الفصل الواحد والعشرون

17.2K 340 6
                                    


اتجهت أنظار هاشم نحو يارا بعد كلمات والده المدمرة ، تحركت شفتاه بالكلام :
- يارا ... يارا .. إنت ...
كان في نيته أن يتأكد من تأثير القنبلة الناسفة التي سمعتها قبل لحظات ، أراد أن يطمئنها ، ليجدها تترنح في وقفتها وهي تتمايل قليلاً ، قطع كلماته ليقترب منها على عجالى بينما والدته تقول وهي تضع يديها على وجنتيها بخوف واضطراب وعيناها مسلطة على يارا بوجهها الذي انسحب اللون منه فجأة وكأن قلبها ما عاد قادراً على ضخ الدم إليه :
- هاشم شو مالها ؟؟!!
اقترب هاشم منها وهو ينادي مجدداً باسمها علها تلتفت إليه فتشعره بأنها مازالت واعية وتدرك ما يحدث حولها :
- يارا .. يارا .. إنت دايخة ؟؟!!
أمسك بها في اللحظة الأخيرة التي كان ترنحها فيها قد بلغ أوجه ، ليلتقط تمايلها ويرفعها بين ذراعيه وهو يشعر وكأنه يحمل جثتها التي كانت تنبض حياة قبيل ساعات بين ذراعيه ، شعر بقلبه بتفتت وهو يدرك ثقلها بين ذراعيه كما لو أن الحياة تفارق جسدها ، كالمغيب عن الوعي وضعها على السرير بجوار جدته التي كانت تبكي بسخاء وهي تهمس بكلمات غير مفهومة ، على الأقل ليس بالنسبة له ، بينما فيصل كان يراقب الحدث بصدمة وهو يشعر كأنه قتلها ، كلمات والدته صفعته وهي تقول :
- دبحتوها لهالبنت .. دبحتوها وإنتوا مش لاقيين غيرها تتشاطروا عليه ، روحوا لل ... راس الحية إلي خلصت عليكم وخربت كل مخططاتكم .. هيك يا فيصل .. الحل بطلاق يارا .. هادا هو الحل ؟؟!!
هاشم كان يبعد الشال عن رأسها ويفك كبسات العباءة من حول عنقها بينما جاءت له والدته بعطر قوي ، رش قليلاً منه على أنامله قبل أن يمررها أسفل أنفها ، لتسعل وهي تتنشق الرائحة القوية ، حاولت أن تجلس لكن عيني هاشم قابلتها وهو يقول لها والألم يسكن نظراته :
- خليك شوي على بين ما يرجع الدم لراسك ..
تأملته مطولاً وكأنها لا تعي ما يقول لتتبدل ملامح وجهها فجأة وقد هاجمتها الكلمات بلا رحمة ، تسابقت العبرات إلى عينيها وهي تسأله بلهفة :
- بدك تطلقني يا هاشم ؟!
قبضت يده على يدها بقوة شديدة وهو يرفعها غلى شفتيه ويقبلها بشغف جمع فيه كل حبه لها ويهمس :
- لو كان آخر يوم بعمري ما بطلقك !
ارتفعت نظراتها تلقائياً تبحث عن رأي صاحب الفكرة بالموضوع ، لترى عيني فيصل وقد كسحهما الندم بينما يقول لها :
- سامحيني يا يارا .. والله مش إنت المقصودة من كل الموضوع ... بس الله يلعن الشيطان الواحد من حلاوة الروح مو عارف شو يعمل !
تنقلت نظراتها بين الجميع من الجدة إلى نسرين إلى فيصل مرة أخرى لتحط أخيراً على هاشم ، هناك مشكلة ما أمراً جللاً سيحدث وسيؤثر على علاقتها على هاشم ، همست بضعف وغمامة من الدموع تغشى عينيها
- إيش في يا جماعة ؟!
أوشك هاشم أن يجيب ويده تداعب شعرها بحب شديد لكن فيصل قطع عليه الطريق عندما قال :
- لازم هاشم يروح لأميركا عند سوزان ويصلح أموره معها .. والأفضل إنو ما يكون إله أي علاقة فيك .. بس يبدو لي إنكم إنتو التنين متعلقين بهالزواج أكثر مما توقعت .. عشان هيك .. المطلوب هلأ إنفصال تام بينكم لو بدون طلاق .. ممنوع المكالمات ولا مسجات ولا الرسائل ولا عن طريق أي حدا .. ممنوع يصير أي تواصل بينكم .. أنا يا يارا كنت بدي الطلاق عشانك .. لإنو روحة هاشم لأميركا ما حد بعرف شو رح تكون نتائجها ، يمكن يضطر يمسك الشغل هناك ومايرجع هون أبداً ... كنت بدي أخلصك من علاقة ما في منها أمل .. عشانك .. لإنو زواج هاشم كله مشاكل ولليوم مو عارفين نحلها !
شعرت يارا كأن صاعقة ضربت رأسها ، التفتت نحو الجدة لتراها منحية بوجهها عن الجميع وهي تذرف دموعها بصمت وشموخ مازال يدهش يارا ، تأملتها يارا مطولا وشريط ذكرياتها منذ وطئت قدماها أرض القصر يعاد في دماغها ، التفتت إليها الجدة لما شعر بتدقيقها الحاد فيها ، ما إن تلاقت نظرات الجدة بنظراتها حتى أجهشت يارا ببكاء فظيع ، وهي تقول بصوت متقطع :
- الله يسامحك .. الله يسامحك ليش ورطتيني معاه !
كلماتها طعنت هاشم في صدره مباشرة ، تباعد قليلاً عنها وهو لا يفهم وجهة نظرها للأمر ، لتلتفت إليه وتصرخ في وجهه :
- وإنت ما دام بتموت بمرتك وبدك تروحلها على أميركا ترجعها نازل فيني وعود وكلام فاضي لييييش؟؟!
الصدمة التي ارتسمت على ملامح هاشم أشعرتها أنه لم يتوقع منها أن تشكك فيما كان بينهما ، لكنها لم تكن في مزاج يجعلها يقدّر ألمه هو أيضاً ، كان كل تفكيرها أنها فعلياً كالمعلقة .. فلا هي متزوجة ولا غير متزوجة ، تماسكت فجأة وهي توقف نحيبها الصامت كي ترفع رأسها نحوه وتقول :
- فعلاً أبوك معه حق .. الطلاق أحسن حل إلي .. أنا زهقت هالبهدلة .. طلقني يا هاشم !
اتسعت عيناه كما لو كانتا ستخرجان من محجريهما ، وقد اشتعلت النيران في العينين الذهبيتين وهو ينظر إليها بعدم فهم وكأنه لا يستطيع أن يتصور الطريقة التي فكرت بها كي تخرج بهذا القرار ، وقف فجأة وكأن حيّة لسعته ، وعيناه لم تفارق عينيها وقد نسي كل منهما وجود كل من في الغرفة سواهما ، تبادلا النظرات لوقت طويل هو يرجوها أن تفهمه وتقدر موقفه ، بينما هي تبثه صدمتها وحزنها وانكسارها وهوانها بلا كلمات ، غلفتهما تعاسة أليمة وهما يدركان عظم ما يمران به ، التفت عنها كي يخرج من الغرفة وهو يقول :
- طلاق مش مطلق يا يارا .. لو كان آخر يوم بعمري .. ما إلك فكة مني إلا إني أموت .. فإذا حابة تخلصي مني لهالدرجة إدعي توقع الطيارة فيني اليوم !
وبنظرة أخيرة كستها ظلمة لا قرار لها غادر الغرفة ، كانت همهمات الجدة ونسرين حولها بعد كلمات هاشم الأخيرة وكأنها قادمة من عالم آخر ، لم تسمع شيئاً ولا ترى شيئاً مجرد حالة من الصمت يلفها وحواسها وعقلها بأجمعها .. بلادة غريبة تلك التي حطت عليها ، لتفكر فجأة وما الحل الآن ، التفتت فجأة إلى فيصل الذي كان يتأملها بدوره ، لم تهتم لنظراته وقالت :
- يعني شو أنا موقفي هلأ مش فاهمة ؟؟ أنا شو ؟؟!! ممرضة ولا زوجة ، ولا خدامة ولا من ما ملكت يمينه لهاشم ، ولا صرت عبدة هالعيلة وبستنى حد يعتقني منكم !
شد فيصل على شفتيه وهو يتفهم حالة يارا تماماً ويقول لها بهدوء :
- ما عاش إلي بده يقلل قيمتك ولا بده يحكي عنك كلمة هيك ولا هيك .. إنت من أحسن الناس إلي بشرفني إني عرفتهم بحياتي ، والله ما شفنا منك إلا كل خير واحترام .. وبنحطك على راسنا و شو مابدك بنعملك .. بس طلبي الوحيد إنك ما تتواصلي مع هاشم بأي طريقة في الفترة الجاية ..
لم يكد فيصل يكمل كلماته حتى قاطعته الجدة وهي تلتفت إلى يارا كي تضمها إلى صدرها وهي تقول بصوت مهتز :
- خلص بكفي فهمنا .. لسا بتقول تحكيش وتعمليش هي إلها نفس في ابنك بعد إلي عملتوووه ؟؟!!
ما إن شعرت يارا بيدي الجدة حولها وبرأسها يرتاح على كتفها حتى انفجرت بالبكاء بطريقة هستيرية ، صوتها كان يحمل نشيجاً وشهيقاً اختنق له فيصل ونفرت بسببه دموع نسرين بغزارة!
استغرقت يارا في أفكارها والدوامات التي كان يسير بها عقلها وهي تبكي بحرقة طفلة صغيرة سرقوا منها والديها واغتالوا طفولتها : معقوول .. معقوول يا هاشم .. هاد آخرة ما بينا ؟؟ معقول آخرتنا الفراق ؟؟ ليش .. ليش يا هاشم ؟؟ كيف هنت عليك .. كيف ضيعتلي عمري كله بلمحة عين .. كيف بدي أعيش بدونك .. ومن غيرك أكمل حياتي .. حراام .. حراام عليك !
اتجهت يدها تلقائياً إلى المفتاح الذي في مخبأها .. لامست يدها الفولاذ البارد وهي تفكر .. هل كان يعلم بما سيجري ؟؟ هل خطط لذلك كله ؟؟ اعتصرت المفتاح بكفها غير عابئة بفرزاته البارزة وهي تنغرز في بشرتها الناعمة بقوة آلمتها ، كانت تشعر برغبة في الاحساس بالألم الجسدي ، عله خفف قليلاً عن ألمها النفسي !
ابتعدت قليلاً عن صدر الجدة وهي تحاول أن تمسح دموعها وتقول بصوت مرتجف دون أن تسمح لنظراتها بأن تحط على أي منهم :
- بدي أطلع من هون ؟؟ مستحيل أبقى بهالمكان دقيقة وحدة ...
مسدت الجدة على شعرها بحنان وهي تقول لها :
- هو حد بقيلو نفس بهالقعدة ؟؟ لازم كلنا نرجع عالقصر !
شدت يارا على شفتيها بقوة كي تمنع اتجافهما بينما تطبق جفنيها باستسلام أكبر لدموعها ، تنحنحت كي تجلي حنجرتها وهي تقول مجدداً :
- أعذريني يا جدة .. أنا بدي أطلع في التو واللحظة .. هلأ .. وبدي ألم أغراضي من القصر قبل ما حد ينتبه وأرجع لحياتي القديمة .. خلص بكفيني ضحك على حالي ..
ارتفعت يد الجدة إلى صدرها وهي تشهق بقولها :
- تتركي القصر ؟؟ وين بدك تروحي ؟؟!! إنت بعدك مرت هاشم و قعدتك بالقصر بتكون غصباً عن عين الكل !
ارتفعت عينا الجدة نحو فيصل وهي تقول كلمتها الأخيرة ، لتفاجأه بقصدها الذي هو لم يكن يفكر به أصلاً ، كان على وشك أن يرد على والدته لكن يارا سبقته تقول برجاء فيه استسلام :
- بترجاك يا جدة .. لا تعيدي علي هاد الكلام إلي ماكانت نتيجته إلا إنو هاشم استباحني وكأني مجرد قطعة أثاث مكانها ببيته .. مرته ولا مش مرته .. كرامتي ما بتسمحلي أقعد بمكاني مستنية متى بدو يتذكرني ويحن علي بكلمة، ولا متى بدو ينسمحلي أحكي معه ولا أسأل عنه !
و دون كلمة أخرى غادرت الغرفة وهي تشعر بما تراه وكأنه خيالات تتراقص أمامها من شدة إرهاقها ، تسللت إلى الغرفة حيث الفتاتين نائمتين ، لملمت حاجياتها القليلة وبدلت ملابسها كي تتمكن من المشي بحرية دون أن تخشى أن يظهر جزء من جسدها بسب منامتها القصيرة التي تحت العباءة ، هبطت الدرجات لتجد فيصل بانتظارها ليبادرها بالقول :
- يارا .. لا تزعلي مني يا عمي .. والله ما بهون علي أكون كسرت بخاطرك .. في ظروف ما حد بكل الدنيا بيعرفها غيري أنا وهاشم .. ما بقدر أحكي لحد عنها بهالوقت .. لازم نتجاوزها بسلام عشان هاشم يقدر يكمل حياته بأريحية بعد هيك ... هاشم يا يارا بحبك .. و
أغمضت عينيها بقوة عند آخر جملة فقطعت سيل كلماته وهو يرى الدموع تنفر من بين جفنيها المطبقين بغزارة بائسة وضعت يدها على شفتيها تكتم شهقة وهي تهمس :
- ريته بعمره ما حبني واحترمني و عمل حسابي متل ما بعمل حساب سوزان !
تألم فيصل لألمها ، لكنه لم يعرف كيف يخفف عنها ، لتتفاجأ باحتضان جسد أنثوي يهتز باكياً معها ، ميزت من العطر أنها نسرين ، التي همست بقولها :
- والله ما عرفت شو يعني مرت ابن متل البنت إلا معك ، معقول بعد ما انسجمنا أكون مضطرة أرجع أتعامل مع ... سـ.. و ..
قطعت كلماتها وهي تشعر أنها لم تخفف عنها بل زادت الطين بلة ، ابتعدت قليلاً عن يارا وهمست قبالة وجهها :
- يارا .. هي الشفير برى بيستناك .. بتخليه يوصلك وين ما بدك .. وإذا بدك خليه حواليك ، ومتى ما بدك توصيلة إحكي معه أنا خبرته يجيلك ويعطيك الأولوية أول ما تتصلي فيه .. هاد أقل شي ممكن نعمله عشانك!
أومأت لها يارا برأسها وهي تنسحب قبل أن تنهار في البكاء أكثر .. لتتجه نحو السيارة وهي تفكر .. ما إن تغادر القصر حتى تكتب السلام عليه وعلى من فيه فهي لن تسمح لنفسها حتى أن تفكر بهم مجدداً !!
حاولت أن تكفكف دموعها مراراً أثناء الطريق ، لكنها كلما ظنت انها تماسكت أخيراً وستتوقف عن البكاء ، تمر إحدى ذكرياتها مع هاشم في خيالها ، محطمة الدرع الواهن الذي أحاطت به مشاعرها للحظات قليلة ، فتجهش في البكاء من جديد ، كانت تعرف انها أثارت ريبة السائق ، وهو يرى الشرفاء يبعدونها كالمتلصصة قبل استيقاظ أحد وهي تبكي كالمهووسة ، ويطالبونه بإيصالها أينما أرادت ، لم تهتم للصورة البائسة والمغلوطة التي ظهرت بها ، فما همها إن كان الجميع يعتقد أنهم أبعدوها إبعاداً عنهم أو أنها هي من قررت تركهم .. ما الفرق الذي سيشكله هذا الاعتقاد أمام حقيقة سفر هاشم إلى أجل غير معروف بعد ليلة قضتها في فراش الزوجية بين أحضانه وهو يغرقها بوعود تبيّن لها أنها سراباً ركضت خلفه في صحراء هاشم وهي تتخيله واحة أشبه بالجنة لتكتشف أن لاشيء .. لاشيء أبداً بانتظارها !

سلسلة النشامى /الجزء الأول /  جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن