الفصل الثاني

18.7K 401 20
                                    

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة ليلاً عندما دخلت يارا لغرفتها الخاصة في قصر الشرفاء ، كان رأسها يعصف عصفاً بالأفكار بعد حديثها الطويل مع الجدة اليوم ، هاشم حاكم قلب هذه السيدة المسنة بلا منازع ربما تحبه أكثر مما أحبت أبناءها وترى فيه الفارس الذي سيحقق أحلام وأماني جدته التي لم تتمكن هي من جعلها واقعاً ، فيصل هو والد هاشم ، متزوج من نسرين والدة هاشم فتاة كان والدها من علية المجتمع الأردني ، كانت مناسبة اجتماعياً للزواج من فيصل ، لكنهما كانا متباعدين في التفكير والاهتمامات مما خلق بينهما هوة سحيقة لم يبد أي منهما واعياً لوجودها حتى .. هي سيدة مجتمع راقية تعنى بكل التطورات في عالم الملابس والمجوهرات والحفلات النسائية الصباحية والمسائية ، بينما فيصل رجل أعمال مثقف يرى في عالم الاقتصاد وسيلة يحاول من خلالها محاكاة التطور الأمريكي مع الأردني ، غاية شريفة في قلبه الشريف أن يرقى لأعلى مستويات التطور والتقدم في بلاده الحبيبة ، لديهما ابن وابنة هما هاشم وسارة ... هاشم البكر عمره يتجاوز الثلاثين بعامين وسارة تصغره بخمسة أعوام ... سارة فتاة تشبه والدتها لكنها تأثرت بتربية والدها المثقف ... صارت النتيجة مزيج من الاهتمامات النسائية الفارغة وأفكاراً ذات مبادئ راسخة .. صورة مشوشة عن الأب والأم ... أما هاشم .. المتمرد كما تسميه جدته فهو نسيج وحده ينتقد والدته بصمت ولايتقبل لأحد سواه أن يفعل المثل يريد أن يراها الجميع بعين الكمال ... ومعجب بوالده رغم عدم اقتناعه بـ " جديته الشديدة " في التصرف مع بعض الأمور .. لفيصل أخٌ واحد وأختٌ واحدة .. أخوه معه في الولايات المتحدة أما أخته منى فهي متزوجة وتقيم في الأردن مع عائلتها وتزور والدتها كل يومين تقريباً... تعرفت عليها يارا وأحبتها فعلاً لأنها تشبه والدتها إلى حدٍ بعيد .. لقد أحسنت السيدة المسنة تربية ابنتها وجعلتها مثالاً يحتذى به من سيدات المجتمع الأردني المحترمات.
الشعور الذي خرجت به يارا بعد هذه المحادثة هو النظرة العميقة الحكيمة الفاهمة والواعية لكل مايحدث أمامها التي تتمتع بها السيدة نوزت " الجدة " ... فقدرتها على تحليل شخصية كل من أبنائها وأحفادها جعلتها تزداد تقديراً واحتراماً لهذه المرأة القديرة قولاً وفعلاً .. لايخفى على يارا أنها صارحتها بأسرار عائلية لكنها أوحت لها خلال الحديث أنها على يقين من أن يارا لن تفشي هذه لأسرار حتى لنفسها ... لكن ما أبهر يارا فعلاً أن السيدة المسنة رأتها من الداخل كما لم يفعل أحدٌ من قبل .. رأت المعدن الذهبي النفيس الذي يشكل قلب هذه الممرضة الشابة وهي الوحيدة التي ثمنت الجوهر الماسي الذي تغلف به ممرضتها كل ما تقوم به من قولٍ أو فعل ... كانت فتاة ً لو وضعت في الإطار الصحيح وأعطيت الإمكانات اللازمة لهزت قلوب أكثر لرجال تعنتاً وتمرداً ... وتجبراً ..
أجفلت يارا في جلستها وهي تسمع الطرق المتكرر على باب غرفتها ، هبط قلبها خوفاً وترقباً وهي تضع حجابها الذي أنزلته قبل قليل على كتفيها محررة شعرها الكستنائي الطويل ، شدت حجابها جيداً وهي تفتح طرف باب غرفتها ، تنفست الصعداء وهي ترى الخادمة الفلبينية ، فتحت الباب أكثر وهي تقول :
- الجدة بدها إشي ؟
ابتسمت لها الخادمة وهي تقول بلغتها العربيةا الرديئة :
- لأ .. بس في هاشم بيك ... تقول تعالي مكتب تحت .. هو بده يشوف إنت
عادت ضربات قلبها تقرع كما الطبول وهي تقول بصوت حاولت جهدها أن تسيطر عليه:
- إحكيله بس دقيقتين وبكون عنده .
أغلقت الباب واستندت بضعف عليه فيما ضربات تكاد تطير بقفصها الصدري ، تذكرت بضبابية صوته قبل يومين وهو يقول أنه سيجلس معها كي يتفاهما حول الإجازات والدوام .. يالله أين أنت يا سيد فيصل ؟؟ مالذي يفعله ابنك هنا ؟؟ تحركت بعزيمة متراخية كي ترتدي أول قميص طويل للركبة مع بنطال أسود يتلاءم معه ووضعت حجاب القطعتين ، قبل أن تفتح الباب وتتجه نحو الطابق السفلي وهي تحاول أن تتكهن أين يمكن للمكتب أن يكون !
طرقت الباب مرتين قبل أن تفتحه ببطئ وهي تدخل رأسها كي ترى إن كانت هذه هي غرفة المكتب ، فلقد مرت على غرفتين قبلها ولم تكونا سوا غرفة الطعام .. وغرفة الجلوس الصباحية ، قبل أن تستوعب عيناها أن ما تنظر إليه هو غرفة مكتب ، جاءها الصوت الرجولي المميز بخشونته المخيفة وهو يقول باستهزاء :
- الواحد بدق الباب وبيستنى يسمع إذن بالدخول ... بس شو بدنا نعمل بلي ما بيعرف بالأصول !!
زمت شفتيها وهي تفتح الباب أكثر وتنصب قامتها وهي تقول بصوت عذب متجاهلة كلماته :
- حضرتك طلبت مني آجيلك عالمكتب ؟!
لمحت شعلة نارية تلمع في عينيه الذهبيتين لتجاهلها له .. لكنه تمالك انفعالاته و تجاهلها كما تجاهلته وهو يشد على أسنانه ويدور حول المكتب كي يجلس خلفه على كرسيه المريح ... وصمت للحظات وهي تقف لاتعرف ماذا يتوقع منها أن تفعل ، وبترفع سألها وعيناه لا تغادران وجهها :
- كم عمرك ؟؟
رأت ملفها على مكتبه ، وعرفت أنه يعرف تماماً كم عمرها .. وليس عمرها فقط .. لابد أنه يعرف سيرة حياتها الشخصية والعملية أوشكت أن تفصح له عن أفكارها لكنها قررت أن تلعب لعبته خاصة وهي ترى عينيه تحيدان عن وجهها لتحطا على الملف المستقر على سطح مكتبه لأن عينيها كانتا تتجولان على مسطحه الأبيض ، أجابته بهدوء وثقة وهي تدخل أكثر إلى المكتب لكنها لم تتقدم سوى خطوتين كي لا تسمح له أن يعاتبها ويهينها من جديد :
- كمان شهرين بكمّل 23 سنة !
بلهجة عملية رسمية سألها من جديد :
- يعني صرلك متخرجة بس سنة وحدة !
أومأت برأسها موافقة ولما رأت نظرته الشيطانية إليها وهي تعيد إيماءاتها الصباحية قبل يومين أضافت بهدوء:
- مزبوط تخرجت السنة الماضية !
عقد يديه في حجره وهو يجلس بأريحية في كرسيه الكبير ويقول بموضوعية :
- بس نحنا طالبين خبرة 3 سنوات ! وإنت هيك خبرتك سنة وحدة
أجابته بإيجاز :
- لأ معي خبرة 3 سنوات والمستشفى وقعتلي على شهادة الخبرة !
صار يجلس بشكل موارب في كرسيه الدوار الذي جعلها تواجه جانب وجهه الرجولي الشديد الصلابة و.... الوسامة وتساءلت في نفسها ، رجل كهذا يعيش في بلاد متحررة ذات علاقات مفتوحة ترى كم عدد النساء اللواتي قفزن إلى سريره وهن يصرخن من الفرح والسعادة ، شعرت بالعار من أفكارها الخائنة .. إلى متى ستبقى على هذه العادة بتحليل الشخصيات وتأملها وتخيّل شكل حياتها !! نظر إليها من زاوية عينه في الوقت الذي شعرت هي وكأنه ضبطها بالجرم المشهود وهي تحشر رأسها بخصوصيات حياته العاطفية ، ودون سابق إنذار شعرت بوجنتيها تتوهجان ارتباكاً ، لقد منّ الله على الإنسان بنعمة خصوصية الأفكار فلا أحد يمكنه التكهن بما كانت تفكر به منذ لحظات ، لكن احمرار وجهها التلقائي عندما ترتبك حرمها من التمتع بهذه النعمة ، فلاشك أن احمرارها فضح شيئاً من ارتباكها و تشوّش أفكارها ، ظهرت تقطيبة سريعة شبيهة بتلك التي تكونت على جبينه لما رأى احمرارها مسبقاً ، وبالسرعة ذاتها اختفت وهو يحدجها بنظرات قوية وهو يسأل :
- يعني كنت تشتغلي وإنت بتدرسي !
ببحة خفيفة أجابت وهي لاتستغني عن الإيماءة المصاحبة :
- نعم اشتغلت آخر سنتين من دراستي !
استعاد جلسته الصحيحة في كرسيه وصار يواجهها وعادت نظراته إلى وجهها بتركيز عميق، واختار هذه المرة أن يسألها بنبرة ألطف :
- متى توفى أبوكِ ؟
لم تستطع أن تمنع الرجفة التي أصابتها وهي ترفع عيناها إلى عينيه بعدم تصديق وماعلاقة وفاة والدها بأي شيء يخصه ، كانت عيناها كبركتين من العسل الخالص تشتعلان بغضب وقهر ، أجابته بصوت مهتز :
- سيد هاشم أنا مو شايفة إنو وفاة بابا إلها أي .....
قاطعها وهو يستعيد نظرة التكبر والترفع :
- هاشم بيك !
اضيقت عيناها بعدم فهم وهي تسأل هامسة :
- عفوا ً ؟؟
أجابها بذات اللهجة :
- ناديني هاشم بيك ... وبتجاوبي عالأسئلة بدون أي نقاش .. مش ناقصني أوجع راسي فيك !
شعرت بإهانة حقيقية ، لماذا يعاملها كخادمة؟؟ صحيح أنها مستخدمة لديه لكنها ممرضة .. أي أنها الساعد الأيمن للطبيب الذي يقام له ويقعد في أرجاء المعمورة ، ليس من حقه أن يذلها بأسلوبه المترفع الذي يعاملها به ، ليتها فقط تستطيع أن ترمي وظيفته في وجهه وتخبره أنه يمكنه أن يذهب إلى الجحيم بجميع أسئلته لأنها بكل بساطة لاتشعر بالرغبة في الإجابة عن أي منها ، كانت إنفعالاتها تتصاعد مع أفكارها وظهر ذلك بوضوح على وجهها الذي كان هو مستمتعاً بمراقبة تغيراته وتدريجاته اللونية حسب انفعالها ، كان يتسلى بإغاظتها وتحجيمها وإشعارها أنها لاشيء .. شيء ما فيها يجعله راغباً بتحطيم رأسها المرفوع عالياً ، لكنها لن تكون يوماً نداً له سيعمل يومياً على تذكيرها بذلك بأبشع الطرق ، شعر من تنفسها السريع أنها على وشك أن تصرخ فيه وتمنى ذلك بجنون كي يطردها شر طردة دون أن يعذبه ضميره بشأن جدته ، لكن التبدل الذي أصاب ملامحها من قمة الغضب إلى اللين ثم التسامح فالهدوء جعله يصاب بخيبة أمل ، كانت تستعيد ذكرى الجدة التي أحبتها وتعلقت كل منهما بالأخرى ، لن تفسد هذا التواصل الروحي بينهما بسبب حفيدها المغرور ، الذي يحتاج إلى علقة ساخنة على هذا الوجه المصعّر للناس ..
بهدوء شديد فاجأها بقدر ما فاجأه أجابت :
- بابا توفى من تسع سنين !
لم تظهر أي علامات للتعزية أو المواساة على وجهه ولكنه أكمل استجوابه :
- أخوك أصغر منك بسنتين !
هذه المرة شهقت بصوتٍ مرتفع ، من أين له بهذا الكم من المعلومات فاجأها وهو يكمل :
- وهو حالياً ببريطانيا بشتغل وبيدرس طب ، صرله هناك 3 سنوات!
ازدردت ريقها توتراً وهي تراه يعرف تفاصيل كثيرة عن حياتها ، ترى أيخطط لتحطيمها ؟ أم أنه فقط يحاول أن يشعرها بأنها محاصرة ولا يمكنها أن تؤذي الجدة في حال كانت مجرمة أو ما شابه ! شعرت بوجهها يغادره الدم وهي توقن أنها دخلت بين أفراد عائلة أكبر مما يمكنها أن تتحمل ، لقد خطت نحو السجن بقدميها وهي تقفز سعادة أيضاً.... أتراها أساءت لنفسها ولعائلتها بهذه الخطوة ، تركت عملاً مستقراً في أفضل مستشفيات الأردن كي تعمل بشكل خاص مع عائلة أحد أفرادها فيه مس من الجنون !
لم تعي أن نظرة الرعب التي على وجهها كانت تثير حزن جلمودٍ صخري، لذلك وجد نفسه مكرهاً أن يقول بصوتٍ يخلو من أي لطف :
- هاي مجرد إجراءات روتينية بعملها مع أي حدا بتوظف عندي !
لم تستطع أن تخمّن إن كان يطمئنها بكلماته هذه أم يثير سخطها أكثر فأكثر ، كانت تشعر وكأنها مجرد حشرة في الهواء لا حول لها ولا قوة أمام هذا التنين الذي ينفث ألسنة من نار كلما تكلم معها ! كانت تائهة في النظر إليه وهو يغادر كرسيه كي يقف أمامها مما جعلها تشعر بالتضاؤل أكثر من ذي قبل ، خاصة وهي تجد نفسها مضطرة أن ترفع وجهها نحوه كي تبقي نظراتها على وجهه كما يفعل هو معها ، علها خففت من شعورها بالضعف في مواجهته ، لكن الفراغ الساكن خلف الذهب المشتعل في عينيه أنبأها أن لا شيء في هذا العالم يثير اهتمام هذا الرجل ، لاشيء على الإطلاق يرغب به أو يريده بشدة ، الحياة بالنسبة له مجرد أهداف صغيرة يضعها نصب عينيه ثم لا يلبث أن يحصل عليها وبسهولة جمّة ، كما قالت عنه الجدة تماماً ( حدا بصدق إنو شب متل الوردة زي هاشم قلبه عبارة عن صحرا .. هاشم يا يارا قلبه مو بس صحرا إلا صحرا جردى ) وفكرت يارا بصمت صحراء قاحلة .. وفوراً قفز إلى دماغها النسائي الألمعي تساؤل خائن صغير ... ترى كيف تكون واحاتها لهذه الصحراء القاحلة ؟؟؟ ربما أشبه بالجنّة !!
تنبهت فجأة أنها تائهة في عينيه وكل منهما لم يرف له جفن وهو يغوص في أعماق الآخر من خلال بحار نظراتهما المتلاطمة.. شعرت بخجل شديد وهي تدرك أنها كانت تحدق به متأملة كل تدرج لوني في قزحيتي عينيه وهي تائهة بينهما في أفكارها الرومانسية الحالمة ، لقد أغلقت باب قلبها منذ وفاة والدها وتجبُّرِ عمها بهم وقررت أن تكون شخصية متفردة لا تخضع لرجل ، تلاهت عن كل الرومانسيات التي تداعب أذهان المراهقات بدفن نفسها بالدراسة كي تكون الطبيبة التي تفخر بها عائلتها لكن الحالة المادية السيئة بعد موت والدها جعلتها غير قادرة على دراسة الطب رغم ارتفاع معدل علاماتها المئوي في الثانوية العامة لذلك اختارت التمريض كي تكون أقرب ما يمكن للأطباء!
غزاها الاحمرار وهي تشعر بنظراته تتباطأ على شفتيها الورديتان المزمومتان برقة نتيجة أفكارها ، إنها قريبة جداً منه لدرجة لامست فيها أنفاسه الدافئة وجهها ، و يا لها من أنفاس عطرة لابد أنه غير مدخن !!
حركت رأسها يمنة ويسرة فها هي تعود مجدداً للغوص في تفاصيل هذا الرجل الشريف الأصل البربري التصرفات، في الوقت الذي يخطط هو لمسحها عن وجه الأرض ، يبدو واضحاً للعيان أن تعلّق جدته بها قد أثار حفيظته لأبعد الحدود ، جلت حنجرتها كي تقول بعدما نحّت بوجهها بعيداً عنه :
- حضرتك بدك شي تاني مني ولا خلص أروح ؟
الابتسامة الصفراء المقيتة والمتسلية نبأتها أنه شعر بارتباكها وكان سعيداً به ، يا الله كم يستطيع أن يغضبها بسهولة، إيماءات بسيطة في وجهه قادرة على إشعال فتيل غضبها وقهرها ، سمعته يقول من وراء ظهره وهو يعود إلى مكتبه كي يجلس خلفه :
- لسّا بدنا نتفاهم على الإجازات !
أومأت برأسها بنعم وهي تفكر ألن يدعوها للجلوس ؟؟ كفاه لؤماً ! فهي لن تفسح له المجال لتوبيخها مجدداً إن هي جلست دون إذن فلقد باتت متأكدة من أنه ينتظر منها الهفوة كي يشعرها أنها لاشيء، ارتفعت عيناه نحوها بلامبالاة وسألها بصوت فارغ:
- بدك تبقي وافقة ؟
تمتمت بـ " شكراً " وهي تجلس على إحدى الأرائك الموجودة أمام مكتبه الفخم ، وفوراً قال :
- شوعلاقة عمك فيكم ؟!
ذكره لعمّها جلب الألم لنظراتها والقهر لفؤادها ، إنه لايستحق أن يقال عنه " عم " ، ولا ترغب أبداً بالحديث عنه مع هذا الغريب الذي لم تره عيناها قبل يومين مضيا ، زمت شفتيها وهي تلوذ بالصمت دون أن تعطيه إجابة في الوقت الذي لم تجرؤ فيه على الاعتراض على سؤاله من جديد .. عاد يلح بسؤال جديد :
- قديش بتعطيه من راتبك ؟؟
التفتت نحوه كالرصاصة وهي تشعر برغبة بدائية في الانقضاض عليه بأظافرها ولكماتها لكنها بقيت شبه فاغرة فاها وهي تتأمله وعيناها تلمع بدموع فاجأتها لكنها لا تبكي .. لا تبكي أبداً ، حافظت على رباطة جأشها والتقطيبة المتسائلة تزداد انعقاداً على حاجبيها ، وبابتسامة ملتوية ماعاد قادراً على إخفائها وهو يرى كيف يتلاعب بأعصابها بسهولة شديدة أردف :
- بتتفاجأي من كَم المعلومات إلي أهالي الحي بمنطقتك ممكن يعطوها لصاحب سيارة نمرتها حكومية !
هذه المرة اختارت الوقوف وهي تشهق صارخة تقريباً :
- رحت عالحارة عنا؟؟؟؟
اعتلت وجهه نظرة مشمئزة وهو يجيبها :
- يعني فكرك كتير مبسوط عالروحة على هيك حارة ... عجال سيارتي بدهم دعك لسنة حتى ينظفوا ، بس مكره أخاك لا بطل مضطر أروح أسأل عن وحدة قاعدة بوجه جدتي ونازلة نفخ براسها !
عند هذه النقطة بالذات انفجرت يارا في وجهه بصوت يفيض قرفاً ، ربما يفوق قرفه واشمئزازه بمراحل :
- بتعرف إنو عيب عليك تحكي عن جدتك بهالطريقة ؟؟ شو مفكرها بنت صغيرة لحتى أعبي راسها ؟؟ مهي ست بتسوى عشر رجال عندها حكمة لو توزعت على الوطن العربي كان نحنا لسا بخير ، وفكرك هي مو عارفة إنكم هيك بتعاملوها ؟؟؟ ومو متضايقة إنكم بتاخدوها على قد عقلها وماحد بيجي عندها ولا بيحكي معها إلا بتروحوا بتجيبوا خبر جد جده ، والله المخ إلي براسها بيوزن بلد ، والتفكير إلي بتفكره أكبر عاقل ما بفكر متله ، خلص عيب دبحتوها من كتر ما بتعاملوها كإنها مريضة وهي ولا مالها شي ، بتعرف إنو صحة جدتك متل الفل ؟؟ وكل إلي عندها شوية ضغط وسكري و روماتيزم زيها زي أي واحد كبير بالسن ، كل واحد فيكم عايش حياته بالطول وبالعرض وشو مابده بعمل وبسوّي ولما يسمح وقتكم بتسرقوا خمس دقايق بتمروا فيها على جدتكم وبتنسوها باقي اليوم ... مستكترين عليها تطلب تيجي على بلدها ، ومستكترين عليها تحكي مع ممرضتها ولاتضرب صحبة معها ، بدكم إياها متل الروبوت .. بتاكل وبتشرب وبتنام وبس .. الحق عليها إلي حاملة همكم من أكبركم لأصغركم ، وليل نهار لسانها بيترضى عليكم وبيدعيلكم كل إلي بتفكر فيه بس كيف تفتح عيونكم لتصحوا من غفلتكم ... أبوك إلي رح يموّت حاله بالشغل لإنه قلبه مات من زمان ولا إمك إلي كل يوم من كوافير لمطعم ولا حفلة فاشن ، ولا أختك سارة إلي يوم بتكون متل أبوك وهمها الشغل ويوم بتكون متل إمك بتقضيه بالسوق بس بين الفساتين والمكياجات ، ولا إنت ... !!
عند هذه الكلمة تنبهت يارا إلى الكم الهائل من الأسرار الذي أفشته لهاشم والتي كانت الجدة قد ائتمنتها عليهم ، حجم عينيه المفتوحتين ذهولاً وإنصاتاً أنبأها أن ما قالته أصابه بصدمةٍ حقيقية ، والأدهى من ذلك أنه سألها بصوت أبح :
- أنا شو ؟؟؟
هذه المرة كان الدور عليها لتفتح عينيها ذهولا، وبتردد قالت وهي ترتجف خوفاً مما فعلت :
- أنـ.. أنا مش من حقّي إني أطلع كل هالأسرار إلي أمنتني عليهم الجدة ، أنـ...
كانت مرتبكة لم تعرف ماذا تقول وهو كان يتأملها الآن بتركيز شديد وكأنه يفكر ماذا عليه أن يفعل بها ، أيعدمها شنقاً أم رمياً بالرصاص .. قد يختار أن يخنقها بيديه المجردتين !! سحبت نفساً مرتجفاً وهي تشعر بانقلاب في معدتها من شدة توترها ، فيما ركبتيها تحولتا إلى هلامٍ غير قادر على حمل ثقل جسدها الرشيق ، شعرت بالخزي والعار والخسارة .. لأنها خسرت وظيفتها بلاشك وهذا سيخب ظن الجدة فيها ... يا الله ما الذي فعلته لتوّها ؟؟ أضافت كي تقطع الصمت :
- أنا آسفة علّي حكيته ، بس وجع الجدة وهي بتحكيلي خلاني نفسي أوصل وجعها لواحد فيكم ، قلبها كل يوم بينعصر شوق إلكم وخوف عليكم وأنا مو قادرة أعمل شي لأساعدها ، يمكن إلي حكيته مش من حقي إني أحكيه ، بس أ..
قاطعها صوته هادراً بغضبٍ أسود :
- طبعاً مش من حقك !!
أكملت بدورها قبل أن يقول شيئاً جديد وبقوة مشابهة لصوته :
- قلتلك بعرف إنو مش من حقي ، بس أنا مش ندمانة .. لإني نفسي أساعدها ، نفسي ألفت نظركم إلها وهاي كانت الطريقة الوحيدة لإيمتى كل واحد فيكم محتفظ بمشاعره لنفسه ومابحكيها للتاني ، أنا عارفة إنك بتحب جدتك وبتموت فيها كمان ، بس يمكن لازم تترجم أحاسيسك لتصرفات تفرح قلبها !!
بقي صامتاً وهو يغيب في عالمٍ آخر ، فيم دعكت هي كفيها الرطبان ببعضهما وأضافت بصوت مرتجف :
- بعرف إني خسرت وظيفتي بإلي حكيته ، وبعرف كمان إنك رح تحرمني أتوظف بأي مستشفى بالأردن لتدفعني تمن وقاحتي بنظرك .. بس مع هيك معلش .. الساكت عن الحق شيطان أخرس.. يمكن رح أنام الليلة بدون وظيفة .. بس على الأقل قلبي مرتاح عالجدة لإني عارفة إنك مارح تقصر معها بعد ماعرفت مشاعرها !
مشت مبتعدة وهي تتجه نحو الباب وعقلها يدور في دوامات سريعة، من أين لها الثقة به ؟ لماذا تشعر أنه فعلاً لن يخذل جدته بعد الآن ؟؟ ألهذه الدرجة تأثرت بأحاديث الجدة عن أبنائها وأحفادها حتى صارت قادرة على التنبؤ بتصرفاتهم ، أم أن شخصية هاشم بالذات توحي للمتعامل معها أنه صاحب أخلاق عالية وإن كان متوحشاً في تصرفاته ، فتحت الباب وهي تكاد تقع مغشياً عليها عندما تذكرت أنّ عليها أن تصعد لغرفتها كي تلملم حاجيتها القليلة وتعود إلى منزلها إلى الأبد دون وظيفة تسد جوعها هي ووالدتها وتنأى بمخالب عمها وابن عمها عنهما !! شعرت بدوار وهي تتخيل المشهد الذي يمكن أن يحدث عندما يعرف عمها أنها تركت عملها في المستشفى وعملت لشهر واحد في منزل عائلة قبل أن يرموا بها إلى الشارع ، هذا العم الحقير التصرفات بأفكاره القذرة والدنيئة والتي تطال من حوله دون أي اعتبار لصلة قرابة تجمعهما بالدم !
