صخرة الجواء

42 5 3
                                    

لم تعد صخرة الجواء موئلًا لبني البشر؛ لحمايتهم من لهيب الشمس الحارقة فحسب، وإنما غدت مقصدًا لكل الكائنات الحية من الدواب، والطيور، والعقارب، والوحوش، والحيايا؛ لذلك كان لزامًا على العرب أن يحترسوا عند البقاء تحتها، وألا يختلوا بأنفسهم أسفلها مطلقًا؛ فيجب أن تجتمع على الأقل ثلةٌ من العرب الأشداء؛ للذود عن بعضهم البعض أمام الأخطار المحدقة.

لم يكن الحال كذلك معي أنا، و"الجليلة"؛ فتحت صخرة الجواء لم نبال لا بالهجير، ولا بالعاصفة التي هبت قبل لقائنا، ولا حتى بالزواحف السامة، والمخلوقات الشرسة التي تهيم على وجهها من حولنا، فحسبنا أن عامة العرب قد فرت من العاصفة إلى ديارها، ولم يتبق من أحدٍ سوانا يتفيأ بظلال صخرة الجواء.

خلعتُ عباءتي السابغة؛ لتحتمي بها "الجليلة" من صفعات الرياح، كما تلثمتْ هي بخمارها؛ لتحمي أنفها، ومبسمها من ذرات الرمال، ولكنني من خلف اللثام تمكنتُ من الإمعان في عينيها الكحيلتين، وتأكدت من أنهما عينا "الجليلة" ذاتها.. لم تتبدلا منذ أن صادفتها للمرة الأولى في رحلة ظعنها آنفة الذكر إبان أيام الصبا.

- هل مازلتِ تذكرينني يا أيتها "الجليلة"؟. سألتها بعد أن سادت بيننا برهة صمت.

- ومَن مِن بنات العرب لم تسمع عن "الزير"، أو تتناقل أشعاره، أو تردد مآثره يا "أبا ليلى"؟

- وهل تعرفين من كانت ملهمتي في قصائدي يا "جليلة"؟

أشاحت "الجليلة" بوجهها بعيدًا، ثم أجابت: إنني أفضل ألا أعرف ذلك.

أيقنتُ عندها أنها قد عرفتْ أنها المقصودة في أبيات شعري، وأنها ربما كانت تتناقل مع بنات العرب سيرتي، وكلماتي.

قالت عينا "الجليلة" الكحيلتان الكثير مما لم تتمكن من إخباري به بلسانها.. كما ترجمتِ الكثير من قصائدي التي عجزتُ عن نظمها حتى الآن.. شعرتُ أن لياقتي الأدبية قد صافحتْ قلمي مجددًا، وأن قريحتي ستعود لتجود بخيرٍ مما قاله "الزير سالم" طوال حياته.

مذكرات الزير سالمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن