-5-
استنشق رائحة تبغ محروق فعقد حاجبيه قائلا :
-اية دة..دية ريحة سجاير !
و توجم وجهه فجأة و تساءل بعينين متسعتان :
-هو الباشا كان منور ؟
عقدت حاجبيها مستغربة و قالت :
-هو مين !
ثم استوعبت قصده لتقول غاضبة :
-لا طبعا..انا راحت عليا نومة بس
نظر لها مطاولا, فعبست بملامحها :
-اية مالك! و اصلا هيدخل ازاي هو انا عارفة اخرج من السجن دة
حك ذقنه, لتشيح برأسها بعيدا و تكمل :
-الريحة السجاير دية منك
و التفت و هي تواصل ثرثرة لتخفي الحقيقة, لكن المسكينة وجدته قبالها, فرفعت نظرها اليه بعيون متوترة, فجأة اقبض علي وجهها و ضغط بأصابعه علي فكها, لتتأوة فمال برأسه علي رأسها..صمت للحظات و ابتعد..
-دة مكنش سجاير بس بقي
انقشع وجهها و قالت ناهية :
-لا لا دية سجاير..بس نوع وحش
فسألها هازئا :
-و انتِ بتشربي سجاير من امتي؟
لتصرخ به :
-ينفع تتطلع برة..
فقال في لهجة هادئة تماما و هو يبسط ذراعيه :
-امرك..
خرج, فاغلقت الباب باحكام و استندت بظهرها عليه و صدرها يعلو و يهبط خائفة, كانت رائحة انفاسها التبغ و المخدرات التي حاولت تجربتها لكن فشلت فشل ذريع و تركتها خائفة..اسرعت بغسل اسنانها بمعجون السنان برائحة النعناع و الليمون فيكتم رائحة السكائر..
خرجت من المرحاض بعدما اغتسلت, تأكدت انه ليس في الغرفة,أخبأت الحقيبة السوداء في مكانها, و ارتدت ثوب قرمزي اللون عاري الكتفين و الساقين, و كحلت العيون الفيروزية وضعت لمسات جمال تبرقها, و تعطرت بأرقي انواع العطور, حتي لا يشك وائل للحظة انها صاحبة رائحة السكائر..
طرقت باب مكتبه في خفة, فقال بخشونة :
-ادخل
تقدمت اليه في دلال, لم يرفع نظره اليها بل قال :
-لو عايزة حاجة انا مش فاضي دلوقتي
فقالت في لهجة ناعمة :
-انا كنت جاية اقولك اني هحضر الاكل دلوقتي
فلم يرد و تابع الحاسوب الالي, فسارت تجاهه و وقفت خلفه, مدت ذراعيها حول عنقه و مالت عليه, فتلامس نهديها بظهره, طبعت قبلة علي خده فترك احمر شفاهها علي جبينه بينما حدثته بنبرة غنج :
-محدش جيه البيت..
اجاب مقتضبا :
-عارف
و تابعت في دلال :
-و انا كنت بجرب بس السجاير, بس لو عاوزني ابطل هبطل
ابعد ذراعيها عنه في ضجر و قال :
-انا مشغول دلوقتي أجلي اي كلام لبكرة..و مظنش ان في كلام ما بينا
جلست علي الارض, و ضعت رأسها علي فخذه و قالت بتأثر :
-وائل..متصعبش الموضوع انا عاوزة نرجع..نرجع و انا هسقط البيبي و انت تنسي الي حصل و انا كمان و خلاص كدة..
و رفعت عينيها اليه :
-انا و انت لبعض و مينفعش نبقي لحد تاني
فقال ساخرا :
-انتِ عاوزة نطلق و لا نرجع
امسكت كفه في رقة و سندت وجنتها عليه و هي تقول بصوت متهدج :
-نرجع..بس لو انت هتفضل علي نفس كرهك دة يبقي نطلق افضل لاني متعودش من وائل الا انه يحبني
فجذب يده منها و استقام بجزعه قائلا :
-يبقي استني ورقة طلاقك قريب
و كانت تلك الاجابة الصادمة, التي احنت رأسها في ضعف و أخرجتها من المكتب و هي تجر جسدها بشفقة علي حالها و قلبها باكي فيما شعرت بوخز قوي بداخلها فقد انهي وائل كل شيء بينهما تصحيح ليس بوائل بل هي من بدأت بالصراع..
و تتالت الايام و الاوضاع تأبي التغير و النفوس لم تعد تلين ظل الكبرياء سيد الموقف, مذ اعتراضه لرجوع و هي لا تحدثه الا بوجه جامد خالي من المشاعر عابسا و هو لا يبالي, يشرب قهوته كل صباح و يتناول العشاء مساءا, لا يتقابلا و لو علي سفرة الطعام, فهو ينهي حمامه كل يوم ليجد الطعام جاهز و مرتب في تنظيم يشعره لثوان انه في احدي المطاعم الاوروبية الفخمة, فموهبتها مذ الصغر التفنن في الطبخ و اتقان الطبخات اللذيذة الجديدة, تتعرف علي سيدات اجنبيات لتأخذ منهن وصفات شهية, فلم يكن بينهما اي اطراف حديث..
في ذلك اليوم, اتجهت الي المطبخ تغسل باقيا الصحون و موسيقي هادئة وضعتها جانبا لتونس وحدتها, دندنت و هي تغسل الصحن, حتي قاطعها قوله :
-في ضيوف جايين بكرة علي الغدا
فالتفت له قائلا في سخرية :
-ينفع اسال مين و لا ميخصنيش
-عماد و مراته
هزت رأسها ايجابا و قالت :
-تمام..
و صمتت للحظات و سألته في دهشة و هي تراه في اشد اناقته و متعطر بأجمل العطور الجذابة :
-انت خارج؟
فاجاب بعناد :
-ميخصكيش
عبست بملامحها, فابتسم ابتسامة عريضة و خرج من المطبخ, قبل ان يصل الي الباب سمع صوت انكسار صحن زجاجي, ضحك في خبث فقد ادرك انه استطاع استفزازها لاقصي درجة..
***
طرق باب منزل, و انتظر قليلا جانبا و هو ينظر لساعته التي دقت التاسعة ليلا, فشعر بضيق ليزيد في طرق الباب, حتي فتح..كانت طفلة في عمر الرابعة, لها بشرة بيضاء و عينين عسليتين, كان شعرها الاصفر منقسم الي جزئين مضفران بضفيرة قصيرة لقصر شعرها, بدا علي جمالها الجمال الاوروبي المميز, اقتربت منه و صرخت في بهجة :
-بابااا
اتت سيدة علي عجلة, في منتصف العشرون, قمحاوية البشرة لها, تتشابه في عيون الصغيرة التي ورثتها عنها طفلتها, اقتربت راكضة و هي تقول بالانجليزية :
-من مايا ؟
فرد مندهشا في سعادة و الطفلة متعلقة علي ذراعيه تعانقه بقوة :
-ناهد!
و فجأة صمتت و وضعت يدها علي شفاهها و هي تصرخ :
-وائل!!
اسرعت اليه و ارتمت في احضانه و عانقته بقوة مرددة :
-وائل..انت وحشتني..وحشتني اوي
قبل رأسها في حنو و عانقها قائلا :
-وحشتيني اكتر يا ناهد
هتفت الطفلة بصوت طفولي :
-بابا
فاخذ قبلة سريعا من شفتاة الصغيرة جذبها الي صدره, لتقول ناهد :
-...
*
*
*
يتبع