لا أدري لماذا قادتني راحلتي ذلك اليوم إلى أسوار الكرك.. كنت أتخبط، وراحلتي على امتداد هذه الرمال الشاسعة، فتذكرت المقولة التي لطالما رددها العرب: إذا جفاك المنام، فعليك بـ"أم الحمام".
والباحث عن "أم الحمام" لن يشق عليه الوصول إلى مأواها؛ فبرج الحمام الذي تقطنه يظهر للسائرين من على بعد فراسخ عدة.. منتصبًا بمفرده على امتداد البصر.. حتى إذا دنا الناظر من باحته ستلوح له دور القرية الصغيرة مقارنةً بضخامة برج "أم الحمام".
واصلتُ المسير مع راحلتي حتى هبطتُ أسفل جذعٍ زيتونةٍ عقلتُ راحلتي على ساقها.
كانت الشمس تتموضع في كبد السماء، ولكن البرج بدا معتمًا من الداخل.. باستثناء كواتٍ صغيرة ينفذ منها بصيصٌ من الضوء، ظلت عيناي مبهورتين بضوء الشمس في الخارج، فلم أر شيئًا مما يدور أمام ناظريّ.. حتى إذا تبددتِ الظلمة شيئًا، فشيئًا رأيت بضعة جارياتٍ يهففن الهواء على سيدةٍ تتربع على الأرض.. كانت النار مشتعلةً أمام السيدة التي يبدو أنها هي "أم الحمام".
صرختِ السيدة بغتةً، وهي تحرق شيئًا ما في شعلة اللهب المستعر أمامها: يا ويح قلبي على "التبعية"! يا ويل قلبك يا "تبعية"!
فزعتُ، وفزعتْ معي أسراب الحمام التي فرت من مواقعها، ثم عادت بعد أن هدأ وجيفها قليلًا.
- عمتِ مساءً يا أخت العرب. قلت بصوتٍ خفيضٍ؛ خشية إزعاج حمامات "أم الحمام".
- يا مرحبًا بابن "التبعية". ردت دون أن تنظر إلى ناحيتي.. بدا لي أنها تكلم ألسنة اللهب المتطايرة حولها.. لم أتعجب كثيرًا؛ فقد سمعتُ الكثير قبل ذلك عن إمكانات "أم الحمام"، وقدراتها الخارقة، ومآثرها العظيمة.
خلعتُ نعليّ، وتقدمت إليها حتى إذا جلستُ في الجهة المواجهة للهب النيران، بادرتني سائلة: ما اسمك؟
- أنا "الزير سالم".
- وهل أسمتك أمك زيرًا يا "أبا ليلى"؟
- اسمي "عدي".. "عديٌ" ابن "التبعية" يا "أم الحمام".
عادت لصرختها الأولى: يا ويح قلبي على "التبعية"!.. يا ويل قلبك يا "تبعية"!.ثم أردفتْ مستنكرة:
- وهل اسم والدتك "تبعية"؟
- بل هي "صبر التبعية"
فعادت لسيرتها الأولى في الولولة، والصياح ما أن سمعت كلمة "تبعية"، ثم أحرقتْ غصنًا يابسًا حتى عبق المكان برائحة الغصن المحترق.. أغمضت عينيها، ثم قالت: سوف تأتي "التبعية" الأولى على جميع أبناء "التبعية" الثانية، وعلى زوجها، وكافة أحفادها، وستشتعل نيران الحقد، والانتقام بين أبناء الدم الواحد لسنواتٍ، أو ربما لعقودٍ مثل هذه النار المستعرة أمامي.
تجرأتُ قليلًا لأسألها: من هي "التبعية" الثانية؟
- "صبر".
- أمي؟
فعادت تنوح مرةً أخرى على "التبعية"، ولم تمهلني لأسألها عن "التبعية" الأولى.. في حقيقة الأمر لم تعد الحروب شيئًا ذا بالٍ بالنسبة لي؛ فلم تخض القبائل العربية حربًا حقيقيةً منذ مولدي.. كما أن اتفاق السلام الذي عززه والدي بمصاهراته السياسية مع التبابعة، وغيرهم من القبائل سيجعلنا نعيش دهورًا أخرى من السلام، والاطمئنان.
- ولكنني لم آت من أجل والدتي يا "أم الحمام". تجنبتُ ذكر اسم "التبعية" عن قصد هذه المرة.
- لا شيء يخفى على "أم الحمام": إنها الآمال العِظام.. تتبعها الخيبات الجِسام.
- وما هي هذه الآمال؟
- المُلك، والجلوس على العرش.
- أنا لم أهتم يومًا بالعرش يا "أم الحمام"، انظري.. ماذا ترين لي في "الجليلة"؟
ضحكتْ "أم الحمام" ضحكةً مجلجلةً أفزعتْ بها بعض حماماتها، ثم قالت: "الجليلة" خلف العرش يا ابن "التبعية".
- وهل ستجلس "الجليلة" على ذلك العرش يا "أم الحمام"؟
- نعم.
لم أجد شاغلًا يشغلني عن التفكير، وأنا قافلٌ، و"الدامعة" إلى باديتنا في كنه الملك الذي ستجلس "الجليلة" إلى جواره على ذلك العرش.. هذا بالطبع إذا ما صدقت نبوءات "أم الحمام".
أنت تقرأ
مذكرات الزير سالم
Teen Fictionأنتم تعرفون وجهًا واحدًا للأحداث، ولكن مازال هناك الكثير مما يمكن أن يقال.(رواية خيالية من التاريخ لليافعين)