أيقنتُ بك
~~~
بين قلبِكَ و عقلِكَ..
أيهما تختار؟
~~~
(قمر)
راقبت البنايات و هي تخطف أمام عينَيّ من نافذة السيارة.. بعضها بقاماتٍ قصيرة تسمح لي بإلقاء نظرة على شكلها الهندسي و أخرى عالية تحرمني من رؤية قمتها من مكاني.. بيروت.. إحدى المدن التي كانت زيارتها في لائحة أحلامي الوردية.. زيارتها و ليس العيش فيها, كما هو الحال الآن.. الشغف الذي كنت أعيشه و أنا أحلم بها لا أثر له الآن.. حتى مراقبتي للشوارع أقوم بها من داعي الملل, لألا يكون ظهر كرسي والدتي هو منظري الوحيد.. ما زالت والدتي تتحدث الى خالي بلا توقف, و يشاركهما في حديثهما المذياع.. لا أفهم لمَ لا يطفئوه كي يكفوا عن رفع أصواتهم بهذا الشكل.. و لا أفهم لمَ المذياع يتحدث بالعراقية و نحن في لبنان..
داعبت سحاب حقيبتي الصغيرة و أنا أتابع مراقبة الشوارع.. نظيفة.. أرض الأسفلت ما زالت تلمع بماء المطر الذي لم تجففه الشمس بعد.. أكاد أشم رائحته.. رائحة المطر على الأرض.. أخذني المنظر لذكريات تجمعني بأخي.. لأيامٍ كنا نلعب في ساحة بيتنا تحت هطول الأمطار.. غير مدركين لما أعده لنا المستقبل.. أي فاجعة قد مهدها لنا.. بلعت ريقي و رحت أحرك السحاب بسرعة أكبر.. حولت تركيزي لحديث خالي لأبتعد عن الذكريات التي لا تزورني إلا لتزيد من عذابي..
ـ صاحبة الروضة صديقة زوجتي و بنية كلش حبابه, متأكد راح ترتاحين وياهم لا تشيلين همقالت والدتي مع تنهيدة: إن شاء الله, زين جامعة قمر شلونها؟ بعيدة قريبة؟
ـ مو هواي بعيدة بس مو مال مشي, باجر اني أوصلها الى أن تتعلم على المواصلات و تندل
ثم رفع رأسه قليلاً لينظر لي من المرآة الصغيرة في الأعلى و أبتسم: الجامعة جداً راقية راح تتمنين تعيشين بيها مو بس تدرسين
هل من المفترض أن أبتسم مجاملة؟.. عذراً خالي, إبتسمتَ للشخص الخاطئ.. إكتفيت بالإيماء برأسي و عدت لأنظر من النافذة.. مرت من أمامي لافتة كُتب عليها "الحمراء", من ما يعني أننا وصلنا الى المنطقة التي سنسكن فيها.. أغلقت سحاب حقيبتي للمرة الأخيرة و سحبت نفساً إستعداداً للقائي الأول مع حياتي الجديدة.. دخل خالي في فرع جانبي تحيط به بنايات سكنية عالية يميل لونها الى الأصفر و تزينها شرفات مستديرة و مغلفة بنوافذ زجاجية..
ما هي إلا ثواني و إذا بخالي يوقف السيارة أمام واحدة من تلك البنايات و يقول:ـ وصلنه, إنتظرني يم المدخل على ما أنزل الجنط
نزل هو أولاً, ثم والدتي, فتبعتها على مهلي, من غير الشعور بأدنى لهفة لرؤية منطقتي الجديدة أو منزلي الجديد.. لكني أخذت نظرة خاطفة و أنا أسير مع والدتي الى بوابة الدخول الزجاجية.. لا أنكر أن المكان جميل, و الزرع الذي يحيط بالبنايات يزيده جمالاً, لكنه لم يحرك شيئاً في داخلي.. ربما لأن ما بداخلي مات؟.. دخلنا مع خالي فأخذت عنه حقيبتي لأخفف من الحمل عنه ثم صعدنا الى الطابق الثالث حيث تقع شقتنا.. كانت شقة متوسطة الحجم بغرفتَيّ نوم, غرفة جلوس و حمام و مطبخ.. لم تكن بوسع منزلنا في بغداد بغرفه الأربع لكنها كانت مناسبة لنا.. فنحن لم نعد عائلة ذات أربع اشخاص, بل شخصين فقط..
حالما أشار خالي للغرفة المخصصة لي تركته هو و أمي يكملان تفحصهما للشقة و أغلقت باب غرفتي عليّ.. كانت شديدة البساطة بخزانة عريضة بيضاء و سرير واسع أبيض كلون الغطاء و الواسادات.. حتى الستائر القصيرة بيضاء.. لكنها تحمل نقشة لزهور صفراء ناعمة.. تركت حقيبة سفري عند الجدار و سرت بتثاقل الى السرير لألقي بنفسي عليه مخفية و جهي في الوسادة الناعمة.. تسللت رائحة مسحوق الغسيل الى أنفي و جعلت جسدي يسترخي لهدوء عطره.. و أخيراً هدأت الأصوات.. لا صوت أمي.. لا خالي.. و لا المذياع الذي لم يكف عن الثرثرة.. لقد تسببوا لي بصداع بعد أن إعتدت الخلوة و السكون.. لكن راحتي لم تدوم.. لأن والدتي دخلت عليّ بعد لحظات لتعاتبني..