١٠- الرفيق الجديد

47 9 7
                                    

متمدد على السرير ورأسه ملفوف كان هذا هو حال المريض الجديد الذي يبلغ منتصف العمر وبدأ يغزوا شعرَ رأسه ولحيته القصيرة بضع شعرات بيضاء، لم يتحرك المريض أبدًا كان أشبه بجثة ميتة، نظر راشد نحوه متفحصًا فهذ هو رفيق سكنه الجديد.

جاءت الممرضة خمسة تدفع عربتها لتعطيه طبقه اليوم، لف راشد الطاولة الخاصة به بنفسه، فشهيته للطعام كبيرة، خاصة أن الطعام هو الشيء الأفضل هنا... حملت خمسة الطبق ووضعته له بعدم مبالاة، فكاد أن يُسكب الحساء الساخن عليه، ولكنه تدارك الأمر وأمسكه بعد أن وصلته بضع قطرات من الحساء لم يكنّ كافيات ليصبنه بحروق ، وهو بالطبع لا يحتاج أن يصاب بحروق أيضًا!
نظر راشد نحوها بغضب من إهمالها، ولكن خمسة كانت بالفعل تُحدق به بنظرات حادة تحوي بداخلها حقدًا دفينًا! هل كانت تقصد اسقاط الحساء عليه؟
قال لها راشد بانزعاج:
-ماذا فعلتي؟ كدتي تحرقينيني!
ردت عليه بصمتها واكتفت بالبقاء بجانب عربتها بسكون، وبالصمت ذاته تناول راشد وجبته، فأخذت الممرضة الإناء وغادرت.
وبعد ٣ ساعات جاء الطبيب وبجانبه الممرضة خمسة، لفحص الضمادات وتجديدها، فبدأ الطبيب عمله بحرفية ودقة عالية أدهشت راشد بينما بقيت الممرضة تراقب المريض الجديد وبيدها لوح عليه ورقة تدون عليه، وبصمت دخلا وبالصمت نفسه غادرا، وبعد أن غادرا بدأت أصوات تأوهات تخرج من المريض ثم... فتح عينيه.
*************

《راشد》
وأخيرًا بدأت الحياة تدب في تلك الجثة الهامدة، فبعد أن خرجَت منه كل تلك التأوهات، جلس بتثاقل وقد وضع يديه على رأسه بألم، وما ان نظر أمامه حتى ظهرت منه تنهيدة عنيفة وقال بحنق:
-كم أكره هذا، لقد امسكوا بي مرة أخرى... ويبدو أنهم هذه المرة لم يكتفوا بامساكي، بل...
ثم تشبث بشدة بالضمادات التي تلف رأسه وكأنه يحاول نزعها، لم يبدوا أنه انتبه لوجودي، فقلت له ملاطفًا:
-الحمدلله على سلامتك.
التفت الرجل ناحيتي منتبهًا، وقال متعجبًا:
-أوه أنت جديد علي، هذا يعني... لقد نقلوني لغرفة أخرى! لا بأس بالتغيير أحيانًا.
ثم وقف فجأة واقترب من سريري متفحصًا قدماي الممددتان على السرير، وقال لي بسخرية ظاهرة:
-أوه، man، ما الذي فعلته لتتحطم كلتا قدميك هكذا، ليس فقط قدماك، بل رأسك أيضًا...
ثم أكمل ضاحكًا:
- انك تشبه ممياء...

كان من الواضح سخريته مني، فلم يُعجبيني ذلك أبدًا، ويبدو أنه لاحظ انزعاجي من خفة دمه فتنحنح ثم عاد يتكلم محاولًا تغيير الموضوع
-حسنًا حسنًا ما اسمك يا فتى؟
أجبته بهدوء:
-راشد، وأنت ما اسمك؟
ما ان طُرح السؤال عليه حتى ازاح نظره للسقف بهدوء وبخيبة أمل ثم التفت ليجلس على سريره وقال محبطًا وهو يستند على إحدى يديه بالسرير:
-اسمي! هم... سمني العم مو.
حسنًا لا يبدو ذلك كاسم لكن... أنا حقًّا لا أريد أن أكون فضوليًا، قطع الصمت أنين معتاد قادم من طرف الغرفة الأخرى، قال العم مو متفاجئًا:
-ما ذلك الصوت؟!
أخبرته عن المريضة التي تقع في طرف الغرفة،
فنظر العم مو الى طرف الغرفة وقال:
-حسنًا كلما زادت الصحبة أصبح أفضل، مريضة أرجو أن تكون جميلة.
نظرت له باستحقار على تفكيره ذاك، ولكني مع ذلك كنت متحمسًا لأرى صدمته، فعلى حد علمي أنها امرأة كبيرة طاعنة في السن.
ذهب العم مو ثم عاد ووجهه قد اسود، وقال بصدمة:
-هذا جنون، ما الذي فعلوه بها...
كنت محتارًا حقًّا من ردة فعله تلك لدرجة انزلاق السؤال مني فقلت له:
-ما الذي فعلوه؟
رآني العم مو متشككًا، وقال بريبة:
-ألم ترها من قبل، كيف؟
أجبته:
-وكيف أراها؟
ردّ علي مجيبًا:
-أنت وتلك العجوز في نفس الغرفة، كيف لم ترها...
أشرت له ناحية قدماي وأعدت عليه السؤال ذاته "كيف؟"، ولوهلة استعاد العم مو نفسه من الصدمة وانفجر ضاحكًا.

