9- تشاندرا غوبتا

172 7 1
                                    

على ضفاف نهر رائق، لا يهدر ولا يتباطأ، فرش "جانا" عباءته وأجلس "بياركا" إلى جواره بلطفٍ آسِر. وقفت العصافير تراقبهما بينما تشدو بأنغامها فتنثني الشجر من عذب أناشيدها.

«حسناً، هل أنتِ مستعدة لسماع مفاجأة؟»

«مفاجأة؟! ما هي؟»

«وجدت عملاً في بلاط الإمبراطور يُخول لي أن أكون المسئول الأوحد عن حدادة الدروع والأسلحة الخاصة بجلالته.»

إبتهجت "بياركا" لسماع ذلك، لكن البهجة لم تستغرق وقتاً طويلاً.

تابع: «ولقد إستأذنته في عطلة كي أزور أمي.»

أراد التلاعب بمشاعرها مزاحاً. لم يكن يستطيع قراءة ما يدور في خلد "بياركا" هذه اللحظة... غمر الوجع قلبها وأحست بأنها منسية وبعيدة عن ذاكرته، وربما لولا أنها إصطدمت بطريقه ما كانت رأته ولا حتى علمت بعودته. لم يكن ذلك الشعور غيرة من أمه، وإنما كانت تطمع في أن يكون لها نصيباً، ولو بالقليل، من إهتماماته.

بدا أن ملامحها أثرت بشكلٍ جعله يمتعض من نفسه فقرر أن يكمل قائلاً: «وأن أراكِ، وأتمتع بنسيان نفسي وهجر دنياي لأجل النظر في وجهك.»

عندئذ شعرت بأن الحياة دبت في روحها من جديد. وندمت على فكرها الخائن عندما ظنت به السوء.

لامس كتفه كتفها في ود. كانت الشمس تتبختر بأشعتها فوق المرج الفسيح. والروض، ذلك المكان الذي يجتمع إليه الماء فيكثر نبته، قد إزدان بالماء كما إزدان بالورود والأزهار الجميلة المختلفة الألوان، وبدت كأنها نقوداً معدنية قد تناثرت على ضفاف هذا النهر.

أمسك يدها الناعمة ورفعها ليضمها إلى صدره، ثم إستلقى على الحشيش وظِل أوراق الشجر ينعكس ماشياً على بشرته قائلاً: «تمنيت لو أعيش الدهر برفقتك كما نفعل الآن. أنتِ من يسمعني ويزيح عن كاهلي عبأ المتاعب والهموم.»

كأنها إمتلكت الدنيا بملأ يديها وهي لا تخفي أبصارها الشاغفة عن وجهه لتملأ عيونها كفاية منه حتى تشبع، ولن تشبع. أراحت رأسها على وِسع صدره سائلة: «ولماذا لم تخبرني قبل أن تسافر؟ لقد تقطعت أوصالي حين علِمت برحيلك المفاجيء، وبقيت كالزهرة الباهتة، تتساقط بتلاتها الواحدة تلو الأخرى يوماً بعد يوم.»

داعب أصابع يدها ثم أخذ يُمسد على شعرها: «لقد جاء موعد السفر فجأة، ولم أشأ أن أصيبك بالحزن، فأنا لا أطيق رؤية الدموع في عينيكِ يا حبيبتي.»

رفعت رأسها على الفور، وبدت مشدوهة: «حبيبتك؟!»

نهض بصدره جالساً، لم يتخلى عن يدها، مُضيفاً بإبتسامة مؤكدة: «وزوجتي»

خالجها شعورٌ بالسعادة الغامرة، تحولت طفلة تلعب وتقفز بين الأشجار، وتمنت لو تسبح في النهر لتتمايل وسط الأسماك الملتمعة بألوانها الزاهية. راحت تقطف الزهور وضحكتها تُعبأ الأجواء نغماً سكتت لأجله الطيور عن شدوها لتنعم بطرب تغريدها. تفتحت الزهور المقفلة وإنبعثت الحياة في الأغصان الهذيلة المتدلية، في حين تتبع إثرها وصار الحبيب خلفها مُغازلاً، يداعب مشاعرها، فيبدوان كطفلين عاشقين يصبوان بصدورٍ مُقبلة على الدنيا، على الحياة بحلوها ومرها، غير مبالين بالغد وما يحمله من غيبٍ لم يكن في الحسبان.

ملوك قبل الميلاد (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن