أبعد من الغد و أطول من الأبدية... أحبك!
......لم ترد كايا التدخل بشؤون مجلس الطلبة مطلقا . فإنها ورغم كل المقومات التي ترشحها للانضمام إليهم، كانت تفضل تخصيص ما لها من وقت فراغ بين بتلات الورود تارة و بين اوراق الكتب الدراسية تارة أخرى.
ومع ذلك، هي في صباح يوم خريفي رتيب، بدأت تعتقد أنها تريد لمرة واحدة فقط ان تتوقف عن الاعتناء بالورود ، و أن تحاول نيل إحداها .
.....
منذ أن أحست بأولى نسائم الصبح الباردة تداعب وجنتيها عند خروجها من المنزل نحو المدرسة. أدركت شقراء الشعر مقدما بأنها ستندم بقية اليوم على عدم ارتداء معطف يقيها تقلبات الخريف المخادعة. غير أنها لم تعر الأمر الكثير من الانتباه و مضت قدما في تطلع نحو ما يحتضنه هذا اليوم في طياته من تفاصيل تجعله مميزا ،وقد كانت اولها أنّها ستذهب سيرا على الاقدام الى المدرسة اليوم .
كان تساقط أوراق الشجر الباهتة على مسرح من العشب الندي الاخضر شيئا فشيئا حاجبة حضور لونه بقسوة عن مرأى النظر ، الغيوم الملطخة لزرقة السماء بمساحات متفاوتة من الأبيض المليء بالصمت والشمس التي تسترق النظر بخجل خلف خط الافق تفاصيل بسيطة لافتة للانتباه. و صحيح ان تلك الاشياء موجودة على الطريق كل يوم، وانها لم تغير المسار عن ذلك الذي تقطعه بالسيارة عادة. لكنها اليوم على غير العادة أحبت تأملها بسكون أثناء المشي بسرعة تلتزم الحياد على حافة الٱجر الذي يحيط الرصيف.
عند وصولها إلى المدرسة وجدت نفسها تبدأ اليوم برضى شديد لم تحس به منذ فترة من الزمن، برغم البرد الذي يلسع بدنها بلا توقف و يجبرها على الارتجاف بخفة مع كل نسمة تهب تجاهها .
و رغبة في حل هذه المشكلة استأذنت من رفاقها للذهاب إلى المكتبة وقت الغداء. قائلة بأن لا داعي للقلق حقا و بأنها تريد التدرب على حل بعض نماذج الأسئلة قبل حلول الإمتحانات، و لأن لا أحد قد عارض مطلقا ــ عدى تشيفويو الذي علم أنه بذهابها سيبقى وحيدا بسبب ثنائي المحبين ذاك ــ فقد حصلت على بعض من الوقت لوحدها في المكتبة ذات نظام التدفئة الجيد كفاية لكي لا تتجمد بردا.
في بداية الأمر كانت تحس بالاندفاع والنشاط لبذل المزيد من الجهد في الدراسة بعد أن صار وقت فراغها أكثر ضيقا بسبب انضمامها الى المجلس قبل بضع اسابيع. بيد أنها وبعد فترة قصيرة بدأت تشعر بالهدوء يخدر كافة حواسها ببطئ. ويمسح بيديه على عينيها برفق دافع اياها في سبات لم تقدر على مجابهة الوقوع له أخيرا.
أفاقت بعد ذلك على نقر خفيف على كتفها و عيناه الباردتان تحدقان مباشرة بوجهها. و بكل تشوش حاولت ربط الخيوط ببعضها محاولة فهم ما حصل قبل ان تؤول الأمور إلى كل هذا لكنها لم تفهم أي شيء مطلقا،قبل ان يسترسل بالحديث :
_" اذا كنت متعبة يمكنك فقط العودة إلى المنزل.. المكتبة ليست مكانا للنوم كما تعلمين "
نطق بنبرة ثابتة، خالية من اي تعابير، دفعتها للحمحمة بخجل و الاعتذار على مضض ولم يزد شيئا بعدها.
حركت كايا خصلات شعر كانت قد غطت وجهها منذ وقت قريب ثم ادارت عينيها في المكان بهدوء، الى أن وقعت أخيرا على من أرادت حقا رؤيته منذ البداية. يجلس الى جانبها بهدوء، جاهلا بكم الفوضى الذي يخلقه داخلها.
كان يحمل كتابا بين يديه، يغرق في تفاصيله غرقا أعماه عن كل ما يحصل حوله. يحرك عينيه العميقتين بين كلماته جيئة و ذهابا، له حاجبان كثيفان قلما يتحركان في تعابير محددة، مع خصلات شعر بنية قاتمة تتوضع على جبهته بطول معتدل ، يسرحها إلى الجانب أحيانا و يترك ذلك أحيانا أخرى. بشرته البيضاء لا تعكرها أي شامات أو نمش و شفتاه الرقيقتان لا ترسمان الابتسامة بلا أسباب واضحة تدفعه لذلك.
تعلم هي أن الكثير من المتمدرسين هنا يصفونه بالبرود ظلما و هم لا يعرفونه حق المعرفة. تتفهم مايقولونه لانهم لا يركزون ليرو لمعان عينيه الحالمتين عندما تسير الأمور كما يريدها ، ولا ابتسامته الخجولة عندما يثني أحدهم على جهوده . هو كان أكثر من مجرد كتاب مفتوح لمن يريد قراءته، يعلم أن سحره الغموض فلا يسمح لاحد بأن يعيث فسادا بوضوح ملامحه على صفحة المياه الساكنة. ولا أحد غيرها تقبل هذا.
حرك عينيه إلى الجانب قليلا لتلتقي بخضراوتيها للمرة الثانية.
_"هل هناك شيء على وجهي؟ "
وجهك هو المشكلة ايها الغبي!
_"كلا.. أعتذر، لقد شردت لوهلة "
حملت أغراضها عندما شعرت بأنها ربما ستفسد كل شيء إن بقيت لوقت طويل هنا و انصرفت خارجا. ناسية الموضوع الذي اتى بها إلى هنا منذ البداية، الجو الذي ازداد بردا في الخارج.
سرت قشعريرت في بدنها وهي ترمق المطر ينهمر خارجا في حين أنها لم تحضر لأي من هذا مطلقا . شعرت بأحدهم قادما من خلفها وقد كان هو كما توقعت. رمقت المظلة المطوية بين يديه، و شاهدته يفتحها على مهل مستعدا لمواجهة دموع السماء. نظر نحوها لوهلة ثم سأل وهو يعيد بنظره نحو المظلة مجددا :
_"تحتاجين إلى توصيلة؟ "
أرادت أن تجيبه بنعم. لكنها في لحظة ما شعرت بأنها تفرض نفسها عليه و تخترق مساحته الشخصية بشكل لا يروقه.
_" كلا... أعتقد أني بخير حقا! "
تحدثت بضحكة قصيرة لتلطيف الجو لكنه بقي يرمقها بعينين خاليتين من التعابير
_"هل أحضرت مظلتك اليوم؟ لا اعتقد أنك ستعودين الى البيت في هذا الجو بدونها "
_"لقد نسيتها اليوم"
عاد بخطواته للوراء قليلا ليصبح امامها ثم وضع مظلته في متناولها و مضى بعيدا . أرادت إيقافه لعدة لحظات قادمة، لكن صوتها لم يكن يبرح حنجرتها، لذا اكتفت برؤية خطواته المتمهلة وهو يخترق المطر راحلا.
أنت تقرأ
سيحل اكتوبر مجددا BAJI .K
Fiksi Penggemar"لأن الأشياء الزرقاء دائما جميلة، كالسماء و عينيكِ! " Baji × oc