بعد العشاء والسهرة الصغيرة التي تليه ، بدأ الجمع يغادر كلٌ إلى غرفته ، الانسحاب كان بطيئاً وتدريجياً ، لكن يارا لم تشهده لأنها كانت برفقة الجدة في غرفتها حيث كانت أول المغادرين !
بعد أن وضعت الجدة في سريرها وتأكدت من قياساتها وأدويتها ، نظرت إليها الأخيرة وهي تسألها :
- بدك تروحيله ؟!
امتقع وجه يارا ليصبح قرمزياً وقد فهمت تماماً قصد الجدة ، لا بد و أنها شعرت بتفكيرها العميق لذلك خمنت أن هاشم السبب وراء صمتها وتفكيرها ، مع ذلك شعرت بأنها غير متأكدة إن كانت الجدة تعرف تماماً بعرض هاشم لها ، ضمت حاجبيها بتساؤل أجابت عنه الجدة بحنكتها المعتادة :
- هو ما حكالي إشي على فكرة ، بس أنا بعرف إنو بنام بكوخه ولا بيته والله منا عارفة شو بسميه !
عضت يارا طرف شفتها وهي لا تعرف بما تجيبها ، لأنها أصلاً لم تكن قد قررت هل ستذهب أم لا ، سألتها الجدة بهدوء :
- هو طلب منك تروحي ؟!
أومأت يارا بنعم وقد عاد الاحمرار يزحف إلى وجنتيها من الإحراج ، شعرت الجدة أنها تدخلت أكثر مما يجب ، فقالت لها بموضوعية :
- طيب ليش هيك منحرجة من الموضوع ؟؟!! أول عن آخر هاشم زوجك !! وإنت منك إله بتتفاهموا !
ابتسمت لها يارا بارتياح دون أن تتمكن من نطق ولا حتى كلمة واحدة !
غادرت الغرفة وهي تشعر بهم ثقيل على قلبها ، كيف ستذهب إليه في خضم ظروفه المجهولة التي تكلم عنها فيصل قبل أيام قليلة ؟! شعرت بقلبها يتحطم وقد تنازع بين رغبتين ، شوقاً إليه ونفوراً من فكرة تبخيسها لنفسها ، سارت نحو غرفتها المشتركة مع بقية الفتيات ، وهي تخرج هاتفها المحمول من جيبها وبدأت بكتابة رسالة نصية لهاشم ، تعتذر له باقتضاب عن قدومها ..
هاشم الذي كان ينتظرها قرب الاسطبلات ثارت دماؤه غضباً وهو يقرأ رسالتها التي أغاظته بشدة!
**********
دخلت سارة إلى غرفتها الزوجية المجهزة لها ولحازم وهي تشعر أن أعصابها على وشك الانفجار ، لقد انتظرت طويلاً أن يتفاعل ولو بمقدار ضئيل معها دون فائدة ، لقد اعترفت له بحبها ومنحته قلبها و روحها وحتى جسدها على طبق من ذهب ، فما الذي يقف أمام مشاعره الآن ؟ هل خسرت حبه لها ، إن كان نعم فهي لا تحتمل البقاء معه في مكان واحد! نعم .. لا تحتمل أن تقدم له هذا الكم من المشاعر دون أي مقابل ... كما كان هو يفعل من قبل !
شعرت بانفعالاتها تتضخم في صدرها .. ما الذي ينتظره أكثر منها ؟؟ بالنسبة لها فاق ما قدمته له كل تصوراتها ، لم تتوقع يوماً أن يكون لها هذه القدرة على الصبر والعطاء .. فلماذا يقابل هذا المجهود الجبار منها بكل هذا البرود ؟!توجهت إلى الخزانة التي رتبت فيها مستلزماتهما وثيابهما هي وحازم ، وسحبت لنفسها منامة قطنية وفرشاة أسنان بحدة سببها انفعالها ، وأفكارها مازالت تلح عليها بأن صمت حازم غير مقبول أبداً من ناحيتها ، حدجته بنظرة مستعرة من طرف عينها قبل أن تتجه نحو الحمام الخاص - كما في كل غرفة – لتغلق الباب بعنف متعمّد وهي تشعر فجأة أنها على وشك الانفجار!
