صوت وقع خطوات يقترب من الزنزانة شيئا فشيئا ، نهضت من مكاني متململا و ألقيت نظرة نحو القضبان والنعاس يغشا عيناي المثقلتان من التعب ، تقدمت نحو الأمام أكثر حتى تتضح الرؤية ، تخيلت في بادئ الأمر أنه لم يكن سوى صديق لوردي الذي قد وعدنا بالمجيء إلينا من أجل إنقاذنا كما قد قال ، ولكن ذلك الطيف يقترب أكثر وأكثر ، وكيف لي أن أنساه؟ وقع العصا الحديدية على الأرض فتح لي بواية من الذكريات ، عدت إلى ركن الزنزانة ووضعت رأسي على الحائط متئملا السقف المتشقق منتظرا لسقياي من جرعة العذاب الأليم ، ضحكت في صمت بيني وبين نفسي قائلا : كيف يعقل للمرء أن ينتظر عودة الأمل من فوهة الجحيم ؟
نظر لي بعلامات وجهه الباردة التي لم أفهم ماهيتها يوما ، جلست أشاهده بإعياء بينما هو يرقابني في صمت ، بعد مضي مايقارب العشر دقائق تحدث قائلا : هل إشتقت لها ؟
دون أن أوجه نظري إلى تلك العصا الحديدية التي كان يشير إليها فهمت قصده دون أي تفكير ، ككل مرة قبل أن تبدأ حفلة العذاب التي يقيمها يجب عليه أن يسألني هذا السؤال ، ولكن حينها ودون أي مقدمات أتت على بالي فكرة مجنونة كان لابد لي أن أقوم بها رغم أنني أعرف جيدا مالذي ينتظرني بعدها ، نهضت من مكاني واقتربت من القضبان الحديدية واضعا يدي على تلك العصى الحديدية بينما علامات الدهشة محفورة على وجهه : ما رأيك أن نتبادل الأدوار اليوم؟قبل أن تصدر أي ردة فعل منه سحبت العصا بكل خفة وتراجعت نحو الخلف منتظرا لهيجان الأسد وهو داخل لعرينه .
لحظة واحدة ، إثنتان .. إنتفضت دقات قلبي وكاد الخوف يفتك بي حتى فتح الزنزانة على مصراعيها بغضب مخلفا دويا مرعبا .
كأن يَحضر العصفور في حضرة الأسد كانت تلك هي حالي حينها ، لا جناح ينقذني ولا صوت يسعفني من أجل الموت الذي قد أصبح يتربص بي ، دون أي تفكير وكغريزة النجاة من فك الوحش الذي قد طالت هيمنته انقضضت عليه حينئذ ، كان يجب علي أن أتمرد عليه ولو لمرة واحدة ، أن أحفر على قصة تاريخي ولو سطرا واحدا في سبيل التضحية ليس من أجل أحد وإنما من أجل نفس طال أسرها .
رسمت ذاكرتي المشوشة صوت صراخ في الزاوية حينها ، بالتأكيد لقد كنت أنت يا لوردي بعد كل شيء أنت أيضا تستحق الخروج من هنا .
رغم فقدانه للوعي إلا أنني قد واصلت الضرب بنهم شديد إنتقاما من الأيام التي قد سلبت مني روحي وانا على قيد الحياة ، من اجل تلك الدقائق التي كنت أتمنى فيها الموت دون سبيل للنجاة ، من أجل كل فكرة حمقاء قد ظننتها بك وأنك قد تستطيع التغير في يوم من الأيام ، طفولتي شبابي وحتى مشيبي الذي قد يكون تحت رحمتك لا مفر له من أيد العذاب ، علت أصوات الضحك في المكان محدثة عالمي الذي قد بنيته يوما تحت حضرة عذابك عن يوم المفر والهناء ، اليوم بلا شك هو يوم الإنتصار يا أنا ، لن تهدأ هذه الروح حتى ترى بأم أعينها الروح وهي تفارق جسدك دون رجعة .
لن ألوم نفسي على وحشيتي التي تهشم عظامك وأنا أسمعك أنين ألمك الذي يطرب أذناي بإستمتاع ، صنعت فنا جديدا لن يدركه الحمقى أمثالك يا سيّدي إنه فن الحياة الذي لن يذوقه أحد مثلك أبدا ، لأنك لم تجرب شعور السجن سنين وسنين متتاليات تحت رحمة وحش لا يدرك الشفقة أو الحنان .
ظلت يدا لوردي تبعدني عنه بإستمرار مترجيا مني التوقف عن رسم اللوحة الذي قد انتظرت سنين لإكمالها ، وبينما أنا أقاوم في كل مرة وأسمع ذبذبات صوته تعكر سير فني ، حتى أتتني ضربة قوية على مؤخرة رأسي ماكان لها إلا أن تفقدني توازني وتضعني طريحا مستلقيا فوق لوحتي الفنية التي قد كنت على وشك إكمالها .
تراجع نحو الخلف ببطء وهو يلهث كالطير الجريح واضعا يديه فوق رأسه من هول المصيبة قائلا : بربك مالذي فعلته يا ألفرديت ؟ ما أنت فاااااعله !!
ولأن الوقت لا يسعف إنسيا أو يقدم تبريرا كان من شأن القدر أن يخط فوق سطور لوردي حكاية مأساوية أخرى ، وكأن الحياة لم تكف عن تهذيبه بعد إلا وهي طارحة له على الأرض قاتلا أو مقتولا .
توقف الحراس عند مدخل الزنزانة مشدوهين من هول المنظر الذي قد رأته أعينهم ، بركة دماء حمراء داكنة تغطي الأرض بأسرها ملك يعتلي العرش ووريث له مطروح فوقه كجثة لا تستطيع الحراك ، يعلم الجميع حينها جواب أسئلتهم دون أي شك .
ولأن الخوف قد عقد لسانك و شل رجليك عن الهرب ، كان مقدرا لك أن تذهب معهم الآن نحو مصيرك الذي ينتظرك هناك متشوّقا .
YOU ARE READING
ليالي ديسمبر
Actionألفرديت شاب عشريني غاص في غمار المجهول .. بين تقاليد العائلة وأحكام المجتمع كان يبحث عن ماهيته بين سطور الورق ، إلا أن وجد نفسه كاتبا يخط بالدماء فوق نصوص الأبرياء ظلما ، فما قصته ؟ وما هو عنوان حكايته؟ 2023/09/24