الفصل 11

23 4 0
                                    

ضبابة سوداء تغطي عيناه المثقلتان ، يرائي نفسه من بعيد كمشهد سينيمائي تسوده بعض الذبذبات الرمادية ، يرى يديه بتمعن وهو يحدق بهما في إهتمام كبير كأول مرة يطالعهما ، لا تزال الصورة غير واضحة له ، الحديقة الخلفية للقصر تقبع أمامه بينما هو جالس على العشب الأخضر في سكون ، تحدثت خلايا عقله متسائلة عن ماهية الزمن الذي هو فيه الآن ؟ أيا تراه في الحقيقة أم الخيال .. ؟

اقتيد آنيا نحو الأمام ، رجلاه تحملانه دون أي أرادة منه.  يريد الإلتفات إلى اليمين لاكنه لا يستطيع ، يريد الإلتفات إلى اليسار لكنه لا يقدر ! أراد التوقف أو الصراخ لكن حبال صوته لا تقوى على الحراك  وصرخة مكتومة محتجزة في حلقه ..

الآن هو واقف أمام بوابة القصر الكبير تغيرت الزخرفات وتلك الورود من أين لها أن تظهر ؟ تنبت الأشجار أمام ناظريه وتحلق الطيور فوق رأسه ، سرح في خياله بعيدا ونسي الدخول إلى القصر الذي قد فتحت بوابتاه تلقائيا  بمجرد قدومه ، اقترب نحو الداخل وهو يطل برأسه ناحية اليمين خوفا من شيء  غير مترقب.
وأخيرا  خرجت كلماته دون أي إنقطاع :
- هل من أحد هنا ؟
تردد صدى صوته في القاعة الكبيرة ولم يأته جواب يسكت عقله المتوتر الذي يأبي الدخول .
استرجع شجاعته وقبض على يديه بحزم وهمّ بالدخول ، يدرك جيدا أنه نفس القصر الذي يعيش به وأن تلك الطاولة هي نفسها الموضوعة في مكتب والده كما يظن ، الجدران مطلية باللون البني الذي يدخل البهجة والسرور إلى قلبه ولكن كيف لكل هذا أن يتغير خلال بضعة ...؟
أمسك رأسه من شدة الصداع الذي قد فتك به ، مجرد التفكير في ماقد حصل والرجوع بالزمن تدخله في حالة من الغثيان والصراع المتواصل .

تابع تقدمه نحو الأمام والرؤية تتلاشى امامه تدريجا إلا أن رأى لعبة تركض أمامه بسرعة ناحية المطبخ ، خرج من حالة الصراع التي قد كان بها وتبع  اللعبة بفضول شديد ناحية المطبخ ، بمجرد أن وصل وجد اللعبة مستلقية على الأرض ، اقترب منها شيئا فشيئا ثم حملها وهو يتفحصها بعينيه بإنتباه شديد
- كيف لك أن تتحركي ؟

طالته الذكريات نحو الزمن البعيد ومشاهد عدة تأتي على مخيلته في نفس الوقت يصحبها صداع أليم على رأسه ، امرأة تحمل طفلا صغيرا في حضنها ومن ثم تضعه على الأرض كي يلعب رفقة القطط الصغيرة التي قد كانت ترقد بسلام فوق رجله

بدأ يصرخ كالمجنون وسط المطبخ و الأواني تتساقط من على الطاولة ، بينما الجدران تهتز وكأن زلزالا قد ضرب المكان
- من أنت ؟ من ، من !!!؟

في نفس الوقت صرخ الطبيب مناديا على الجميع وهو يتحدث بقلق شديد : لقد فقد ألفرديت السيطرة على  مستويات النشاط في وعيه  ، فلتأتوا بالحقنة على عجل ولتثبتو أقدامه عند طرف السرير إنه على وشك السقوط .

حضر الأطباء وشكلوا مجموعة كبيرة وكل واحد فيهم تنتصب عيناه حول حالة الذهول التي لم يشهدوا لها مثيلا من قبل ، وقاموا بحقن ألفرديت بالسائل النخاعي الذي سيقلل شدة الضغط داخل جمجمته .

وحينها فقط توقف إنهيار عالمه وعادت الرؤية متضحة أمام عينيه وبدأ صداع رأسه بالزوال تدريجيا إلى أن تدارك الوضع وعادت عيناه تبحثان عن اللعبة المستلقية لكنه لم يجدها ! شرع بالبحث عنها تحت الطاولة خلف الباب عند الخزانة وفي كل مكان إلى أن سمع صوتا أخرجه من حالة الضياع التي قد تملكته ، خرج من المطبخ وهو يسير ببطء متتبعا صدى الصوت الذي يسمعه قال في نفسه حينها  : إنه آت من الأعلى بلا شك !

صعد الدرج على مهل وهو يتأمل تلك الزخرفات المذهلة التي قد نقشت بإتقان شديد ، لطالما كانت تجذبه التفاصيل الصغيرة من وقت طويل ولكن ذلك الصوت الذي بدأ يعلو شيئا فشيئا هز كيانه بشدة وأصابته القشعريرة بمجرد أن تناهى صوتها إلى مسامعه ، دخل في حالة من الحنين والشوق لشيء لا يعرفه شكله أو تفاصيله ، جذبه الصوت إليه كالمغناطيس لا يستطيع التفلت منه أو الخروج عن حقله ، تابع صعود الدرج وهو في حالة من الهذيان والألوان الربيعية تتضح أمام عينيه في شكل بهي ، وصل إلى الممر واقتيدت رجلاه نحو جانبه الأيمن تلقائيا ، وعيناه تطالعان الباب الشبه المغلق الموجود في آخر الممر ، زالت الألوان الربيعية وأصبح الخوف يحل مكانها تدريجيا ، خرج من حالة الهذيان التي قد تملكته وأصبح تائها ينظر في إستغراب إلى  الغرفة التي يأتي منها ذلك الصوت الملائكي الذي قد أرعب قلبه بعد أن كان يملأ حبا وطمأنينة  ، تابع المسير  بخطى حذرة إلى أن وقف قبالة الباب ، أمسك بالمقبض ودفعه نحو الأمام .

أطل برأسه عليها و هو ينظر إلى تلك المرأة الواقفة عند الشباك وهي تداعب العصافير بغنائها و تضحك بإستمرار ، قال بإرتباك والحروف تخرج متقطعة من شفتيه : من أنت ؟

إستدارت نحوه والنور قد ازداد حدّة بمجرد إلتفاتها ، قالت بصوت هامس حنون : لقد تأخرت !

ليالي ديسمبر Where stories live. Discover now