بقيت واقفة على حالها تلك وهي تربط الذكريات ببعضها البعض حتى تساقطت الدموع من على وجنتيها بغزارة وهو يطالع فيها بإرتباك سائلا لها : ماخطبك؟
ردت عليه بمضض : لا شيء .
تراجعت نحو الخلف وهي تزيح بوجهها عن رونق التي كانت تلح عليها بإستمرار لإخبارها ، بينما مئات الأحاديث تدور في رأسها دون هوادة وهي تخاطب نفسها قائلة :
- أيعقل أنه لايعرفني ؟ هل يعلم كم عانيت للوصول إلى هنا من أجله ؟
ضحكت من سذاجة مخيلتها الوردية التي قد شاهدت فيها نفسها وهي تعانقه بحرارة تخبره عن مآسيها وكمية إشتياقها له ، وكم المعاناة التي قد عاشتها بعد رحيله عنها . أن الحياة لم تمنحها يوما فرصة من أجل تغيير قدرها و أن لاشيء يروق لها بعد رحيل الجميع عنها ، أنها تحلم بعيشة سوية تكون فيها مطمئنة ترقد بسلام بعيدا عن الأحداث التي تهز أركانها بشدّة ، وتصحبها نحو القاع دون رحمة .
أن تكون الحياة لطيفة معها فحسب ، ولو لمرّة واحدة !
شهقت بصوت عال وهي تكسر جدار القوة الذي قد كان محيطا بها ، أسرعت رونق ناحيتها كي تتفقدها ولكنها تفاجئت بيد ثريا تبعدها عنها بقوة حتى سقطت على الأرض مبتعدة عنها ، اندهشت من غرابة المنظر الذي تطالعه قائلة في نفسها : ثريا ! أختي التي لا شيء يهزها تبكي !!
ظنت بينها وبين نفسها أن البكاء محرّم على الفتيات مثلها ، فكبحت هي الأخرى آلامها وأحزاها في ركن بعيد عنها هي بنفسها لا تدري عنه شيئا ، تناست أحزانها حتى أصبحت كجزء باهت من الذاكرة لا يوقظ أحاسيسها أو يلدغ روحها الساكنة التي ماعادت تعرف سبيلا للخلاص ، حتى خيّل إليها أن هيئة الإنسان في ذاتها تكون مجردة من إحساس الضعف والهوان الذي ظل يرافقها .
سمحت أخيرا لتلك الدموع بالهروب من سجنها التي طالت بأسره ، بينما عيناها منتصبتان على صورة ثريا التي كانت تنغمس في الظلام أكثر فأكثر ...
هتف لوردي في رونق حينها ، وهو يلوح لها بكلتا يديه : أنت ، هل تسمعينني ؟
نهضت رونق من مكانها بسرعة وهي متوجهة ناحيته بمشية بطيئة زرعت الخوف في قلبه .
سألها بتردد : من أين أتيتم ؟
طالعته بنظرة ساكنة خالية من الشعور ذكّرته بنظرات ألفرديت الذي كان محبوسا هنالك برفقته ، تراجع نحو الخلف ببطء وهو يجر قدمية بحذر حتى حدّثته وهي تميل برأسها نحو اليمين ببطء ، تقوم بجذب السكين من جيبها بتمهل : لماذا جعلت أختي تبكي ؟
قبل أن تستولي أفكارها الشيطانية على رأسها الصغير الذي كان يحيك مشهدا دمويا يرائي فيه موت لوردي ، سحبت ثريا أختها رونق نحو الخلف وهي تسألها أن تجلس بعيدا تنتظرها حتى تأتي لها بنفسها بعد محادثة لوردي .
- هل أنت متأكّدة مما تقولينه ؟
ردّت عليها ثريا مطمئنة : اجل عزيزتي سوف آتي من أجلك حالا
- إذا ما احتجت إلي سأكون بجانبك دوماربّتت على رأسها في حنان وهي تلوح لها بيدها من أجل المغادرة .
بقي لوردي يطالعهما بصمت وهو مستغرب من إنقلاب الأوضاع في عدة دقائق معدودة . حتى قامت ثريا بفتح القفل وهو يطالعها بإستنكار واضعا يديه فوق رأسه سائلا لها : كيف إستطعت فعل ذلك !
تبّسمت له وهي تراقب ملامح وجهه بخلسة حتى تحدثت بصوت خفيض : أنت لم تتغير حقا .
طالعها متسائلا حتى أكملت حديثها قائلة : لقد كنت أريد تحريرك ولكنني لن أستطيع فعل ذلك .
ردّ عليها ببرود : حسنا لك ذلك
التفتت نحوه في إستغراب بعدما كانت تمعن النظر في زنزاته بفضول قائلة : مالذي تعنيه بقولك هكذا ؟
- لم أقل شيئا ! أنت لا تريدين تحريري هذا كل ما في الأمر .
- أجل ، أنا أعلم ذلك ولكن ألن تحاول إقناعي على الأقل ؟
ضحك ببرود وهو واضع يده على وجهه يمسح عينيه المختلطة بدموع الفرح والحزن قائلا : فلتنسي لربما السجن أرحم لي مما سألقاه خارجا .
- أوصلت لهذه الدرجة من البؤس !
رفع عينيه ناحيتها وهو يسألها بشك : من أنت ؟ ومالذي تريدين مني فعله !
تحدثت بشيء من الهمهمة بينما ترسم شبح ابتسامة على ملامحها قائلة : أنت حتى لا تعرفني
ثم أردفت بصوت مسموع قائلة : لقد أتيت إلى هنا كي أمنحك حريتك التي قد طال أوانها .
بقي جالسا يحدّق فيها بشك كي تكمل حديثها غير أنها قامت بالخروج وإغلاق الزنزانة عليه مرة أخرى .
- اصبر ليومين هنا فحسب ، لقد حاولت كثيرا من أجلك وهذا مايكنني فعله حاليا .
همّت بالرحيل غير أنها عادت ناحيته مستذكرة وهي تحمل المفاتيح في يدها تمنحها له عبر القضبان قائلة : فلتستخدمها في الخروج من هنا إلا أن كان هناك شيء يهدد بقاءك على قيد الحياة .
تبسم في وجهها وهو يردّ قائلا : كنت تستطيعين منحي إياه منذ البداية لكنني لا أجد تفسيرا لما قد حصل قبل قليل أمام الزنزانة .
- سوف تدرك كل شيء في وقته المناسب .
أكملت طريقها في الممر وهي تنادي على رونق التي كانت جالسة تحدق في سقف الطابق المظلم الذي قد ملأته خيوط العنكبوت قائلة : هل انتظرتي كثيرا ؟
حركت برأسها لها نافية ومن ثم سألتها مباغتتة لسؤالها قائلة : وأنت هل تألمتي كثيرا ؟
![](https://img.wattpad.com/cover/352899915-288-k808642.jpg)
YOU ARE READING
ليالي ديسمبر
Actionألفرديت شاب عشريني غاص في غمار المجهول .. بين تقاليد العائلة وأحكام المجتمع كان يبحث عن ماهيته بين سطور الورق ، إلا أن وجد نفسه كاتبا يخط بالدماء فوق نصوص الأبرياء ظلما ، فما قصته ؟ وما هو عنوان حكايته؟ 2023/09/24