*21*
بسهولة شديدة عادت الي القاهرة، رغم محاولات هروب كثيرة باءت بالفشل، بدأت حينما خنقت السائق بشالها وقتما خرج صفوت لدورة المياة و اخذت تصرخ بأذنه :
- امشي من هنا..
لكن لم تلبث حتي جاء صفوت مسرعا و لكمها بقبضة يده، اديت لنزف شفاهها السفلي..دحا جسدها في ريبة ان يؤذيها اكثر و صمتت في انين مرير..
دفعها رجلا الي غرفة مظلمة حتي كادت تقع علي وجهها، تزمجرت و التفتت له غاضبة، رمقها حانقا قائلا :
- مش عاوزين نسمع صوتك لحد ما يرجع صفوت بيه..
تنهدت بقوة و هي تجلس قرفصاء علي الارض اخذن نظرة سريعة حول المكان القاتم، ضممت ساقيها الي صدرها و اسندت بجزعها علي الحائط و تأملت الا شيء و العرق غرق وجهها، كادت تسمع دقات قلبها العنيفة، تحسست بيدها بطنها الصغير و غمغمت في ابتسامة :
-نفسي اشوفك يا يونس
و تلألأت السعادة علي شفاهها :
- انت هتبقي راجل زي وائل و هافضل جمبي و مش هتسبني زي ما عمل ابوك..انا هحميك منهم و هقدر اهرب بيك بعيد..اي فرصة هتجيلي همسك فيها و اختفي عن العالم..انا عمري ما حسيت بخوف قد انهاردة..بس انا مش خايفة عليا يا يونس قد ما خايفة عليك
و تابعت بحزن :
- انا بشيل احمال عمري ما اقدر اتحملها..وائل طول عمره كان سندي مهما كان بيحصل مكنش ليا ملجأ غيره، تعرف انا ا..
صمتت بفزع حين سمعت صوت صفوت يليه صوت رجل عجوز، انتصبت في خوف و كتمت انفاسها تسمع ما يقولان في هدوء، توجهت صوب نافذة صغيرة ذراعيها مضمومتان و مغلقة باحكام، رأت ضي بسيط استطاعت اسناد رأسها اليه و التحديق في تركيز..
تقدم اسلام السعدني الي صفوت و وقف امامه بهيبته الضخمة، ضيق حدقتيه و تساءل :
- ماتت ؟
اسرع صفوت مضطربا :
- اه..اه قتلناها
- كلاب جايين يتنططوا عليا،،اهي راحت لحبيب القلب
واصل صفوت مؤكدا :
- متخفش يا اسلام بيه..معدتش موجودة
ليقول اسلام بحمود :
- تمام..
كان رجلا طويلا، شعره اجعد رمادي اللون، وجهه ممتلئ بتجاعيد من اسفل عينيه و من جانب شفاتيه، عينيه حادة تري من خلالها قوة شخصيته، جسده يتعاكس مع سنه، فجسده رشيق نحيل، يقف كشجرة استوائية امام رياح عنيفة..
- انا هسافر ايطاليا..و هتابع الشغل من هناك
قالها صفوت بارتباك، طالت فترة صمت بينهما فقاطعه اسلام :
- ايطاليا ! نخلص الشغل الي هنا الاول و بعدين تسافر
- يوم الاتنين هتوصل بضاعة السلاح لأسيوط في عربية خضار هروح اسيوط و اسافر.
- انا لازم اتأكد بنفسي من الاوراق و السلاح
قالها اشلاك ثم ربت علي كتف صفوت و اعطاة ابتسامة اطمئنان، فبادره صفوت البسمة..
تابعتهما في ترقب و هي تحاول كتمان انفاسها، لكن خانتها تلك الشهقة القوية حينما هجم رجال اسلام علي صفوت و كبلوا حركاته، اقترب اسلام في هدوء، و لكمه منفعلا صرخ صفوت بصوت عال، زاد ارتباك حنين، سأله اسلام بعنف قاس :
- بتستغفلني و هي لسة عايشة..انطق هي فين ؟
ابتلع صفوت ريقه و تردد بالقول :
- صدقني قتلتها بأيديا..
- شكلك مش هتكلم بالذوق..روقه
قالها اسلام حازما، فأنقض رجال اسلام علي العصفور الصغير، لم تستطع كبت بكاء خوفها ان يحدث لها ما حدث لصفوت المسكين -في رأيها انه "مسكين"-، هل سيقتلوها ؟ و طفلها ماذا سيحدث له ؟ بالتأكيد لا..لن تقتل علي يد جبناء خائفين من فصح ما عرفته و فضحهم..
تسامع صوت بكاء انوثي أتيٍ من مكان ليس ببعيد، فصرخ اسلام بحشاة :
- هاتوها من جوة..
ليبادره صفوت خائفا :
- لا لا..هي لا
ظلت تتظر حولها في ذعر، سيأتون بها، كشف امرها اسلام السعدني ذاك الوغد !
