لم تخض العرب حربًا كبرى منذ اتفاقنا الأخير مع التبابعة، والذي توقفت بموجبه الهجمات، والغارات على مختلف القبائل المتناحرة. وعادةً ما يقل توجه العرب لوأد بناتهم إذا شعر الآباء بالأمان إبان فترات السلم، ولكن، ولأن لدي ماضٍ مخزٍ في وأد بناتي الأربع الأوليات؛ فقد اصطحبتْ "آمنة" ابنتَيّ "الجليلة"، و"الجميلة" إلى دار والدها في الصمّان؛ خشيةً عليهما من عبثي، وإهمالي محتميةً بـ"أوسٍ"، و"غسان" أبناء "الحارث التغلبي"، وبقيتْ في كنفهما.. ظلت "آمنة" ردحًا من الزمن تسيّر القوافل؛ لتزور "صبر" والدتي، كما تأخذ الفتاتين إلى الملك؛ لتتعرفا على جدهما.. دون أن يكون لي نصيبٌ من تلك الزيارات.. كنت قد أقسمتُ لـ"آمنة" بأنني لن أئد أيًا من بناتي حتى ألاقي وجه الرب، ولكنها مع ذلك لم تصدقني.. فهاهي "ليلى" بعد أن غدت يافعةً في مقتبل عمرها، وقد أصبحت قطعةً من فؤادي.. لم أفكر ، ولو للحظةٍ في أن أئدها، أو أن أمسها بأي سوء. كان رد "آمنة" بأننا في حال سلم، وأنني بمجرد نشوب الحرب، فإنني سأجهز عليها، وعلى شقيقاتها في آنٍ معًا.
قتلني الوجد على ابنتَيّ التين لم ترهما عيناي قط، وأخذني شوقي إليهما عبر الصحاري، والقفار صادحًا بأشعاري.. ألقي قصائدي على مسامع البشر، والرمال، والوحوش، والدواب.
لحق بي "مؤتمن" يومًا، وأنا أهيم على وجهي في البيداء دون هدفٍ، أو قرار.. كنت قد تخلفتُ كثيرًا عن لقاءاته التي يدعوني إليها مع حثالات العرب؛ لم أجد وقتًا، ولا قدرةً على التعاطي مع نصائح "مؤتمن"، ومع رسالته التي يدعيها.
قال "مؤتمن": إن العرب تزعم أنك تقصد "الجليلة" ابنة "مرة" بأبيات شعرك، لا "الجليلة" ابنة "الزير".. فماذا تقول في ذلك؟
- وأنت يا "مؤتمن" ألا تصدق وجدي، وشوقي لابنتَي؟
- لا أهمية لرأيي في هذه المسألة يا "أبا ليلى"، المهم هو أن تتزوج من ابنة "مرة" قبل أن تتناقل الألسنة سيرتها بين العرب.
لقد أسمت "آمنةُ" "الجليلةَ" بهذا الاسم تيمنًا باسم صديقتها ابنة "مرة"، وقد أسميت أنا "الجميلة" تيمنًا باسم عمتها التي لم أرها منذ اتفاق التبابعة، ولكن أنّى لي أن أقنع العرب بصدق روايتي؟
- وماذا بإمكاني أن أفعل يا "مؤتمن"؟ فـ"الجليلة" لن تتزوج من زيرٍ مثلي إلا إذا أصبحتُ ملكًا على العرب؛ فعندها سأتمكن من إخراس الألسنة السامة، والأصوات الناعقة، وأنا لن أصبح ملكًا قبل أن يموت أبي.. فما العمل؟
رد "مؤتمن" مستنكرًا: ولكنك لم تعد زيرًا يا بني!
- أنت وحدك من تعرف ذلك يا "مؤتمن"، فلو علمتِ العرب بأنني أصدق بما تقول لعلقت رأسك الشيباء هذه على باب معبد الرب.
صدّق "مؤتمن" على حديثي دون أن يجد ما يقول.
أنت تقرأ
مذكرات الزير سالم
Teen Fictionأنتم تعرفون وجهًا واحدًا للأحداث، ولكن مازال هناك الكثير مما يمكن أن يقال.(رواية خيالية من التاريخ لليافعين)