تأملت عينا حازم الباب الذي أغلقتها سارة لتوّها بعنف وغيظ مكبوت ، هو يفهم تماماً ما تريده منه لكنه يجد نفسه بكل بساطة عاجزاً من منحها مشاعره بالغدق الذي عوّدها عليه سابقاً .. هو يحبها نعم .. ويعشقها ولا يتخيل حياته من دونها نعم أيضاً ... لكنه لم يكن يعرف هل أحبته بعدما خفف من تدفق مشاعره نحوها أم قبل ذلك ؟؟ وهل إن بادلها الحب بالقوة والعمق ذاته سينفرها منه مرة أخرى .. هل أحبته جافاً ؟؟ أم أحبته حنوناً ؟؟!! هل تجد في نفسها القدرة على تحمل التصاقه بها الآن أم ستسميه مرض يقرفها كما قالت من قبل ؟؟!
حتى وإن كانت جميع إجاباتها عن أسئلته السابقة كلها إيجابية .. فهو ما يزال يشعر بتردد كلما أراد أن يقترب منها ويمنحها عواطفاً طال حبسه لها .. مازال كلما اعتقد أنه تجاوز أزمة كبريائه ليقنع نفسه بالاقتراب منها يخفق تماماً في التعبير لها عن حبه بأي طريقة كانت .. إلا عندما يأخذها بين ذراعيه وكأنه يجد في شرعية ما يفعلانه متنفس يخفف به من احتقان حبه الجريح!
خرجت من وقد بدلت ملابسها ، رمته بنظرة أخرى أكثر غضباً من سابقتها ، لكنه كما اعتاد أن يفعل منذ يومين ، أهمل غضبها واتجه إلى الحمام كي يبدل ملابسه ويغسل أسنانه ، وخرج نحو الغرفة وهو يراها تضع وسائد إضافية في وسط السرير وكأنها تصنع حاجزاً بينهما ، ارتفع أحد حاجبيه وهو يرى حالتها تتطور بإتطراد مخيف ، اقترب كي يجلس على جهته من السرير متحاشياً أن يلامس حاجزها الواهن ، وسألها فقط إرضاءً لتوقعاتها :
- لشو هالفاصل هاد ؟!
ارتفع رأسها نحوه وقد التمعت عيناها بعصبية وقالت بغضب :
- عشان أنا مش لعبة ولا جارية ولا من ما ملكت يمينك !! عشان أنا بني آدمة وتحملت كتير وصبرت بس صبري خلص راح !
بقمة الهدوء ودون ان يؤثر انفعالها عليه قيد أنملة سألها :
- صبرت ِ شهرين ونص ومليتي ؟!! وخلص صبرك ومش قادرة تتحملي أكتر ؟!
عرفت تماماً المنحى الذي يتجه إليه بكلماته فقطعت عليه الطريق وتوترها يزداد وصوتها يعلو :
- إنت يا أخي مافي متلك بكل الكون صبرت على هالزوجة الناشز إلي عندك سنة ونص .. غنت جندي مجهول لازم نعملك تمثال .. إنت زوج صالح والله ابتلاك بهالزوجة المجنونة ... خلص ليش متمسك فيني إذا هيك ؟!!
تأملها وهو يرى ما توقعه تماماً منها ، هذه سارة التي تريد كل شيء دفعة واحدة ، هذه سارة التي لا تحتمل مصاعب الحياة معه .. قال لها بهدوئه ذاته في الوقت الذي عضت هي على شفتيها وهي تدرك أنها ظهرت وكأن كل ما فعلته لم يكن إلا بنية التخلص منه :
- هيك كل شي عندك ببساطة .. واحد زائد واحد يساوي تنين ، طب في بالحياة كسور .. مش كل شي بسيط وسهل زي ما بدنا !
وضعت يدها على خصرها وهي تجيبه بلؤم كما أجابها قبل أيام :
- شو شايفلي الحياة كراسة رياضيات .. إحكي معي متل العالم !
وقف حازم وهو يشعر برغبة شديدة في هزها حتى تستيقظ وترى الحياة بمنظارها الصحيح وقال :
- شكلو إنت بدك تطاوشي وتعملي مشكلة بس .. مش هامك توصلي لنتيجة بكلامك !
اتجه نحو البا وهو يشعر بالاختناق من وجوده معها وكل منهما يعزف على نغمة شاذة عن الآخر ، لا يعرف أين سيذهب ولا ماذا سيفعل ، ولم يهمه أنه قد يلفت الأنظار ، كل ما كان يشعر به هو الاختناق .. شعر بيدها على ذراعه وهي تقول بصوت ظهر فيه بكاءها ، ليتفاجئ بوجهها الذي غرقته الدموع وهي تقف أمامه وقبضتيها تدق صدره بعجز وهي تقول :
- حرام عليك ... حرام إلي بتسويه فيني ... انا شو طالبة منك ؟؟ انا بس بدي تحبني .. بس بدي تحسسني إني ما خسرت الدنيا وما فيها ، بس بدي أشعر إنو إلي زوج يحبني وبحبه ، متل ما إنت صبرت سنة ونص أنا كمان سنة ونص و أنا تعيسة .. ومو عارفة شو بدي ، ومو عارفة أحارب هالزواج إلي انغصبت عليه ولا أحارب مشاعري إلي أصلاً ما سمحت لنفسي أفكر فيها ، ولا أحارب عن شخصيتي إلي الكل طمسلي إياها .. إنت ليش مستكتر تمنحيني حبك وإحترامك .. إلي سبق وأعطيتني إياهم في الوقت الغلط .. هلأ لما أنا مستعدة أكون الزوجة إلي بدك إياها .. والأم إلي بتربي أطفالك صرت مش قادر تتطلع جهتي حتى ؟؟ صرت أكتر شي ممكن تعمله إنك تحتضني بالعتمة وتمارس " حقوقك الزوجية " هاد هو الزواج إلي بدي أحارب عشانه وأعيش فيه لباقي سنين عمري ؟
انهارت أكثر في البكاء وهي تشعر بضبابية مستقبلها الذي ظنت من قبل أن بيدها مفتاح الحل ، لكن صدقاً بعدما استنفذت قواها معه ما عادت تعرف إلى أين تسير بها الحياة ، كان هو يتأملها ودموعها الغزيرة حاكت دموعاً مشابهة في قلبه .. لا لم تكن دموع .. بل كان قلبه يبكي دماً ، كانت قبضتيها مستقرتان على صدره وهي ترخي رأسها عليهما تبكي بحرقة ، في الوقت الذي يقف هو كإنسان آلي خالي من جميع معالم الحياة وقد أخفض رأسه يتأملها وسكاكين الألم تنغرز بين جنباته بعنف أزهق قواه ، ومع ذلك لم يحرك ساكناً .. نعم هو يعرف بحاجتها لحبه .. ونعم هو أيضاً يحتاج هذا الحب .. لكنه يبحث عنه مطولاً في قلبه ولا يجده .. هو يحبها لكنه لم يعد مستعداً لمنحها شيء من حبه .. ما طال انتظاره لحدوثه .. عندما حدث .. فقد أهميته بالنسبة له !!
أنت تقرأ
سلسلة النشامى /الجزء الأول / جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة
Romanceالحقوق محفوظة لـ الكاتبة المتألقة لولا سويتي