سمعت تلاطم و لكمات و ضربات و رصاص من خارج الغرفة المظلمة، ما بها الغرفة المظلمة علي الاقل ستأويها من انيابهم، كيف سمحت لنفسها بأن تسخر من تلك الغرفة ؟
فجأة وجدت رجل ملثم يدخل اليها، كان عريضا طويلا، لا مفر من الهرب اذن، اطلقت صرخة لكنه كتمها بضخامة كفه و رمقها غاضبا قائلا بضيق:
-هسسس
و اسرع بسحبها من الغرفة و ركض بها الي المطبخ ليخرج من بوابة خارجية سرية، و يجري بها مبتعدا تماما عن اسلام و رجاله الضخام، لاحظت في ضوء الشمس اختلاف ثيابه عن بقية رجال اسلام السعدني، و انه لم يتركها له، من هذا ؟
سمعت من بعيد نبرة خشونية تحادث اسلام السعدني :
- محدش موجود يا فندم في القصر..
تلفتت الي من انقذها و اخرجها من ابقصر في سرية تامة، تملصت بيدها منه و قالت بتربك :
- انت مين و عاوز مني اية ؟
شعر ان صوتها سيلفت انتباهة الجميع، فأخرج مسدسا و ضربه علي مؤخرة رأسها، ظلت تنظر اليه في صدمة و جفون عينيها ترتعش في اضطراب، حملها علي ذراعيه و لم تشعر بشيء اخر و غطت في حياة مظلمة..
***
مازالت غارقة في ظلمة قاتمة، تلفت حولها حين استفاقت من فقدان وعي ليس بطويل، انفاسها لمستها الرجفة و قلبها مستغيث بنبضات قوية، اسرعت بالقيام من الفراش قبل ان تتعثر بشيء ما علي الارض..اخر ما رأته صفوت غارقا في دماءه ربما مات و ربما حي، و اسلام السعدني ثائرا من عدم وجودها و ذاك المنقذ المجهول الذي ضربها بحرفة علي مؤخرة رأسها لتفقد وعيها في ثوان و تبقي بين ذراعيه الضخام..
تحسست حائط الغرفة حتي وجدت مقبض الباب فأسرعت بفتحه، تسلل لعيونها نور قوي، فاقتربت في خفة من صالة ملأها نبرة رجل رقيقة و انثي تتحدث في غنج، اطلت برأسها في ارتعاب، انقشع وجهها مصدوما وقتما رأته و انزلق لسانها بصيحة :
- رامي..
وثب رامي سعيدا و اقترب ممسكا بأيديها قائلا بسعادة بادت علي ملامح وجهه :
- فوقتي يا حنين؟ انتِ كويسة؟ محتاجة تأكلي؟ تحبي تطمني علي اهلك؟
- بس يا رامي بطل اسئلة..البنت وشها مخطوف
قالتها فتاة سمراء، جالسة فوق اريكة كشفت ساقها لامعة السمار من رداء زهري مثير، تماطيت بخطاها نحو حنين في بسمة ناعمة :
- تعالي اقعدي
اسندتها علي مقعد، لتجلس حنين تحت حالة ذهول ظلت عينيها تتلألأ في فزع، قالت بتلعثم و صدرها يعلو و يهبط :
- اسلام..اسلام عاوز يقتلني زي ما قتل وائل
حرص رامي علي طمئنتها بصوت المسرور :
- لا لا اطمني من النقطة دية..عمرهم ما هيوصلولك هنا..
- انت الي جبتني علي هنا..؟ انت عرفت منين انهم خاطفني ؟
تساءلت مستسفرة، فاستدرك بثقة :
- وائل بعد ما اتقتل، بدأت اراقب تحركاتك خوفت عليكي لينتقموا منك كمان..انتِ امانة وائل عليا..وائل قبل ما يموت كان موصيني عليكي.
و قبل ان يتابع، قاطعته صائحة :
- يونس..يونس ! حصله حاجة..ابني بخير
لترد السمراء :
- متقلقيش يا حنين..الدكتور قال ان الجنين في وضع كويس.
ترددت نظرها بين الفتاة السمراء و بين رامي، حاولت ان تتعرف علي ذلك الوجه البشوش ذو ابتسامة خلابة و غمازة رقيقة، تذكرت مسرعة صورتها بفستان زفاف بجانب رامي في بذة سوداء، قال رامي مسرعا و هو يبسط راحته تجاة السمراء :
- خديجة مراتي
منحتها ابتسامة مرتبكة و قالت بقلق :
- انتِ متأكدة انه بخير
اماءت خديجة رأسها بثقة، فالتفتت حنين برأسها الي رامي الذي تابع قوله حازما :
- دلوقتي عشان نتأكد من حمايتك لازم تسافري برة مؤقتا..علي الاقل لحد ما ينتهي صراع اسلام..
- و اهلي ؟
- في نور عنيا..في حراسة مشددة عليهم و مستحيل يحصلهم اي اذي..ثقِ في
و تابع في انهماك و قد نهض من مجلسه ملتقطا اوراق عريضة و جواز سفر اخضر :
- دة باسبورك لتركيا..السفر يوم الاحد..
تساءلت مستفهمة :
- انهاردة اية ؟
اجابتها خديجة :
- انهاردة الجمعة
فترددت حنين و قالت بنبرة مفعمة بريبة و خوف :
- انا خايفة اسافر لوحدي..اسلام عرف اني لسة عايشة هيقتلني زي ما قتل وائل
شددت قبضته علي يدها مطمئنا :
- متخفيش
تذمرت خديجة متظاهرة الحنق:
- كفاية بقي السيرة دية انا بدأت اخاف..
و تابعت ببشاشة :
- تتغدي يا حنين
هزت رأسها نافية في لطف و ود، و قالت :
- لا مصدعة
و وضعت يدها علي مؤخرة رأسها :
- راسي لسة وجعاني..جوزك ضربني جامد علي راسي
ليصطنع رامي الخجل :
- اسف يا حنين
ضحكت خديجة ساخرة و قامت من مجلسهما، برزت بطن خديجة الكبير لتستدرك حنين مسرعة انها حامل مثلها، ايضا !
استدارت مسرعة الي رامي و حدجت عينيها في استهزاء :
- هي دية الي بتخونها يا ا..
كتم بكفه فوها قبل ان تهل عليه بالسباب و الشتائم و قال هامسا بمزاح :
- الستر يا حنين..دة انا زي اخوكي
عقدت قرون عينيها :
- هعديها دلوقتي بس تأكد اني هقولها..
وثبت واقفة علي ساقيها الضعاف و لامست بيدها الحائط لتستند عليه، فقد عاودها ألالم الرأس، دخلت الغرفة بعدما تعالي تصفيق الباب بقوة اثر عنفها في اغلاقه.
ارتمت فوق فراش هاش، ذاك الفراش الذي احتوي احتضانها مع وائل يوما، آه ذكريات مؤلمة.
اين انت يا وائل ؟
اين لذة العناق ؟
اين قبلة الوداع ؟
اين انت عزيزي ؟
لم فررت من احضاني ؟
كيف تركتني خسة وحيدة ؟
ارملة، حمقاء، سذجاء، خائفة
هذه انا سواك !
اين انت يا وائل ؟
اعتصر قلبها حزنا و اغرورقت اعينها بدموع بكماء، تنهدت بقوة و اغلقت اعينها الزرقاء كمحاولة فاشلة لنوم..
رن صوتا بأذنها " يوم الاتنين هتوصل بضاعة السلاح لأسيوط في عربية خضار"، و كأن افعي لدغتها فأقفزتها من مكانها مهرولة من الحجرة الي رامي، لم تبال بالسجاد و تعثرها اقدامها فوقه او ذاك الجورب الملقي علي الارض، او الطاولة الحاجز، ركضت مسرعة غير عابئة بشيء سوا قول صفوت، ذاك الدليل سينهي الكابوس بشكل تام، ستعيش بسلام بعدها، سترعرع في احضان الامان بعيدا عن حكاية اسلام اخيرا !
بحثت بعينيها عن رامي فلم تجده بالصالة كما كان، فتقدمت الي المطبخ علي عجلة و وقفت علي اعتاب الباب لاهثة و قلب يكاد ينخلع من اقفاصه من كثرة الارتجاف، تفاجئت برامي يقبل جبين خديجة و يهمس بخفوت بشيء من السعادة و الضحكة تبتهج علي وجهها كان باطن كفه يلامس تدوير بطنها بنعومة و فرح حقيقي توهج بعينيه، ضحكت بحرج كما بكيت بأسي من داخلها، ألن تنعم بهذا الشعور مع وائل، ألن يركع بأذنه علي بطنها و يلامسه في رقة مستمعا لشقاوة طفلهما، ثم يترك قبلته الرقيقة فوق سرتها و يحادث الصغير في حب..
تنهدت بقوة و تراجعت الي الخلف في اضطراب، ليلحظ رامي وجودها فأعتدل واقفا و تلفت اليها باسما :
- حنين..تعالي تعالي
تقدمت بقدميها في سرعة بطيئة، و ما ان وقفت مقابله لتقول بارتباك :
- انا..انا لازم اقولك حاجة ضروري
ركز في كلامها باهتمام منتبها كما حدقت بها خديجة بشغف، فأتجج لسانها مرتبكا و اخذت تقص عليهما ما حدث و ما سمعت، لتعلو الدهشة وجهه، فيما رفعت خديجة احدي حاجبيها الرفيعان و قالت شاردة :
- رامي انت لازم تبلغ بالكلام دة..
فاتلفت رامي بنظره الي حنين و قال مؤكدا :
- لازم نبلغ..!
*
*
*
يتبع ناقص حلقة