طيف الجليلة

48 4 0
                                    

كان "مؤتمن" محقًا؛ إذ أن السبيل إلى "الجليلة" كان مرهونًا باتباع الطريق القويم.

علمتُ أن "الجليلة" قد تزوجت من "بشرٍ الكندي" منذ سنوات، ثم عادت إلى مضارب عمي بعد أن ترملت، تاركةً ابنها "هشام" في رعاية جده "همام الكندي".

كان عليكم أن تروا كيف أصبحت "الجليلة" بعد الأعوام العشرة التي توارت بها عن ناظريّ؛ لقد أصبحتْ مصدرًا لإلهام شعراء العرب بعينيها الحوراوين الكحيلتين، وببشرتها الملوحة، وشعرها حالك السواد الذي ما تفتأ جدائله تتراقص من تحت عصابة رأسها مع نسمات الرياح.

سألتُ "آمنة" عن وسيلة تعارفهما ، فأخبرتني بأن "البسوس" -أشهر شاعرات العرب- كانت تنزل في دار "الجليلة" عندما تصل إلى اليمامة، لم تشتهر "البسوس" بالحلي الثمينة، ونفائس الأقمشة التي ما برحت تخلعها على أصدقائها، وأقاربها فقط.. بل بذكائها أيضًا، وفصاحتها، وجزالة شعرها.

كانت "البسوس" تضطر لقطع جزيرة العرب في رحلتَي الشتاء، والصيف؛ لزيارة أشقائها التبابعة في اليمن، ثم العودة لزوجها "سعد" أمير بلاد السرو في الشام، وخلال رحلتيها كانت العرب تتسابق لاستضافة "البسوس"، وإكرامها، وحسن وفادتها.

كانت أمي "صبر "، و"صفية التبعية" والدة "الجليلة" قريبتين من ناحية أبويهما؛ ولذلك استضاف منزلنا، ومنزل عمي "البسوسَ" على الرغم من العداء الأزلي بيننا، وبين التبابعة.

كانت "البسوس" في شبابها كما أتذكرها تفوق "الجليلة" جلالًا، وبهاء، وقد جمعتْ سحنتها ما بين سحري الجنوب والشمال، وتحدثتْ بلغات العرب جميعها.. كما حفظت جميع القصائد التي سمعتها في حياتها.

سمعتْ "التغلبية" كثيرًا بمآثر "البسوس"، وما أن حطت رحالها في اليمامة لدى ديار كندة بعد زواج "الجليلة" حتى سنحت لها الفرصة للتعرف عليها..

لم يكن لـ"البسوس" مواعيد محددةٌ لتحط أحمالها في أي أرضٍ تنزل بها؛ فكانت "التغلبية" غالبًا ما تزور "الجليلة" لتفقد "البسوس"، فما كان منهما إلا أن توثقت عرى صداقتهما.. استمتعتْ "آمنة" بأدب "الجليلة"، وبشعرها، وطلاوة لسانها، وبكرم أخلاقها، وعزة نفسها، وطابت نفسها بمجالستها، ومنادمتها.

كان بودي أن أتأكد مما إذا كانت "الجليلة" لا تزال تذكرني، ولكن "التغلبية" لم تشر إليّ في حديثها من قريبٍ، أو من بعيد.

شعرتُ بأن أوان التردد قد فات.. فأصبح لزامًا عليّ أن أتحقق من "الجليلة" ذاتها عن رأيها في شخص "المهلهل"، فطلبتُ من والدتي "صبر " المساعدة، فكان أن ضربتْ ليَ موعدًا مع "الجليلة" تحت أصيل صخرة الجواء.

مذكرات الزير سالمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن