**من أين بدأ هذا الألم وهذا الحزن الذي صار مثل الفيض يملأني ويقودني نحو يأسي الكبير**لم تدري "طيبة" إلا وهي في بيت "غنية" أختها من أبيها. كانت تعرف "غنية " جيدا فقد زارتها "طيبة" قبل أن تتزوج مرات عديدة من وراء والدتها "السُرة" فهي من اجبرت زوجها "عجبين" من طلاق زوجته الأولى للقبول به و منعها من رؤية ابنته "غنية" بعدها.
فكانت "طيبة" تزور أختها من أبيها كلما سافرت الى الخرطوم وتنقل لها سلام أبيها وأخباره و تعود محملة بالهدايا لأبيها من ابنته الكبرى "غنية"، دون أن تعرف والدتها "السُرة".استقبلتها "غنية" و دموع "طيبة" في خدها و الإنكسار في هيئتها.
عندما رأت "غنية" الاطفال عرفت أن شيئا سيئا حدث . إنها تعلم أن "طيبة" في بلاد الغربة كيف انتهى بها المطاف في بيت اختها المنبوذة.مرت أيام عديدة على "طيبة" وهي عازمة أن لا تكرر ما حدث مرة أخرى، فأطفالها لن يتحملوا معاناة أخرى. قررت أن تستأجر بيتا و تبحث عن عملا يكفّي احتياجات صغارها و لا تضطر أن تبقى تحت رحمة أحد. فهي لم يبقي لها سند أو أي حد تحتمي به حتى اخاها "الماحي"
لم يستطع إقناع امها قبل أن تغادر البيت الكبير.
باعت آخر ما تبقي لها من ذهب و استأجرت بيتا صغيرا بالقرب من أختها "غنية" فهي الوحيدة التي أحسنت معاملتها، و اشترت ماكينة خياطة لتعمل عليها.ومرت الأيام و "طيبة" ترسل الخطابات لزوجها "عبد الله" تتطالب فيها بأن يرسل لها ورقتها و أن لا يدعها معلقة هكذا. ولكن لا حياة لمن تنادي، لم يرسل"عبد الله" أي جواب ولا أية أخبار.
دخل حمزة سنته الأولى في المدرسة وبعدها بسنة التحق "حسين" و أخيرا بطلتنا "ذات" ،
كانت "طيبة" تذهب صباحا لتوصيل أبناءها الى المدرسة و تجلس أمام الباب لتبيع بعض السندوتشات و الحلوى حتى ينتهي الدوام ليعودوا كلهم الى البيت.
لتتابع بعدها عملها في الخياطة من العصر الى العشاء.فيا أمي أنت ربيع الحياة** و لون الزهور و نبع يسيل
و ذكراك عطر و حضنك دافئ**فيحفظك ربي العليل الجليل
و دومي لنا بلسما شافيا**و بهجة عمري و حلمي الطويلتوالت السنوات على هذه الوتيرة، أصبحت علاقه "طيبة"ب"غنية" أقوى و أحنّ أكثر من ذي قبل. حتى أن أخاها "الماحي" جاء من قريتهم ليسكن معها بحجة أنها امرأة لا يمكن أن تعيش وحيدة. و لكن تبدلت حال "الماحي" وتغير كثيرا أصبح لا يعمل و يمضي يومه كله في البيت ، وتغيرت أخلاقه للأسوأ كأن من تركته في بيتهم الكبير لم يكن هو، صار يصرخ و يضرب "حمزة" و "حسين" ولا يطيق "منى" الصغيرة ذات الثلاتة سنوات ولكنه لم يوجه غضبه لـ"ذات" يوما.
حتى أن امها " السُرة" قد زارتها بعد سنتين من خروج "طيبة" من بيتها مذلولة.. ولكن "طيبة" لم تلُمها ولم تفتح معاها أي نقاش و لم تعاتبها، و استقبلتها أحسن استقبال و أكرمتها كأن شيئا لم يكن. مع أن"السُرة" كان ظاهراً في عينيها الندم بما فعلته ببنتها ولكنها لم تعتذر، لم تحنّ على وضعها ولم تطبطب عليها، على العكس كانت تتسائل دوما عن مجيء "عبد الله" وإنه رجل غير مسؤول و جعلت تنعته بأقذر الصفات.
وعرفت "طيبة" من "غنية" أن "نفيسة" حماتها قد زارتها وأخبرتها أن "عبد الله قد تزوج من مطلقة في ليبيا وهي من منعته أن يرجع الى السودان لأولاده وأنها حاولت معه أن يتواصل مع "طيبة" ولكنه دائما ما يرفض، وأن زوجته هي من تتحكم به.
احترقت "طيبة" غضبا أو ربما تعباً وألماً على ما تواجهه وحدها و "عبد الله" هناك يعيش حياته .
لكنها لم تكترث بعد كل ما حدث لها من مصائب فهو سبب ذلك. لو أنه كان يستمع لها لما وصلت لهذا الوضع.و فجأة أعادت شريط ذكرياتها معه كيف أهانها و ضربها و هي في الغربة وحيدة لا تستطيع أن تشتكي لأهلها أو تذهب لأحد لحمايتها. تذكرت عصبيته و معاملته القاسية و أنه لا يريد هؤلاء الأطفال وليس مسؤولا عنهم. حتى في أيامها الأخيرة صبرت عليه عندما توقف عن عمله لا تدري لماذا. و أصبح يأخذ ذهبها ولا تدري أيضا أين يذهب به. حتى قررت الإنفصال والرجوع الي بلدها ببقية كرامتها المهدرة. ولكنه لم يلتفت لها و لم ينفذ لها طلبها الاخير بالإنفصال، و تركها تغادر بحمل ثقيل عليها وليس لديها أي فكرة عن ما ستواجهه فيما بعد.
قالت لنفسها إنها ستظل قوية لأجل أبناءها وسيحصلون على أحسن حياة يمكنها أن تقدمها لهم و سترفع بهم رأسها أمام كل من أهانها و حطمها وكسرها.. فهم الأمل الوحيد لها ولأجلهم تعيش.
ليست حياة المرء في الدنيا سوى * حلم يجر وراءه أحلاما
والعيش في الدنيا جهاد دائـم * ظبي يصارع في الوغى ضرغاما
تلك الشريعة في الحياة فلا ترى * إلا نزاعا دائما وصداما
أنت تقرأ
ذات
Nouvellesتحيّ.. تعيشي.. لا مقهورة .. لا منهورة.. و لا خاطر جناك مكسور.. بل مستورة.. يا ذات الضرا المستور.. سلاماً تلك كانت قصة "ذات" .. يا ترى كم من فتاة تشبه "ذات"، كم من فتاة سلكت طريقها و تاهت في ظلام وجعها السري،