مدّ والدي مائدةً عامرةً؛ احتفاءً بعودة ابنه البكر سالمًا.. وفي الداخل اجتمعت نسوة الأقارب؛ للتعرف على ''الجميلة"، و''الزرقاء" التغلبيتين. حاول "وائل" إشباع فضول أشقائنا، وأبناء عمومتنا، وبني العرب، فأخبرنا عن سبب عودته المفاجئة إلى الديار موجهًا حديثه إلى الملك:
- كان ''بكر التبعي" سكيرًا، وعابثًا.. ولكنني إيفاءً باتفاقية المصاهرة المبرمة مع التبابعة، فإنني قد زوجته من ''الجميلة''.. كانت "أم هاشم" ستجلس على عرش التبابعة بزواجها من "بكر" بعد وفاة الملك؛ فاحتملتْ منه سوء طباعه، وخبث خصاله، ووضاعة معدنه، وقد وأد شقيقات "هاشم" بأكملهن، ولم يصدر مني صوتًا.. حتى كان يومٌ تناولتُ فيه العشاء مع جمعٍ من الأعيان بقصر التبعي "بكر"، وقد كان ثملًا، فوصل إلينا صوته بينما يعتدي على "الجميلة" دون أدنى اهتمامٍ باستعطاف ضيوفه الأكارم، ثم تجرأ لوهلة، وعيّرها بنسبها التغلبي.. ناعتًا إياها بابنة ربيعة.. كما ردد بيتًا قديمًا من شعر "المنذر" هجا فيه التغالبة؛ كان قد نظمه قبل إبرام المصالحة.. فما كان مني إلى أن فصلتُ رأسه عن جسده، ثم حملتُ "الجميلتين" وفررنا متخفيين بالظلام بين جبال اليمن، وقد أرسلتُ رسولاً؛ ليصل قبلي حاملًا إلى جلالتك رأس التبعي الحقير.. تاركًا جثته العفنة لوالده الملك؛ ليتكفل بدفنها.
كان والدي رابط الجأش.. متحكمًا بانفعاله.. قال بينما يمد كفيه لإكرام ضيوفه دون أن تتبدل نبرة صوته الهادئة: هل تريد أن تخبرني يا بني بأنك قد دققت عنق وريث عرش التبابعة؟
- هذا ما فعلته جلالتكم.
تمكن والدي من الحفاظ على سكينته أمام ضيوفه، بينما لم تتمكن النائحات من ذلك.. كانت "الجميلتان" أيضًا قد أخبرتا نسوة القصر بنسختهما من ذات القصة.. فما كان منهن إلا أن شققن الجيوب، ونادين بالخراب، والدمار الذي سينتظرنا.
كانت الأصوات الآتية من الداخل متباينة، ومتداخلة، ولكنني استطعتُ تمييز صوت واحدةٍ فقط من بينهن؛ كان ذلك الصوت لـ"صبر" التبعية؛ فهي الوحيدة التي لن يطالها لومٌ حتى ولو وصل صدى نواحها إلى اليمن.
لم تتزوج أمي من والدي؛ إلا حقنًا لدماء العرب، ولتنعم هي، وذويها بالسلام على مر الزمان.. إن "وائل" بنقضه لعهود التبابعة سيملأ بيننا بحرًا من الدماء.. تصب فيها أنهار دماء أبناء "صبر" التغالبة، وأشقائها التبابعة.
أنت تقرأ
مذكرات الزير سالم
Teen Fictionأنتم تعرفون وجهًا واحدًا للأحداث، ولكن مازال هناك الكثير مما يمكن أن يقال.(رواية خيالية من التاريخ لليافعين)