واستمر يضحك لخمس دقائق تقريبًا، وما ان التقط نفسه أخيرًا من الضحك، انقلب وجهه فجأة الى وجه جاد، وقد ذهب يجلس على سريره وشبك يديه ببعض، قال وهو ينظر للأرض:
-إذًا أنت لم ترها أبدًا! حسنًا لقد كانت بشرتها purple أعني أرجوني، أما شعرها كان كله يتساقط إلا شعرات بيضاء تمسك وجهها.
رددت عليه متحيرًا:
-شعر يمسك وجهها؟، أتعني رأسها!
رفع رأسه ناحيتي ثم نطق قائلًا:
-آه نعم رأسها... وأنت ما بك تركز هكذا على كل كلمة أقولها...
ثم عاد ينظر للأرض وقد أمسك ذقنه وأكمل يقول:
- آ anyway، كان شكلها يثير الشفقة خاصةً مع كل تلك الأنابيب المتصلة بها، وعندما فتحت عينيها ورأتني... لقد بدأت تبكي بصمت وعينيها تذرف الدموع، وبدأت تقول كلمات... على ما أعتقد انها بالإسبانية، نعم أنا متأكد من ذلك.
قلت له مقاطعًا تفكيره:
-لماذا تعتقد أنهم آذوها، ربما هم وضعوها هناك ليعالجوها فقط.

نظر لي العم مو وكأنه ينظر لنكرة، ثم تنهد بعمق وبدأ يهز قدمه التي تطق الأرض جيئة وذهابًا وقال لي وهو بكامل جديته:
-نعم هم كذلك يعالجون من يرغبون به، لكن ماذا بعدها؟ سأخبرك بهذا... أنا هنا منذ خمس سنين ومع أنهم عالجوني إلا أنهم لم يخرجونني أبدًا ولا أعتقد أنهم سيفعلون... لكن لماذا؟ لماذا يعالجوننا أصلًا... وماذا بعدها؟
-خمس سنوات! ان هذه مدة كبيرة... هل حاولت الهرب؟
-نعم لقد حاولت وآخر مرة...
أمسك رأسه وأكمل:
-كان قبل أن آتي إلى هنا، لقد ضُربت على رأسي ضربًا مبرحًا، ثم جررت لهذا المكان!
ثم ضرب سريره بعنف وقال:
-آه لو أستطيع امساك أحدهم لأخرج منه كل الإجابات التي تُحيرني...
ثم عاد يفكر بصوتٍ مرتفع وهو يقول:
أولئك الأطباء المجانين مرعبون جدًّا... أما الممرضون، فيا ليتهم يستطيعون الكلام...
قاطعته قائلًا:
-هم يستطيعون الكلام!
نظر لي وقال وهو ينظر لي وكأنه ينظر لطفل صغير أمامه:
-هم،yea. الأطباء يستطيعون أعلم ذلك، أنا أتكلم عن الممرضين أعني المساعدين...تفهم صحيح؟
نظرت له بعدم مبالاة وقلت له مؤكدًا ما أقول.
-أعرف أنا أعني هم يستطيعون، أولئك أصحاب كمامة الزهرة الذابلة.
وقف العم مو واقترب ممسكًا كتفاي وهو يهزني مع كل كلمة ينطق بها:
-أنت تمزح، عشت هنا ٥ سنوات ولم أسمعهم يتكلمون من قبل!
قلت له بعد أن دفعته قليلًا ليترك كتفاي وشأنهما:
-حسنًا، لقد تحدثوا وأنا سمعتهم بنفسي، فإن لم تُصدقني فهذا شأنك.

بدأ العم مو يهمهم ويحك لحيته، ثم قال لي:
-كلا، أنا لا أستطيع تصديقك، كيف لم أسمعهم أبدًا! كلا كلا هذا مستحيل، أنت مجرد كذاب.
هززت كتفاي بعدم اهتمام، فحقًّا لست مهتم بذلك، غير أن له وجهة نظر فكيف سيصدق شخصًا قابله أول مرة.

اسند العم مو رأسه على السرير وبقى ساكنًا، وبعد أن رأيت ضوء الشمس قد وصل للسرير علمت أنه وقت الصلاة الظهر -هذه كانت طريقتي وساعتي الحالية وأدعو الله أن يكون ما أفعله صحيحًا- نظرت للعم مو لم أكن أحمل أي أمل له ولكن النصح واجب، نظرت له وقلت:
- انه وقت صلاة الظهر، إن كنت...
وتمت مقاطعتي من قبله قبل أن أكمل كلامي، وقال لي وهو يحدق فيني:
-تصلي... أما زال أحد يصلي حتى الآن؟!

وادي الفضولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن