الفصل الحادي عشر

20.5K 405 12
                                    

خرج من غرفتها وقلبه مقبوض من الألم إلى متى سيستمر على هذه الحال ، تعلقه بيارا يتحول إلى جنون لا يعجبه لأنه يؤذيها دائماً في الوقت الذي يريد أن يحتويها فيه ، يحتاجها في حياته لأنها البسمة التي تنير ظلمات يومه ، كيف ينتهي به الأمر دائماً بإيلامها و إهانتها؟؟ مشاعره تجاهها تشعره بالذنب تجاه سوزان ولذلك يتساهل معها رغم أخطائها ، ما يحسه نحو يارا أثناء حديث ودي لا تغلب عليه المشاعر يفوق إحساسه بسوزان في ليال زواجهما الأولى ، وهذا ما يجعله يتعامل مع الأخيرة بتأثير عقدة الشعور بالذنب ، لا يشعر نحوها بأي طريقة قد تسمى عاطفية أو رومانسية ، مجرد احساس بالمسؤولية لأنه كان السبب في حضورها إلى الأردن بمسمى زوجة بينما هو لا يجد في قلبه أي مشاعر زوجية لها ! أعمال والدها الجديدة مع والده كبّلته أكثر ، فالعائلتان تعتقدان أن زواج هاشم و سوزان سيثمر قريباً عن أطفال تزيد أواصر العلاقة بينهما وتجعل ميراث العمل ينتقل إلى حفيدهما المشترك ، رغم تحفظ فيصل في البداية على هذا الارتباط على الصعيدين العملي والاجتماعي إلا أنه كعادته اضطر أن يسير مع التيار بعد زواج هاشم من سوزان!
هبط إلى الدور الأسفل و هو يشعر بدماغه سينفجر ، ما العمل الآن ؟ كيف سيعتذر ليارا عما بدر منه تجاهها ؟ لماذا ينفلت لسانه من عقاله كلما غضب قليلاً منها؟ لماذا هذا الهيجان الذي يكتنفه كلما تعلق الأمر بها سواء كان سلباً أو إيجاباً؟! وضع أنامله على جبينه وهو يلاحظ أن الصمت كان يلف المنزل ، الخدم لايظهر لهم أثر بعد الزوبعة التي حدثت ، الجدة في غرفتها ترغي و تزبد عليه وعلى زوجته وعلى انفعالاته الظالمة ، أما سوزان فلا بد أنها ترقص فرحاً في غرفتهما ، كيف لا وقد رأته بأم عينها يقبض على شعر يارا ويشده بقوة ..
سحب نفساً طويلاً وهو يتذكر الرائحة الزكية التي كانت تفوح من شعرها الذي كانت خصله تداعب أنامله المستبدة فيه ، رفع يده التي شدت شعرها إلى وجهه وكأنه يبحث عن خصل كستنائية ذات رائحة تذهب بعقله! يا الله كيف فعل بها ما فعل ؟؟ كيف عاملها بهذه القسوة كيف ؟؟ مشاعره نحوها تتحرك في داخله كالطوفان ، طوفان غاضب أعمى البصر والبصيرة لا يحركه سوى شيء واحد فقط ...
شعر بقلبه يهدر وهو على وشك الاعتراف بشيء خطير ، يا الله لم يمض على زواجه سوى سنة واحدة ، ولم يمض على وجود يارا في عمّان سوى أسبوعين وهاهو يصاب بلوثة عقلية كلما تعلق الأمر بها ، إنّه ... رحماك ربي .. أنا ... أحب ....يارا
رفع يده الأخرى إلى وجهه كي تتسلل أنامله بعدها متخللة شعره وهو يخاطب نفسه :
( مو بس بحبها .. إلا مجنون فيها .. كيف ما كنتش عارف ؟؟ إذا مجرد اسم ناصر على لسانها بكون رح يجلطني)
وقف كمن اكتشف أمراً جللاً ، كانت كل جوارحه تصرخ به كي يصعد إليها ويحتضنها بقوة غامراً جسدها اللّيِّن بجسده المتصلب شوقاً لها ، لكنها لن تقبل ، يارا بعنفوانها وكبريائها الجريحة سترى في هذه المشاعر استخفافاً بها وامتهاناً جديداً لكرامتها ، ماذا يفعل ؟؟!! كيف سيحتمل أمر حبه لها بعدما اعترف بذلك لنفسه ؟! كيف سيحتمل أن تكون زوجته التي يذوب عشقاً وحباً بها تقف أمامه في أبهى حلة ولا يجرؤ على الاقتراب منها أو حتى النظر إليها بما يعتمل في صدره من رغبات مجنونة بها .. كيف سيخفي هذا الحب عنها وعن جدته ، كيف سيخفيه عن سوزان ؟!
مجرد مرور صورة زوجته في دماغه أخمد نيران الحب المتوهجة في صدره ، وهو يتجه بإصرار نحو المطبخ حيث تكون الخادمات وطلب من رئيسة الخدم أن تنادي السائق ( أبو محمد ) وتأتي معه إلى مكتبه!
في المكتب كان هاشم يجلس ومرفقاه مستندان على سطح المكتب فيم يستند رأسه على كفيه المرفوعين بإجهاد شديد ، مضى على خروج السائق والخادمة قرابة خمسة عشرة دقيقة وما زال يشعر بانهزام كامل في معنوياته ، كلام يارا صحيح خرجت سوزان بملابس سباحة وعادت بهذه الحلة المحترمة التي لا تليق بها ، والأدهى من ذلك أنها بكل وقاحة أعطت للخادمة حقيبة السباحة الخاصة بها كي تغسل لها ثيابها دون أن تخشى علم هاشم بالأمر، لم تعتقد أن الخادمة ستعترف بعدما هددتها بطردها ، لكن نظرة صارمة واحدة من هاشم وهو يقول للخادمة أنه وحده من يوظف أو يطرد في هذا المنزل جعلت الخادمة تخبره بكل شيء حتى بالحلة التي كانت قد سبق وحضرتها بنفسها لسوزان وغلفتها بكيس شفاف طويل قبل خروجها و وضعتها لها في سيارة صديقتها !
لم يكن قادراً على الإحساس بشيء حوله ، بدا ما يحدث له وكأنه قصة خيالية ، كيف صدّق سوزان ؟! ربما لأنه اكتشف أن يارا على علم بخروجها ولم تقل له ، كذبة يارا الصعيرة ساعدت بالتفاف الحقائق حولها ..
وضع يديه على سطح المكتب كي يرفع جسده المتهالك ، وبغضب استبد به من أحداث هذا اليوم منذ الصباح حتى الآن اتجه إلى غرفته الزوجية وهو يقسم أن يلقن سوزان درساً لن تنساه !
دخل الغرفة ليجدها في السرير وقد وضعت قناعاً أخضراً على وجهها ، ما جعلها تبدو كالمومياء ، وقف أمامها بهدوء وسألها ببساطة :
-رحت اليوم على المسبح ؟!
نظرت إليه بوجهها المخضر وقالت له بصوتها الغريب الذي بدا له نشازا :
-خلص عشان الست يارا حكتلك إني رحت على ...
قاطع كلماتها وهو يهدر بقوة عظيمة :
-جاوبي السؤال .. آه أو لأ !! رحتي على المسبح !
صمتت للحظة وقد خمن أنه أدهشها ، لتشيح بوجهها وهي تبرم شفتيها بوقاحة وتقول بثقة :
-لأ رحت عند صاحبتي بالمستشفى !
أمسكت هاتفها النقال وهي تضيف بوقاحة :
-بتحب أرنلك عليها عشان تسألها إذا رحت عندها ولا لأ !
أغمض هاشم عينيه وهو يسأل الله أن يلهمه الصبر ، لأنه إن خرج غضبه عن عقاله مع سوزان فلا يوجد قوة على سطح كوكب الأرض يمكنها أن تخفف من غضبه أو توقف ما قد يفعله بها ، فلا مشاعر تثخن قلبه ولا احترام يوقفه عند حده ، هي لا شيء بالنسبة له .. لذلك يحاول جهده أن يتقي الله بها ، قال ببطء :
-حطي التلفون من إيدك ، عارف إنك رحت لصاحبتك على المستشفى بس السؤال رحت قبليها على المسبح ولا لأ ؟!
لمح عينيها تتسعان للحظة قبل أن تسدل أهدابها بلؤم وهي تجيب :
-لأ ما رحت !
في تلك اللحظة انفجر بركان غضب هاشم بطريقة لم يعرفها يوماً ، إنها تكذب عليه بكل دم بارد ، قبض على ذراعها وهو يشدها بجنون ويصرخ في وجهها :
-ولك كذابة وقليلة حيا وقليلة أدب كمان ، وحدة ما تربت ولا بدها تتربى ، ما بتعرفي من مجتمع الشرفاء غير صرف المصاري والاستغلال والسهرات ..
حاولت أن تدفعه بعض الشيء وقد دب الخوف في أطرافها وهي تقول بصوت مرتجف :
-هاشم شو مالك ؟!
هزها بقوة رهيبة لدرجة لم يعد يرى فيها ملامح وجهها ، ولم يظهر له سوى اللون الأخضر وهو يتحرك جيئة وذهاباً بين ذراعيه :
-ولك الصبح تخانقنا وكنتي رح تاكلي كف ينسيك اسمك علشان ما تطلعي بدون إذن وما تروحي على مسابح الفنادق المختلطة يا ....
أوقف الكلمة البذيئة التي كانت على وشك الخروج من بين شفتيه قبل أن يجرها وراءه وهو يقول :
-أنا بورجيك شو رح أعمل فيك عشان تتعلمي ما تكسري كلمتي .. ولك ما إلك كبير !
بدأت سوزان تشعر بعظم فعلتها ، كانت دموعها قد بدأت تنساب على وجهها ملطخة القناع الأخضر الذي لن يصلح ما أفسدته الشمس والهواء ومعصية الله ، همست له وهي ترجوه :
-هاشم منشان الله شو مالك ؟؟ خلينا نتفاهم بهدوء .. والله بوعدك أعمل إلي بدك إياه .. خلص ما عاد أطلع إلا بإذنك والله العظيم !
نظر إليها هاشم باشمئزاز وهو يقول :
-أي روحي .. أكذب منك الله ماخلق ، لما تطلقت قبل كم شهر حكيتيلي أكتر من هيك ولما رجعتك لعصمتي فكري إنك تربيتي... بس وين إنت مافي شي بربيك .. أسبوع إنعدلت وبعدين كله بح راح .. ورجعت حليمة لعادتها القديمة !
توجه نحو الباب كي يفتحه وهو ممسك بيدها ويجرها وراءه فيما كانت تقول برجاء :
-شو بدك تعمل فيني ؟؟ وين ماخدني ؟؟!
نظر إليها وقال بقرف :
-إلبسي روبك بدل ما حد يشوف قميص هالنوم إلي مش مخبي إشي منك ! مو ناقص غير تلبسي مايوه السباحة في البيت .. ترى مش غريبة عليكي إذا أدام الغرب بتلبسيه !
توجهت صاغرة نحو مشجب الملابس و ارتدت مئزرها ببطء و بيدين مرتجفتين وهي تفكر لماذا يجرها وراءه بهذه الطريقة ، لم تره يوماً متوحشاً لهذه الدرجة!
عاد يجرها خلفه بعد أن أحكمت ربط حزام المئزر حول خصرها قبل أن يتجه بها نحو غرفة الجدة كي يفتحه بهدوء وهو يمد رأسه ليتأكد إن كانت جدته نائمة أم لا ، لكنه وجدها تجلس في سريرها وفي يدها سبحة تذكر اسم ( الله ) عليها ، التقت نظراته بنظرات جدته لكنها عادت تخفض نظراتها عنه وهي تعيد تركيزها إلى ذكرها ، استياء جدته الواضح منه زاد من ضيقه وغضبه وقهره ، فتح الباب أكثر وهو يدفع سوزان المرتجفة إلى غرفة جدته قائلاً :
-جدة .. معلش بدي آخذ من وقتك شوي ، بس هاي البني آدمة لازم ألاقيلها حل ..
تأملته جدته للحظة وهي لا تعرف ما الذي يريد أن يفعله ، نظرة واحدة إلى سوزان - ذات الوجه المخضر والتي بدت كالأشباح وهي ترتجف وفي يدها منديلا ورقياً تحاول أن تمسح به القناع الأخضر عن وجهها- جعلتها تشفق عليها لأول مرة في حياتها ، لكنها تستحق ما يحدث لها فلقد عاثت في القصر فساداً لم يعرفه طوال سنوات أمجاده السابقة


سلسلة النشامى /الجزء الأول /  جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن