كانت تعاني طيلة الفترة الماضية من صراعاتٍ وأحلامًا جعلتها لا ترغب بالنوم، تحاول جاهدة أن لا يكتشف عدي ما بها، لا تريد أن تقحمه بما يضيق صدرها به، لا ترغب أن تزرع بينهما فجوة تدفعهما لتذكر معاناة ولادتها الأولى.
كانت تنازع ما يواجهها فذكرى هذا المميت تضربها في مقتلٍ، لم تتمكن من نسيان ذاك الوجع الذي هاجمها فور استيقظها بعد ولادتها الأولى بأمل أن تحمل أطفالها بين يدها وتتمعن بملامحهما بلهفة التأكد بأنهما يحملان نفس ملامح معشوقها، ولكن أحلامها هُزمت فور أن وجدت ذاتها بغرفة متهالكة معتمة تزف لها بشرى أيامها القادمة.
مازالت تتذكر وجه مصطفى ابن عمها المنفر، كان أول وجهًا تلمحه عينيها بعد أن استردت وعيها بدلًا من رؤية زوجها الحبيب، وفوق كل ذلك يخبرها بأن زوجها وابنها لم يعدوا أحياء.
وكأنه ينتزع منها الحياة ويتركها على أجهزة تجبرها على البقاء، مازال يجبرها على تقبل ذاك السطو الذي يجلدها دون رحمة منه، مازال يرغمها على البقاء رغم امتناعها عن الطعام ولكن الموت كان أقسى منه فرفض استقبالها إليه.
مجرد أن يطوفها شعورًا بأنها قد تخوض تلك التعاسة مجددًا كانت تشعر بضيقٍ يجعلها عاجزة عن التنفس، وتترك دمعاتها تؤانسها.
ولكن عليها الاعتراف لذاتها بأنها مثالية، فقد أبدعت بالتمثيل على زوجها، كلما وجدها تحتفظ بأثار البكاء كانت تخبره بأن تغير هروموناتها ما جعلتها بتلك الحالة، واليوم هو موعد ولادتها المحدد طبقًا لتعليمات الطبيبة، وعليها ادعاء القوة أمام العائلة وأمامه هو شخصيًا.
ارتجف جسدها الماسد على الفراش الطبي، بانتظار دخول طبيب التخدير، وتبقى بهدوئها المصطنع وهي تتذكر حمله لها، وكلماته الرقيقة والحنونة، انتفضت رحمة بجلستها حينما وصل طبيب التخدير للداخل، فأسرعت للخروج من الغرفة بذعرٍ جعل الممرضات والطبيبة تلحق بها وهي تتساءل:
_مدام رحمة رايحة فين؟
انهارت حصونها وبكت وهي تصرخ بهم كالمجنونة:
_إبعدوا عني، أنا عايزة جوزي... أنا عايزة عدي!
استنكرت الطبيبة ما يحدث معها، فطوال فترة متابعتها حتى جلوسها الآن وتحضيراتها للولاده كانت هادئة، متزنة للغاية، وحالتها تلك لا توحي خوفها من ألم الولادة ولكنها تكشف شيئًا أثقل مما يهاجمها..خشيت أن تزداد أمورها سوءًا، فأشارت لها بقفازها الطبي وهي تزيح كمامتها:
_طيب اهدي، أنا هبعت الممرضة تدخلك أستاذ عدي بس اهدي من فضلك دي مش في صالحك إنتِ والجنين.
*******
بالخارج وأمام غرفة الجراحة.
تجمهرت عائلة الجارحي من أمام الباب الموصود، الشباب يستندن على الحائط المحاط بباب الجناح المخصص للعمليات، وعلى المقاعد المعدنية جلست الفتيات، أما بالأريكة التي تحوي ثلاث مقاعد ملتصقة كان يجلس عدي ومن جواره عمر، وبالجهة الأخرى كان يجلس ياسين الجارحي، مشددًا بيده على ساق ولده الذي يهزها بعنفٍ وارتباك شعر به أباه جيدًا، فمال إليه يهمس:
_شكلك مش متحمس تقابل ابنك.
استقام بجلسته ساندًا ظهره المحني للخلف، ملتفتًا لوالده وبتوتر لم يخفيه عنه ويجابهه بقوةٍ زائفة كالمعتاد:
_جوايا خوف كبير يا بابا، خوف من اللي حصل قبل كده مش عايزه يتكرر تاني.
واسترسل بغصته المؤلمة:
_طول الفترة اللي فاتت كنت بحاول أخبي قلقي وخوفي عن رحمة عشان متحطش الموضوع بدماغها وتفتكر اللي حصل، بس غصب عني ذكريات اليوم البشع ده رافضة تسبني!
أنت تقرأ
أحفاد الجارحي ..ج5.. ترويض الشرس ..آية محمد رفعت
Romanceالجزء الخامس من أحفاد الجارحي ترويض الشرس تركت يدك مرة فواجهتني الحياة بكل ما امتلكت من قوةٍ، وكأنها تخبرني بأنني مخطئة حينما سحبت قوة أماني من بين أحضانك، فاشتقت لضمة قبضتك القوية التي تساندني حينما اتعرقل بين زقاق أوجاعي، عساك تعلم بأن تلك الفتاة...