فتحت الباب وشعرت بالامتنان للهواء الذي لفحها قادماً من البهو فلقد أجبرها على التنفس بالطريقة الصحيحة لوقف الشعور بالدوخة الذي كان يصيبها ، لكن اليد التي سحبتها من خلفها إلى غرفة المكتب وهو يغلق الباب بعنف فاجأتها ، و لفّها بخشونة كي تواجهه وهو يقول :
- كم مرة بدي أحكيلك تعلمي كيف تحكي مع أسيادك وأصحاب الفضل عليك ؟؟ حضرتك نزلت بهدلة بالعيلة كلها من أكبر راس فينا لأصغر واحد فينا وبعدين ساحبة حالك وبدك تروحي ... ماشاء الله أميرة من أميرات البلاط الملكي عشان تحكي إلي بدك إياه وتعملي إلي بدك إياه !!
شدت على شفتيها وهي تشعر بالهلع والخوف من غضبه السادي ، إذ كان يمسك ذراعيها بقبضتيه وهو يهزها بين فينة وأخرى أثناء كلامه معها ، أخفضت رأسها قليلاً كي تخفف من حدة نظراته المنصبة عليها ولاذت بالصمت علّها تنقل إليه العدوى ، أفلتها فوراً بعد كلماته الملتهبة وابتعد عنها قليلاً وهو يمرر أنامله في شعره بحركة فضحت توتره الشديد مما قالته له ، مضت بضع لحظات مرت على يارا وكأنها عقد من الزمان قبل أن يقول هاشم بعد أن استعاد هدوءه :
- الكلام إلي حكيتيه كبير كتير ، والجدة لوحكتلك إياه فمش من حقك تنقليه أو تعيديه حتى لنفسك ..
شدت على شفتيها بقوة وهي تغالب دموعها بالقوة، لن تسمح لقطرة واحدة من عبراتها أن تتهاوى أمامه ، فما يقوله صحيح ... ومعه حق بكل كلمة تفوّه بها ، لقد أخطأت فعلاً ، رفعت رأسها إليه وهي تهمس بصوت متحشرج :
- معك حق .. أنا فعلاً غلطانة بإني عدت كلام الجدة ، هاي أسرار وأنا المفروض أكون مجرد أذن بتسمع بدون لسان يحكي ! وللمرة التانية بقولك أنا آسفة !!
رقّت ملامحها كثيراً وهي تهمس من جديد:
- والله آسفة ، أنا مابحب أكون نقالة للحكي لإني بعرف أديش هالصفة بتعمل مشاكل ، بس أنا والله حكيتلك إلك إنت لإني عارفة قيمتك عند الجدة وقيمة الجدة عندك !!
اقترب منها ببطء مدروس وهو يقدّر اعترافها بذنبها وخطئها بهذه السرعة ، فهو غير معتاد على سماع كلمات الاعتذار ممن حوله ولا هو معتاد على الاعتذار لأحد ، سألها وقد انتابه الفضول :
- طيب وعرفتي قيمتي عند الجدة من كلامها عني ، بس عرفتي قيمتها عندي كيف ؟؟!!
ارتفعت نظراتها نحوه لتتفاجأ به على بعد سنتيمترات قليلة جداً من وجهها. كانت قد عرفت من صوته أنه اقترب منها لكنها كانت لاهية بآلامها وهي تحاول أن تتماسك كي تكمل الحديث معه ، وللمرة الثانية هذه الليلة تتوه العيون ببعضها ، كانت عيناها متألمة تلتمس العذر لذنبها ، بينما كانت عيناه تبحث عن حقيقة هذه الفتاة التي كشّرت عن أنيابها من أجل امرأة لم تكمل معرفتها بها شهر واحد ، كان في عينيها عاطفة متأججة حنان وأمان وتسامح وتفهم ، الكثير الكثير من المشاعر التي ليس لها مكان في حياته ، فتاة لديها الكثير لتعطيه ، هكذا حدثته أفكاره ربما هذا ما رأته الجدة فيها وهي بأمس الحاجة لشخص يعطيها كما تعطي هذه اليارا !!
ارتفع حاجبه بتساؤل صامت وكأنه يعيد سؤاله الذي لم تُجِبْ عليه ، رطبت شفتيها و تفاجأت من نظراته التي تابعت حركتها بتدقيق غريب عنها ويربكها لأبعد حد ، وقالت وهي تشعر بضبابية :
- واضح جداً حبك لجدتك ، وإلي أكدلي هالشي إنك مابدك حدا ينافس مكانتك عندها ، بدك تبقى الوحيد بقلبها والوحيد إلي بونسها !
أطلت من عينيه نظرة استهزاء لأنها تلمح إلى أنه يكرهها ويريد التخلص منها لأنها تنافسه في المكانة عند الجدة ، لكنها لم تعني ذلك ، كانت تعني بشكل عام ، فقد لاحظت في اليومين الفائتين أن هاشم يحب حب جدته له ، وكأنه يجد فيه الملاذ الآمن لكل تصرفاته وأفعاله مهما غالى في سوئها، ووجدت نفسها تقول بتسرع :
- ماكنت بحكي عن حالي !
ارتفع حاجبه هذه المرة استصغاراً وهو يقول :
- أكيد ما بتحكي عن حالك ! ليش مين إنت عشان تنافسيني على أي إشي .. حتى ولو حب الجدة !
ابتلعت يارا الإهانة مكرهة فلم تكن في موقف يسمح لها بالاعتراض على شيء ، مشى عنها كي يفتح لها الباب وهو يقول بغضب كان يحاول جهده أن يتحكم به :
- ومتل ما حكيتي وظيفتك ماعادت إلك ، وأتعابك رح توصلك لآخر قرش ..
هبط قلبها وهي تسير نحو الباب شاعرة أن لسانها قد قضى على مستقبلها المهني إذ جعلها تعبث مع الشخص الخطأ، عندما صارت بجواره همست تسأله دون ان تنظر إليه :
- ممكن لو سمحت أروّح بكرة الصبح لإنو لو دخلت على حارتنا هلأ رح يحكوا علي أشـ ...
قطعت كلامها وهي تشعر أنها تقول له أشياء لا تهمه ولاتعنيه ولا تؤثر عليه ، سحبت نفساً عميقاً وهي تقول :
- خلص مو مشكلة أنا بدبّر حالي !
وأوشكت أن تتجاوزه عندما سمعته يقول لها بهدوء :
- بكرة الصبح بتمري علي في المكتب الساعة 7 عشان أعطيك راتبك ، وبعديها بتروحي!
همست له بكلمة واحدة وهي تشعر بامتنان لظهور الجانب الإنساني لديه :
- شكراً !
لكنه أكمل :
- وبتوقع إنو بحياتك مارح تعيدي الكلام إلي حكيتيه هون أدامي ولاحتى مع حالك ... أي كلمة بسمعها هيك ولا هيك تأكدي ما رح أتغاضى عنها ، ورح تدفعي تمنها غالي ..غالي كتير.... ماشي ؟؟!!
صوته في الكلمة الأخيرة فرقع كالسوط ، سرت قشعريرة في جسدها كاملاً من نبرته وهي تومأ له برعب توافقه على كلامه لكنه أدنى رأسه منها وهو يقول :
- ماسمعت ؟؟؟
وكالطفلة المعاقبة رددت :
- ماشي .. ماشي !
وبترفع استعاد وقفته وهو يلقنها :
- ماشي هاشم بيك !
انطفأ شعاع ما في عينيها وهي تتلقى درساً جديداً في الإهانة والذل ، وبنفس كسيرة رددت بصوت يرتجف ألماً وحزناً وإشفاقاً على الذات :
- ماشي هاشم بيك !
كانت تفعل ما يريد لأنها اعتبرت الطريقة التي صرفها بها لم تكن تعسفية، فلقد توقعت أن ينسفها نسفاً إلا أنه صرفها من عملها فقط.. ناهيك عن مستقبلها المهني بأكمله ..و دون أن تعي ما تفعل التفتت تنظر إليه وهي تقول:
- تصبح على خير !
و هرولت تصعد الدرجات نحو غرفتها وهي تكاد لا ترى أمامها، لقد فعلت اليوم أشياء فظيعة دمرت بصيص الأمل الذي أوشك أن ينير حياتها يا لها من مغفلة !
تأملها هاشم وهي تتعثر عدة مرات أثناء صعودها وقد خالجه إحساس بالذنب لصرفه لها بهذه الطريقة التعسفية ، لكنها قالت الكثير ،تكلمت معه بطريقة لم يسمعها من قبل ولم يتقبلها من بشري قبلها ، جرأتها في التعبير عن أفكارها ألجمته ، لذلك كان من الضروري أن يصرفها .. فوجودها خطر في هذا المنزل .. خاصة عندما تجتمع العائلة في الإجازات !

سلسلة النشامى /الجزء الأول /  جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن