الشعاع الأول

1K 54 11
                                    

" تتساقط أمطار الشتاء و أحس بها تلامس ملابسي بينما أمشي في منتصف الطريق .. الناس من حولي يتحامون من المطر بالجدران و المباني ، أما أنا فلا أهتم .. أسير كالقطار لا أغير اتجاهي و الأمطار تتساقط علي نظّاراتي و هذا الأمر هو فقط ما يستوقفني لأمسحها و استكمل .. طريق طويل للمنزل لكنني أمشيه حتي تتورم قدماي من المشي وعندها استوقف سيارة أجرة تأخذ من ذلك المكان الذي أميزه كل مرة بذلك الكُشك الصغير إلي المنزل مبلغ زهيد
ليس منزلاً كبيراً إنه فقط بمثابة شقة في عمارة .. تلك الشقة العتيقة التي عهدت العيش فيها منذ المدرسة الإعدادية .. وصلت إليها و التعب و الإجهاد يقتلانني تمددت فوق كراسي الريسيبشن الموجودة في تلك الصالة الواسعة لكنها أحياناً تضيق بي إلي حد الإختناق و نظرت إلي تلك الجدران القديمة التي تحمل صور الموتي عليها .. آخر الراحلين كان رياض الأخ الأكبر و الوحيد الذي بخل علي نفسه بزوجة و أطفال ليسبقه الزمن و يضعه مع الراحلين
تباً لتلك الحياة المملة التي أعيشها فأنا قادم إليهم و أحمل معي إنتهاء نسلهم المحدود ..
رغم كوني في بداية حياتي إلي حد ما فهم يقيسون تلك البداية بمقدرتك علي أن تعول نفسك وهنا يرجع الفضل لرياض لأنه هو من وجد لي تلك الوظيفة في وقت شحّت في الوظائف .. لكنني الآن يا أخي لا أملك رفاهية العائلة التي لم أكن أقدر قيمتها في صغري ، ولم يتبقي لي سوي ذيل من تلك العائلة يعيشون في القرية التي نشأ أبي فيها .. لا أذكرهم ولا يذكرونني إلا في الجنازات
تلك هي اللحظة التي بدأت فيها برؤية الكابوس .. و أسوأ ما في الأحلام هو أنك تنسي كيف استغرقك النوم و كيف بدأ الحلم .. لكنني كنت كما لو كنت مستيقظاً
حينما رأيت الدماء تسيل علي الأرض كأن هناك من يسكبها .. تبلل الفرش و تأتي من تلك الغرفة .. غرفة رياض حيث المكتب الذي لا أستخدمه و مكتبة رياض التي لم أفتح يوماً إحدي كتبها و تلك الكراكيب و الصناديق
فزعت و هرعت إليها و فتحت بابها لأجد الدماء تسيل من الدرج الأخير في المكتب .. قدمت إلي ذلك الدرج لأفتحه فأحسست بحركة خلفي زادتني فزعاً
لقد استيقظت من النوم أتلفت حولي و أنظر إلي الأرض لأتأكد أنه كان حلماً .. وقفت و تقدمت إلي تلك الغرفة القديمة .. دخلت و توجهت إلي المكتب لأفتح ذلك الدرج الأخير
إنها تلك العلبة الصغيرة .. تحمل في داخلها آخر ما تبقي لي من رياض .. عينه الصناعية ..
رياض أخي .. كان لديه شيء ميزه قبل موته بقليل هو ذلك السرطان الذي أصابه في عينه فأخذها .. منذ ٨٠ سنة وهم يتنبئون بأن المستقبل سيحمل تطوراً طبياً يشبه الخيال العلمي و في النهاية لم يستطيعوا حتي في الولايات المتحدة الأمريكية زراعة عين كاملة أو إختراع عين صناعية بديلة تستطيع الرؤية .. فقط عيون صناعية تجميلية و مصمتة
حملوها إلي بعد موته في حادث سيارة و هو في طريقه للمطار إلي مصر
..
هناك أشخاص ناجحون و أشخاص ليسو ناجحين .. أشخاص كتب في أقدارهم أن يكونو أبطالاً .. تسرد الروايات دائماً قصصهم ، مثل ذلك الشخص الذي يفوز بالفتاة في الأفلام أو ذلك الآخر الذي ينقذ العالم .. أشخاص مثل رياض أخي ، درس الفيزياء الحيوية و كان من المميزين في دفعته و سافر إلي ألمانيا و منها إلي أمريكا .. جرياً وراء الأبحاث العلمية ، و لكنه مات في ذلك الحادث و تركني وحيداً .. أنا الشخص الذي لا يكون في الروايات و القصص بطلاً .. ذلك الممثل الثانوي الذي لا يميزه أحد
.. رغم أنه كان بعيداً عني إلا أنه كان دائماً حاضراً معي إلي أن غادر و تركني منذ عام .. أول عام لي في تلك الوظيفة في شركة البرمجيات .. هو من وجد لي ذلك العمل أمن حياتي وغادر و ترك لي ذكري باقية خلفه و هي عينه الصناعية التي كان يضعها .. وضعتها في تلك العلبة و أقفلت تلك الغرفة حتي تعملقت فيها خيوط العنكبوت .. جلست علي المكتب ولم أبالي بالعفار و التراب و وضعت تلك العلبة الصغيرة أمامي و فتحتها لأنظر لعين رياض أخي
و لساني يسأل .. ماذا تريد يا رياض .. لازلت لا تريد مشاركتي أسرارك ..
لماذا الآن ذلك الكابوس و أنت راحل منذ عام لم أنساك فيه بضع سويعات
أغلقت العلبة و تركتها علي المكتب حيث أصابني ذلك الصداع الذي جعل عيني تدمع ، أغلقتهما و عندما فتحت عينيّ .. للحظة أُصبت بشيء من العمي في عيني اليسرى ..
الفزع .. عندما تنبت تلك الفكرة الشائكة في دماغك .. إنها ثواني بسيطة زال فيها تأثير الصداع علي عيني و أستعدت الرؤية و تنفست الصعداء لكن ذلك أنبت في دماغي الخوف من الإصابة بما أصاب عين أخي .. تلك الفكرة التي سيطرت علي دماغي عندما قمت لأحضر كوب من القهوة في المطبخ لعله يزيل ذلك الصداع المُقيت .

آخر شعاع من الضوءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن