغ السادسة أو السابعة من عمرها التقطت شيئًا من جيبي وهربت مبتعدة! تحسست جيبي مباشرة، كلا لقد أخذت ساعة معصمي!
تلك الساعة هي تعني لي الكثير، كانت تلك الساعة ملك جدي رحمه الله، فبعد وفاته لم يبقى شيء يذكرني به إلا هذه الساعة، كم أحن إليه وإلى صوته كل صباح وهو يرفعه لاهجًا بذكر الله مسبحًا أو مستغفر متأملًا بكل كلمة يقولها...
فوقفت مكاني وخرجت من المجلس لألحق بها...

صعدت ألاحقها على الدرج ثم لمحتها تتسلل دخولًا لغرفة مظلمة مليئة بمختلف الأثاث، والصناديق وأدوات تخص طفل رضيع، وبها نافذة زجاجية تُظهر من خلالها سماء الليل المرصعة بالنجوم.
حاولت المرور بحثًا عن تلك المشاغبة وسط كل تلك
الفوضى، وبدأت أناديها بلطف لتأتي لكنها عنيدة فلم تُظهر أي تجاوب على ندائي لها، غير أنني أعرف أن البحث عنها هنا يبدو كالبحث عن إبرة في كومة قش.
أين ذهبت؟ رفعت رأسي لأرى السماء من النافذة، فتنهدت وقلت: لا أصدق ذلك، كيف لم يأتي أي أثر على الصباح حتى الآن، أعتقد أن الفجر اقترب وقته على الأقل...

ولكن صوتًا صدر من أحد الصناديق بقرب الباب قطع أفكاري، قفزت راكضًا وأمسكت بها أخيرًا، وكانت هي تأن غاضبة من امساكي لها، قلت لها:
-اذا تريدين الهرب من الباب! هيا أين ساعتي؟
كشرت في وجهي وعضت يدي، مما جعلني أتركها تفر، هربت مختبئة داخل صندوق بجانب سرير الرضيع، أتعتقد أنني لن ألحق بها؟
يال عضدتها، هذا ما ينقصني جرح إضافي! لماذا اتعرض بالعض في يدي دائمًا الأرنب...

ذهبت للصندوق الذي تختبئ فيه تلك المشاكسة وقلبته لأخرجها وأخرج ما فيه معها، خرجت الطفلة وهي متمسكة بكمية من الخردة ولُعبٍ محطمة وبينها كانت ساعتي مفككة لأجزاء! صرخت غاضبًا وبدأت أنتزع القطع منها واحدة تلو الأخرى بينما هي انفجرت بالبكاء، اخيرًا جمعت ما يمكن انقاذه من الساعة حاولت تثبيت الأجزاء داخلها بعشوائية، ليس أملًا في اصلاحها، بل حتى أحافظ على القطع حتى أعطيها لمن يصلحها حينما أخرج من هذا الوادي الكئيب.
التفت الى الطفلة التي كانت تعاند وتبكي مما جعلني ارتبك، فهي في النهاية طفلة، كم أنا سيء في التعامل مع الأطفال.

و من أمام الباب ظهر سمير وحيدًا وهو يقول بأسلوبه المثالي الزائف:
-ما الذي فعلته بابنتي الصغيرة، لماذا جعلتها تبكي هكذا.
قلت بانزعاج:
- ابنتك هذه دمرت ساعتي..
رد بوداعة:
- انها مجرد طفلة في العاشرة، ولم تفعل هذا إلا بسبب فضولها نحو ساعتك.
نظرت للطفلة وانا مصدوم فعمرها في العاشرة، لا أصدق، انا متأكد أن حجمها وكأنها طفل في السادسة هل هذا بسبب سوء في تغذيتها!!
ثم قال بهدوء مصطنع: عليك أن لا تُضخم الموضوع هكذا.
أعدت نظري لسمير وقلت له بازدراء:
- وما دخلي انا بفضولها، كيف تسمح لطفلتك بتدمير أغراض الآخرين بدعوى الفضول؟ عليك أن تعتني بطفلتك أكثر، ثم قلت هامسًا: وبغذائها...

لم أكن أستطيع رؤية ملامح وجهه بسبب الظلام في الغرفة، ولكنني متأكد أنها ستنال إعجابي.
تقدم أمامي ثم امسك كتفي قائلًا: يبدو أنك متعب وتريد أن تستريح، هيا سأوصلك لغرفة النوم المخصصة للضيوف، ثم نظر الى الجرح الذي سببته عضة ابنته في يدي وأكمل: وعلينا جلب بعض الأدوية أعتقد أنك تحتاج لها.
ثم نادى إيما، فظهرت من أمام الباب بابتسامتها المعتادة مع نزيف حاد في عينها، متى أُصيبت كانت بخير قبل ٥ دقائق!
قال شيء لها وهو يشير للطفلة، وأثناء ذلك سقطت عيني داخل سرير الرضيع! لم تطل كثيرًا حتى سحبني سمير خارج الغرفة، ليرشدني الى غرفتي.
ما كان الذي داخل السرير، كان ذلك أشبه بجثة طفل قد تيبس وظهرت عظامه... هل مات جوعًا؟

**************
صمت وهدوء داخل تلك الغرفة الخالية إلا من سرير مغطى بلحاف رقيق يقبع بأحد زواياها، ومصباح كهربائي ذابل ينزل من السقف ليضيء المكان.
دخل راشد لتلك الغرفة وهو يحمل صندوقًا به بعض الضمادات، أنزل الصندوق فوق سريره وبدأ يراقب تلك الغرفة التي لا تمتلك سوى باب دون أي نوافذ.
لماذا يشعر في هذه الغرفة بشعور...هو لا يستطيع وصفه ولكنه يعلم أنه شعور سيء... سيء للغاية.

ربما ذلك الشعور يكون بسبب ما مر به من أحداث مقلقة على طول الوادي، أو ربما بسبب قذارة هذه الغرفة المتشققة الجدران والمليئة بالعناكب والغبار،
فتح صندوق الأدوية وبدأ يقلب فيها وبدأ بساقه، فبعد سقوطه من الوادي جرح هناك وأصيب بكدمة هنا وأثناء انتهائه من لف كل ما يلزم اللف، بقي أنفه المكسور، يخشى أن يداويه بشكل خاطئ فيفقد بذلك حاسة الشم للأبد، وغير ذلك، عدم وجود شيء مناسب لعلاج الكسور في الحقيبة.

الهدوء عم فبدأت معدته بالتحرك، يحتاج لمرحاض الآن، فتح باب غرفته فرآى إيما وقد لفت عينها المصابة عند الممر الذي أمام غرفته، حاول التواصل معها ليسألها عن الحمّام، ولكنه فشل بجدارة فأتى سمير ليحل تلك المعضلة، انطلق راشد الى المكان الذي أرشده إليه سمير دون تفكير، وبعد ان لبّ نداء الطبيعة وبدأ يغسل يديه تذكر أن الغرفة التي يقبع فيها في العلية، وأن الممر الذي أمامها لا يؤدي إلا لها! لماذا إيما كانت هناك؟

أفكار عديدة وأحاسيس مريبة توتر بدأ يعمه، نظر إلى صورته فيما بقي من المرآة التي من المفترض أن تعلق فوق المغسلة والتي تطل على فتحة التهوية الموجودة أعلى المرحاض، لاحظ لمعان شيء داخلها، التفت يراقب مرعوبًا، أخذ شهيقًا عميقًا، ربما هو متعب فالليل في آخره..نعم هو متعب ولكن لا يشعر بأدنى نعاس، غير أنه متأكد أن الفجر قريب وهو لا يريد تفويت صلاة الفجر خاصة مع عدم وجود منبه، فقرر أن يتوضأ ويصلي الوتر، حتى تهدأ أعصابه، ويطلب العون من القدير.
وأثناء وضوئه سمع صوتًا أمام الباب، وما ان التفت وفتح الباب، كان الممر الذي أمامه فارغًا، توجه لغرفته صاعدًا لها...

فتح الباب، فشعر بلمعات تخرج من شقوق الجدران، كذب بصره، واقترب من سريره أخذ اللحاف وطواه ثم فرشه كسجاده وكبّر مصليًا، ما ان وضع رأسه ساجدًا حتى دعا الله أن يثبت عقله ودينه.
ما إن إنتها من صلاته، حتى صفا عقله وتنظمت مشاعره فبدأت تكتب في الوجدان تقول ما تريده صراحة دون تكذيب لبصره أو سمعه....
هو مراقب!

وادي الفضولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن