الفصل الثاني عشر

577 31 68
                                    

كان ممددًا على فراش وثير، سكن بعضا من آلام ظهره الذي شبت فيه الحرائق، بعد نوبة ضرب جديدة من جلاده، بعدما قال "لا" في وجهه، معاندًا سلطته معلنًا رغبته في الالتحاق بالجامعة، كانت هذه المرة التي لا يعرف كم عددها بعد عدد المرات التي خالف فيها العمدة، ووقف بوجهه، لكن هذه المرة كانت أكثرهم تمردًا وعنادًا، بعد أول مرة سلخ ظهره السوط في أول ليلة تسبق مكوثه بالقصر، حينها كان إصراره على قول اسمه لا إراديا، أما اليوم فإصراره وعناده كان عن عمد !

عندما كان صغيرًا تعلّم أن يقول "نعم"، ولا يعارض أبدًا ولم يكن بيده سوى الطاعة، حينها علم أن والديه قد وافقا على استخراج شهادة وفاة له ل"موسى نصر الدين"مقابل مبلغ مادي، دفعه لهم العمدة صاحب السلطة والطغيان لكي يستولي على ابنهم ويستخرج له شهادة ميلاد أخرى باسمٍ مغايرٍ، ويكون فيها الأب العمدة"علوي صالح"!!

أما هو فلم يكن للعمدة الابن الذي أراده، لم يكن الابن المطيع الذي تمنى أن يكون ذراعه اليمنى، وخليفته في المظالم، بل كان شوكةً في حلقهِ، ولعنة تمرده أشعلت غضب العمدة، فصار دائم السخط عليه. أما هو فقد توقفت رغبته في طاعته، هذا مستقبله الذي يريد أن يحرمه منه، ألا يكفي كل ما قد حرم منه؟ ألا تكفي طفولته التي حرم منها ووالديه، وهويته ، وأصدقائه ألم يكفه كل هذا، حتى يطال جبروته مستقبله أيضا؟

أثناء شروده الباكي، سمع صرير باب حجرته يفتح ببطء فأغمض عينيه كأنه يغط في النوم، لكنه أرهف السمع لتلك الخطوات التي تقدمت نحو فراشه، واقتربت منه جالسه، ثم سمع همسًا رقيقًا يناديه:
- "موسى" … "موسى" استيقظ يا بني.
أبواه تخليا عنه، فصار يتيمًا وهما حيان، وأبوه على الورق أبعد ما يكون عن الرأفة والحنان لكي يأتي إليه فجرًا فيهمس إليه ب"بني" وموقظا إياه، إضافة لذلك لن يناديه أبدًا ب"موسى"، الذي مات فمن يوقظ اﻵن ميتًا، أماتوه بجبروتٍ وهو على قيدِ الحياة؟

أدار رأسه ليرى مناديه على بصيص ضوء انبعث من أنوار حديقة القصر إلى داخل غرفته المظلمة، فوقعت عيناه على ملامح أبيه الحقيقي، ورغم تخليه عنه إلا أنه اشتاق إليه، اشتاق ضمته إلى صدره، وحنوه عليه، منذ سنين افتقد هذا الحنان والاحتواء، وهذا الوجه الحبيب افتقد أن يكون بهذا القرب.
سقطت دموعه على وجهه متتابعة، وسريعة، فما كان من أبيه إلا أن بكى هو اﻵخر وضم رأسه إلى صدره في أسف وألم.

وبعد أن هدأت نوبة البكاء نظر له "موسى" مستفهمًا عن سببِ وجودهِ في حجرتهِ، فمسح أبوه وجهه المتغضّن من آثار الدموع، وهو يقول بهمسٍ ويمدّ يده إليه بلفافةٍ من القماش بداخلها رِزَم من النقود :
- خذ هذه واهرب يا "بني" اهرب وأكمل تعليمك بالمدينة، أنت حصلت على مجموع عالي، أريدك أن تكون طبيبا يا ولدي، هذه الأموال التي دفعها العمدة لنا مقابل تخلّينا عنك، ويقوم هو بأخذك، سامحني يا بني لقد جبنت من الوقوف في وجهه، كان سيشرّدنا أنا وأمك وأختك، وكان سيحصل عليك في النهاية، جبروته ليس له حدود، وأنت تعرف ذلك.

رواية أشواك الحب "للكاتبة/ فايزة ضياء العشري" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن