الفصل الثامن

19.2K 400 12
                                    

جلس هاشم بجوار جدته حول المائدة الصغيرة المستديرة في حديقة القصر ليتناولا طعام الإفطار ، بثت نظراته رغماً عنه عن يارا ولما لم يرها رفض بإصرار أن يسأل عنها ، لكن التساؤلات كانت تتوالى في دماغه عنها وهو ينتظر وصول الطعام ، شعر بالغضب وهو يفكر أنها خرجت دو أن تخبره .. صحيح أنه مر عامان على اتفاق عملهما ، لكن الشرط مازال قائماً! يجب أن يعلم بغدوّها وقدومها !
انتشله صوت جدته من أفكاره وهي تسأل :
- وين سوزان عنّك ؟ ما بدها تفطر؟
جلى حنجرته بامتعاض وهو يجيب بصوت عملي :
- سوزان بعدها نايمة !
الشهقة التي صدرت عن جدته كان يتوقعها ، لأنها إمرأة نشيطة منذ صباها ، وسألته بدهشة :
- الساعة صارت عشرة ونص وبعدها نايمة ؟
شدّ على شفتيه وهو يخبرها بصراحة كي ينهي هذا الموضوع الذي يضايقه بشدة :
- سوزان ما بتقوم قبل الساعة وحدة وإذا بكّرت بتصحى على 12 !
انتهت جملته وهو يشاهد القوام الممشوق في كنزة كريمية من الشيفون فوق قميص قطني من ذات اللون على بنطال بني تتخلله مشحات من لون بني أفتح قليلاً ، أما شعرها القاتل فكان محرراً في استدارة متدرجة حول وجهها ، كانت تبتسم بإشراق وهي تقترب منهما وتتبعها الخادمة تجر عربة طعام الإفطار لم ترتفع عيناه عنها رغم شرارات التحذير التي تلمع في دماغه ، ورغماً عنه تشكلت صورتان في رأسه إحداهما لإمرأة بصورة باهتة لكن دائماً في أبهى حلة ، تغفو في أوقات وجوده في المنزل ولا يهمها إلا رشاقة قوامها وتسلية نفسها ، وأخرى لإمرأة تضج حياة منتعشة الصباح دئمة الابتسام مثقفة وتعيش لإسعاد غيرها ، قادرة على إشعار من أمامها أنه الأهم في حياتها ولو حتى بأبسط الكلمات وأرق الإيماءات ، كانت الجدة تقول شيئاً لم يكد يسمعه ، لولا أنه أجبر نفسه أن يخرج من حالة التنويم المغناطيسي التي تصيبه كلما تأملها .. يا الله كم أعجبته وهي ضعيفة وكم تغريه وهي قوية !
كانت الجدة تقول :
- الله يسلملي هالإيدين ، يمّة هاشم هذا الفطور من عمل إيدين يارا طول ما نحنا بأميركا وهي كانت تطبخ كل شي لإنو الخدامات هناك بعرفوش يعملوا طبخ أردني ، ويارا الله يرضى عليها ست بيت مقدّرة ، أبوك كان يطلب منها معظم الطبخات.. ما إنت عارفو المسكين ما حدا فاضي يطبخله وصرله سنين بيوكل زي الأمريكان .. بس يارا الله يرضى عليها فشتله قلبه !
ابتسمت لها يارا وهي تقول بابتسامة ذهبت يعقله :
- يا رافعة معنوياتي إنت يا غالية ، ما كله كان بإرشاداتك ، لولا إنك كنت معي خطوة بخطوة ولا ماعرفت أطبخ شي !
التفتت إلى هاشم بعفوية وهي تضحك من قلبها على نفسها وتقول :
- أوّل مرة عملت فيها رز الله لا يورجيك كيف طلع .. تقول مهلبية أو رز بحليب ..
أغرقت في الضحك وهي تردف :
- استغفر الله ، اضطريت أرميه قبل ما حدا يذوقه .. لإنه وصمة عار ..
قاطعتها الجدة وهي تضحك :
- الله يجازيك يا يارا أنا نازلة مدح فيك وإنت خربت على حالك ... بس والله يا هاشم بتعمل منسف بياخد العقل!
كانت يارا تضع أطباق الإفطار على المائدة وهي تقول للجدة :
- الحمدلله هون في طباخ ، مش مضطرة أخوض تجارب بتحطم الأعصاب !
وبصوت رخيم هادئ جاءها السؤال :
- يعني ما بدك تدوقينا طبخك ؟؟!
انمحت الابتسامة عن وجهها وهي تقول بعفوية :
- البركة بأصحاب البيت وطباخينه !
وصلته الرسالة بوضوح ، لكن إن كانت تعتقد أن سوزان قد تدخل المطبخ لأي سبب من الأسباب فهي مخطئة ، امتنع عن الإجابة وهو يتأمل الأطباق أمامه والمكونة من الفطور العربي التقليدي ، طبق من البيض والبطاطا وطبق آخر من العجّة ( البيض مع البقدونس والبصل ) ، وجد نفسه يرفع حاجبيه تعجباً وهو يقول بانبهار :
- شو هالفطور البلدي هاد ؟؟!! والله .. زمااان عن هيك فطور .. الله يرحم أيام فطورك يا جدة!
ابتسمت له الجدة وهي تقول له :
- تتذكر يا هاشم أيام الفطور البلدي إلي كنت أمده كل يوم ، بدل هالخبز الناشف والططلي ( المربى ) إلي بتوكله..
وضعت يارا طبق لبنة وهي تقول :
- هاي سلطة لبنة بكون فيها لبنة طبعاً وورق زعتر أخضر طازة وشوية بندورة وزيت زيتون!
لمّا رأت حماسه لمكوناتها وهو يتأملها بإعجاب ، أضافت ببراءة كي تزيد إقناعه بها :
- ناصر كان يموت عليها !
الطريقة التي ارتفعت عينا هاشم نحوها بعدما انمحت ابتسامته فجأة ورمقها بنظرة نارية أرسلت رجفة إلى ركبتيها ، بادلته النظر بحيرة وهي لا تعرف ما الذي قالته كي يغضب إلى هذه الدرجة ، وبترفع قال لها من طرف شفتيه :
- شيليها من وجهي ، ما بحب الزعتر الأخضر !
رمشت بعينيها عدة مرات وهي تبعد الطبق من أمامه كما أمر ، وعقلها يعمل بلا انقطاع كي تعرف أين أخطأت ، تناولت إبريق الشاي وبدأت بسكبه في الأكواب قبل أن تجلس فس مقعدها!
كان يتناول الطعام باستمتاع ، بينما كانت تتساءل في نفسها أين زوجته العتيدة عنه ؟ أما الجدة فكانت غارقة في أفكارها ، هكذا خمّنت يارا وهي تراها تنظر إلى هاشم بحب شديد وقد غشى الحزن عينيها!
كان قلب الجدة يتآكل على هاشم وهي تدقق النظر في ملامحه المرهقة ، من عينيه الذهبيتين اللتين اختفى البريق منهما ، إلى عظام وجهه النافرة بدليل واضح على فقدانه للوزن ، وصولاً لشفتيه اللتين غادرتهما الابتسامة النابعة من القلب والتي كانت تسرق قلبها! تذكرت قبل حوالي ثلاثة أعوام ، عندما كانت في الولايات المتحدة ، وقبل عودتها إلى عمّان وتعرفها إلى يارا ، كان هاشم السبب الرئيسي وراء إصرارها لتعود ، عندما رأته يوطد علاقته بسوزان الفتاة التي بدت لها نسخة أكثر لؤماً وبروداً وعنجهيةً من نسرين زوجة فيصل ، إن كانت نسرين بسذاجتها قتلت روح فيصل المحبة للمرح ، فما الذي ستفعله هذه الفتاة الأمريكية الطباع الغربية التصرفات بهاشم حفيدها الأحب إلى قلبها.
غشت الدموع عينيها وهي تستعيد ذلك الشعور الذي انتابها وهي ترى العائلتان تزيدان علاقاتهما الاجتماعية معاً والسبب واضح .. هاشم وسوزان! جن جنونها في ذلك الحين وأصرت أن تعود إلى عمّان علها رأت فتاة تليق زوجة بحفيدها ، فتاة تجعله ملكاً ، تحي فيه ما مات من عزائمه ، فتاة تحيل صحراء هاشم جنةً تسكنها وحدها ... فتاة مثل ... يارا !
كانت الأمور تسير كما تريد بقدوم هاشم إلى عمّان قبل حدوث أي تطور حقيقي بينه وبين سوزان ، لذلك عملت جهدها أن تعلقه بيارا ، وضعتها في طريقة بكل الطرق الممكنة مهما كانت مستحيلة ، ونجحت في توريطه بعقد قرانه عليها ... لكنها نسيت كم هو عنيد ... حتى فاجأها بزواجه من سوزان رغم ارتباطه بيارا !
انقطعت أفكارها وهو يلتفت إليه ويسألها باهتمام :
- وين رحت يمة وتركتيني ؟؟ ما بدك تاكلي معي ؟
أمسكت الجدة بقطعة من الخبز وهي تغمسها بطبق اللبنة والزعتر الأخضر وتقول بمرح :
- رح آكل بس إذا بتدوق سلطة اللبنة إلي بتعملها يارا ..
وضعت اللقمة في فمه قبل أن يتمكن من الاعتراض ، ورغماً عنه كان يتلذذ بمزيج لذيذ من نكهات حامضة وحادة ، ارتفعت نظراته نحو جدته الضاحكة وهي تقول :
- بعرف إنك ما بتكره الزعتر الأخضر مثل ما حكيت ، لويش بتكسر بخاطر البنت ؟
ابتسم بدهاء وهو يقول وعيناه تتجول على ملامح يارا :
- بركي كنت بدي إياها هي تطعميني اللقمة !
ضحكت الجدة وهي تصدر صوت استنكار منحنجرتها أتبعته بقولها :
- يييي هو مفكر إنت لحالك هيك نفسك ؟؟ ألف مين تمنى يارا اتطعميه بس ولا واحد طال هالنعمة .. لويش إنت بدك تطولها ؟؟ روح للنايمة إلي فوق وقولها قومي طعميني !
أغرقت يارا بالضحك رغماً عنها ، خاصة وهي ترى مزيج الصدمة والغضب والقهر والغيظ على وجه هاشم ، كان يحلل المغزى من قول الجدة ( ألف مين تمنى .. ) ، لكنه عندما سمع ضحكة يارا الصادرة من الأعماق غزاها بعينيها وهو يشعر أن صوتها يداعب أوتاراً حساسة في جسده .. يا لهذا الإغراء .. لديها بحة ناعمة جداً تجعله يتخيلها وهي تهمس باسمه مجدداً في أذنه ، لكن المشكلة أن الهمس كان بداية ما يفكر فيه ليتحول الصوت إلى همسات أخرى في عقله أكثر دفئاً وأشد تأثيراً وأعمق معناً والمصيبة أن الخيالات وحدها تحيي فيه أحاسيساً لم يعرفها طوال عام زواجه الفائت!
التفتت إليه يارا وهي في مزاج للمزاح وقالت بذلك الصوت الناعم وبلهجتها الشامية التي أذابته البارحة :
- كيف لقيت كسر السفرة معنا ابن عمي ؟ إن شالله تكون عَجِبْتَك ؟ أي والله والله لو كنت قايل إنك رح تفطر معنا كان قومت الدنيا وما قعدتها كرمالك ! شو كم مرة رح يشرفني ابن عمي ويفطر معي ؟
ما إن أنهت جملتها حتى أغرقت بالضحك مع الجدة التي كانت تضحك منذ بدأت يارا الكلام ، بينما هاشم كان مستلذاً بسماع صوتها ومراقبة التواءات شفتيها بدلع .. والأهم كلماتها التي طربت لها أذنيه !
وقف وهو ينظر إليها بخبث ويقول بابتسامة ملتوية فيم بدا مستمتعاً بالدور الذي تلعبه باتقان :
- خلص ورجينا شو بدك تعملي من اليوم وطالع .. رح أفطر معكم كل يوم !
شعرت بالخجل رغماً عنها من طريقة تحديقه ، كانت عيناه تشعرها أنه سيلتهمها هي كل صباح ! وأكمل مخاطباً جدته:
- لازم أروح هلأ عندي محاضرة ، صحيح عمتي منى رح تيجي تقضي اليوم معك هي وهيا!
مال يقبل يد جدته ورأسها قبل أن يستقيم ويرسل ليارا نظرة مستعرة وهو يسألها بغمزة أحرجتها :
- شو مابدك توصلي ابن عمك للباب ؟!!
أبعدت عينيها عنه بإحراج وهي تقول :
- اعتبرني لسا نايمة !
ارتفع أحد حاجبيه باستنكار وترها ، خاصة وهو يقول بإصرار :
- بقول قومي ! بدي أحكي معك كلمتين !
وقفت وهي تسأله بقهر :
- وليش ما تقولهم هون أدام الجدة ؟؟
أرسل إليها نظرة أخرى أكثر غضباً وهو يقول :
- لإني مستعجل وبدي أحكي معك بطريقي للسيارة !
تدخلت الجدة وهي تقول ليارا :
- يمة روحي معه .. هو بده يوكلك ؟
مشت يارا أمامه متأففة فيم ابتسم هو بانتصار وهو يفكر .. يالله كم هي دقيقة جدته في انتقاء كلماتها ، لكنها لم تعلم كم كان فعلاً قريباً من التهام هذه الحلوى اللذيذة التي اسمها يارا .. وفي لقمة واحدة فقط !

سلسلة النشامى /الجزء الأول /  جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن