الأطلال

149 9 1
                                    


اضطررنا بسبب القفر في نهاية الأمر إلى الرحيل نحو الشام.. كنت قد أقنعت أمي لأسابيع بالبقاء في مضاربنا، ولكن طائفةً من مواشينا كانت قد نفقت، واقتربنا نحن أيضًا من الإصابة بالعطش.
كنت آمل أن أقابل "الجليلة" مرةً أخرى.. وقفتُ على أطلالها هناك يوميًا.. بدأت أقرض الشعر في تلك الفترة.. خرجتُ يوميًا على ظهر "السابحة".. أقطع الفيافي والهضاب صادحًا بأشعاري علها تصل إلى مسامع "الجليلة".
قالت أمي: عمك يعيش في البادية يا بني.. ولا يستطيع البقاء دون الماء، ولن تعيش رواحله دون العشب، فمن الطبيعي إذن أن يرتحل عمك كلما نفد الكلأ، وشحت المياه.
عدنا إلى وسط الجزيرة في العام الذي يليه، وكررت كل ما فعلته في العام الذي سبقه؛ بحثت عن "الجليلة" في كل مكانٍ أستطيع الوصول إليه.. ولكن ذهبت كل جهودي أدراج الرياح.
عندما وصلت إلى السادسة عشرة من عمري أهدتني الوالدة جاريتَي الأوليتين: "شمس" و"مزون".. كانت "شمس" من بلاد فارس.. أما "مزون"، فكانت من ديار العرب.
لم تتمكن أي من الجاريتين، ولا حتى من أهداهن لي والدي لاحقًا من إلهائي عن التفكير في "الجليلة".. كان الشوق إليها يتّقد في صدري ساعات النهار، والليل. اشتهرتُ بالجواء حينها بـ"المهلهل"؛ لأنني كنت أصدح بأشعاري هناك تحت صخرة الجواء.
أصبح يتحلق حولي المحتمون من أشعة الشمس  بالصخرة الضخمة ذات الظلال الوارفة.
بعد عامين حظيتُ بابنتي الأولى من إحدى الجواري، ولكنني وأدتها فورًا.. لم يحتمل عقلي أن تلحق بمصير والدتها "مزون"، خشيت على نفسي من الرزوخ تحت وطأة العار إذا ما أغارت علينا إحدى القبائل، وسبَت نساءنا.. أعلم أن عقلي لم يكن في مكانه حين وأدتها؛ فقد أخذت "الجليلة" عقلي معها برحيلها، وأتت الخمر على البقية الباقية من حسي وإدراكي.
مضت بعد ذلك أيامي خاوية ردحًا من الزمن.. كنت كذلك حتى التقيت "مؤتمن".

مذكرات الزير سالمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن